هندسة المباني وهندسة المعاني بقلم : محمد عدنان سالم 2010-07-

22 ولا تحقق الإنسانية ذاتها من دون الابتكار والإبداع وتوليد الأفكار سواء في هندسة المبنى أو في هندسة المعنى، والأفكار كائنات حية لا تتكاثر إلا بالتعدد والتنوع والتزاوج
********************
أن تلتفت الهندسة إلى الكتاب؛ تعرضه، تزينه ، تجتذب إليه قراءه، تقربه إليهم، تغريهم به؛ فإن ذلك يعني أن أمتنا قد أزمعت أن تضع أقدامها على درب النهوض والتحضر؛ فالقراءة أولاً.. تكاد لا ترى حضارة قائمة إلا والكتاب في أيدي أبنائها في حلهم وترحالهم؛ يمسِّكون به .. يعدّونه حاجة، يلوبون لها قبل لوبهم للرغيف، ومتنفساً يستنشقون منه عبير المعرفة التي هي أساس التقدم الإنساني.. وما إن تتراخَ أيديهم عن الكتاب حتى تؤذن شمس حضارتهم بالأفول؛ ملقية بهم في حلكة الظلام، لتشرق على أمة ذات سواعد شابة تتلقف الكتاب، تُمد شعلته بالوقود، لتبقي رايته خفاقة متألقة على الدوام ، مثل شعلة الأولمبياد.
وأن تضع نقابة المهندسين يدها في يد اتحاد الناشرين؛ يتعاونان معاً على إعلاء شأن الكتاب، وإذكاء روح الشغف بالقراءة؛ فإن ذلك يعني التواؤم والتلازم بين هندسة المباني وهندسة المعاني؛ المبنى هو الشكل، والمعنى هو المضمون، والهندسة في الحالين فعلٌ ينطوي على الحركة والنماء، تفقد الهندسة روحها وفاعليتها كلما تجمدت وتحجرت وكررت نفسها وأخلدت إلى الراحة والسكون.
ولا تحقق الإنسانية ذاتها من دون الابتكار والإبداع وتوليد الأفكار سواء في هندسة المبنى أو في هندسة المعنى، والأفكار كائنات حية لا تتكاثر إلا بالتعدد والتنوع والتزاوج، وبارقة الحقيقة لا تنقدح إلا باحتكاك الأفكار وتصادمها، والفكر الأحادي عقيم لا ينجب، والآخر ضرورة للنمو بالتحاور والتنافس لتقديم الأفضل.. فلنبتكر في التصميم والبناء، ولنبتكر في الفكر والعلم والاكتشاف ، ولنتجنب الجمود والتقليد والاجترار ، لكي نؤدي الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان. فاستحق بحملها تكريم الخالق وتسخير الكون له ليحسن استثماره، ويكون خليفة له فيه.
منذ أن أُهبط الإنسان إلى الأرض لم يكن فيها شيئاً مذكوراً تقلَّب في عصور متتالية، من الصيد فالرعي فالزراعة.. وها هو ذا الآن يجتاز بسرعة مذهلة عصر الصناعة إلى عصر المعرفة في تحول هو الأخطر في حياته كلها؛ لما ينطوي عليه من تبدل جذري في المفاهيم والأهداف والوسائل والعادات ومراكز القوى؛ تسقط فيه سائر الوصايات والاحتكارات، وتتساوى فيه جميع الأمم لتقف على عتبة سباق واحدة؛ يفوز فيها من كان أكثر إعمالاً لعقله. والعقل هبة الله للإنسان؛ موزع بين الأمم بالتساوي، ليست أمة أربى فيه من أمة.
والكتاب هو الوعاء الذي يختزن ثمرات العقول ويراكمها، ما زال ينمي قدرته على الاستيعاب ليواكب نمو المعلومات التي ينتجها الفكر الإنساني ينتقل بها من الرمز والإشارة والحركة والنقش على الحجر والكتابة على الطين والجلود وسعف النخيل، إلى الكتابة على البردي فالطباعة على الورق منذ أن ابتكره الإنسان، وهاهو ذا يتحول إلى الشاشات والشابكات ليكتب عليها ملايين الصفحات بأحرف من نور؛ توفر على البيئة ملايين الأشجار وتجنبها التلوث بآلاف الأطنان من الأحبار والكيماويات، وتفجر المعلومات بين يدي الإنسانية كالبركان، وتسيلها هادرة كسيل العرم، يجرف معه كل من لا يتقن السباحة فيه.
ويستمر الكتاب في عطائه ليتحول إلى طاقة تبعث من القوة فوق ما تبعثه قنبلة الذرة، لأنه بالكلمة يشل فاعليتها، ويجعلها طاقة معطلة غير قابلة للاستخدام، تشكل عبئاً على أصحابها يتلمسون طريقاً للخلاص منه.
ويتلقى اتحاد الناشرين من شبان غزة وشاباتها نداءً عاجلاً، يطلبون فيه (كتاباً لكسر الحصار)، يعلنون فيه ظمأهم إلى الكتاب الذي توجهت إليه آلة إسرائيل الغاشمة أول ما توجهت في حربها على غزة، تروم نزعه من مكتبات جامعاتها ومدارسها ومكتباتها العامة، مثلما سبق لهولاكو أن سوَّد ماء دجلة بحبر مكتبات بغداد، واثقاً من أنها مبعث القوة الكامنة في ضمير الأمم.
يصرخ شبان غزة بأعلى أصواتهم: حاجتنا إلى غذاء العقول أكبر من حاجتنا إلى غذاء البطون. فهل من مغيث؟!
ينظر اتحاد الناشرين إلى حفاوة نقابة المهندسين بالكتاب بكل إجلال وإكبار، ويمد يده إلى كل غيور على ثقافة أمته التي ما زالت تقارير التنمية البشرية تضعها في أسفل السلم القرائي في العالم، للعمل على إعادتها لتتبوأ مكانها في أعلى درجات السلم القرائي.
فهي أمة )اقرأ(، ونداء )اقرأ( ما زال مستقراً في ضميرها؛ قوةً كامنة قابلة للتفجر، عند أول شرارة تشعل بها فتيل الفعالية لتحررها من عطالتها المزمنة.