6
عزفت الفرقة أغنية أم كلثوم ( أراك عصي الدمع)، تمايل الجميع معها، طلب المحفوظ أن يغيروا العزف إلى أغنية راقصة. وبأمر المحفوظ رقصت النساء، وشُـدّت الأوساط، زحفت السجاجيد مع الأقدام الراقصة، أُزيحت الطاولة الوسطية الكبيرة جانباً، وتناغموا مع حركات جسد الشقراء الراقصة وموسيقاها.
أما الصحفي فقد اغتنم الفرصة وجلس قرب سمرائه، حيّاها، ورأى العالم كله في عينيها، نسى الكلمات، نسى الحضور، إلا حضورها ورائحتها. سألها:
- ما اسمك؟
ـ لا اسم لي.
ـ أهذا معقول؟
ـ الذي جاء بي إلى الدنيا لم يعطني اسماً.
ـ الحق على والديك.
ـ ليس لي أم ولا أب.
ـ عفواً لم أقصد إيذاءك، أنت يتيمة؟
ـ لا، لست يتيمة، كما إنني لست ابنة زوج وزوجة.
ـ من أنت؟ جنيّة،. (وضحك)
ـ بل أنا من ألوان.
ـ هل أعتبر كلامك مزاحاً؟
ـ بل جد. بصفتك صاحب قلم، هل سمعت عن فنان اسمه وليد سالم؟
ـ أظنني سمعت به، كم عمره؟
ـ في الثالثة والخمسين، هل تعرفه جيداً؟
ـ لا.. لماذا لم يحضر معك؟
ـ إنه يرفض الخضوع، إنه فنان عظيم لكنه يقولب نفسه بأفكاره ويحاصر فنه ويحاصرني معه. الفن انطلاق، تعارف. كيف تكتب عنه الصحافة، وهو لا يزال يجهل نفسه؟
ـ معك حق. لكن هل أنت إحدى موديلاته؟. ثم من المؤكد أنه لم يصل الى قناعة تامة بفنه، ويخشى النقد. أو ربما هو قبيح ومعقد بسبب قبحه، أعرف شاعراً قبيحاً يكره من هو أجمل منه وأشعَرُ منه فيحاربه.
ـ صحيح هو لا يملك غير رقم واحد؛ بنطلون واحد وقميص واحد ومعطف واحد، لكن سيد محمود الفنان لا يُقاس بشكله أو حسبه ونسبه بل بتجربته وبما يقدمه من إبداع.
(تولستوي) ترعرع بين الفساد وكان سكّيراً، لكنه أكبر روائي في عصره. و(بلزاك) برجوازي، أما أعماله فيقرؤها الفقراء والأغنياء. الإبداع أكبر من الطبقات الاجتماعية، إنه يخاطب وجدان الإنسان.
ـ يبدو أن ثقافتك عالية؟
ـ بل محدودة. تلقيت ثقافتي من وليد، كلما يُسقط عليَ لوناً اكتسبت منه معلومة ، لأنه يرسم بيده ولسانه وقلبه.
ـ والعقل؟
- إذا دخل العقل ساعة الخلق ما عاد إبداعاً.
أشار الرجل الثري لصابر أن اقترب، ووشوشه، فردّ صابر:
على الرحب والسعة، لكنها يا سيدي عصيّة.
رفع الثري حاجبه وبدا عليه السرور:
ـ بيدي مفتاحها، كن مطمئناً.
اعتراها شك مما سمعت، وزحف الدم إلى خديها، رغم ذلك بدت كمدينة محصّنة. نظرة (المحفوظ ) تلتهمها، فتشغل نفسها بمحادثة محمود. هو يسألها عن نفسها، وهي تجيبه عن وليد. تفاجأ لقولها :
- لم يسدّد فاتورة الماء، فالألوان تستهلك نقوده كلها.
تهالكت الشقراء من الرقص، ورمت بنفسها على الأريكة لاهثة. صفق لها الجميع، فقد ابتلّ جسدها بعَرق الرقص والتهمتها العيون بالشبق حتى أثارت غيرة النساء الباقيات. بعضهن كنّ زوجات، وبعضهن عشيقات، والأخريات بديلات لمغامرة فاشلة.
المحفوظ يومئ لخادمته ، فتنحني احتراما وتلبية لأوامره ، يهمس بإذنها فتجيب بانحناءة: أمرك سيّدي...لكنه يشارك اثنين يتحدثان عن الحب:
- إنّ الحب كارثة تؤذي قلب صاحبها فقط.
ثم يقترب من يقترب من السمراء هامساً :
- قوامك جميل يا سيدتي، وثوبك أيضاً.
- شكراً، الجمال جمال الروح والأخلاق.
- شعر بفسحة الأمل، اقترب منها محاولاً الالتصاق بها؛ لكن الصحفي يسبقه بتقديم بطاقته :
- تفضلي هنا رقم هاتفي وسأكون ممتناً لو سمحت أن أدعوك إلى أي مكان ترغبين ، هذا بعد إذن المحفوظ .
استدرك خطأه واعتذر من المحفوظ ، لكنه أشار إليه مطمئناً :
- خذ راحتك أنت في دارك .
اخترق تطفلهما صدغيها وضمت يديها إلى صدرها كمن يضم ما يخصه من أشياء ، شعرت ساعتها أنها الوحيدة المنسجمة مع ذاتها ورغبت مواصلة الحديث مع محمود :
ـ أتسمح لي بسؤال؟.
ـ تفضلي، أنا كلّي لك فاتنتي.
ـ ما الذي قادكَ إلى هذا الوكر؟
تلعثم وهو يحاول أن يتفادى عينها :
ـ طويل العمر بحاجة لمن يكتب عنه، وقد رغب أن أكتب سيرته الذاتية.
رأت أن لحظة الصمت أبلغ، فارتأت أن تصمت. تناولت حبتين من الفستق، قشرتهما وقدمتهما له:
- هل تحترم الكاتب الذي كتب روايات صدام حسين؟
هز كتفيه وزمّ شفتيه:
ـ هل لديك خبرة في كرة القدم؟ الأقدام تركل والكرة تسجل الهدف، في ملاعبنا عدد كبير من الكرات والتبعية للركل.
ـ إنه اعتداء على الأدب أليس ذلك يا سيدي ؟
استغرق يفكر، ما الذي ستقوله عنه وماذا يفعل للحياة ومتطلباتها؟. التفت يمنة فجاء وجهه بوجه امرأة قبيحة، وقال دون تردد:
- أعوذ بالله من شرّ ما خلق.
هرب منها إلى وجه السمراء من جديد، كان يستعذب نظرة عينيها، فبادرته:
ـ قل ما تريد، أحس أنك بحاجة للكلام.
ـ هل قرأتِ شعراً، وأي نوع من الشعر تفضلين؟
ـ سمعت من وليد شعراً كثيراً، كما إني أفضل شعر العشق لأنه ينفلت من القلب، ثم كم مـرّة أحببتَ؟
ـ أوه.. كثيراً.
ـ وتسمّي التعدّد حباً؟ القلب لا يعشق إلا مرة واحدة، وأنت لم تعشق سوى امرأة واحدة وخانتك، أليس كذلك؟
ـ كيف عرفتِ؟
ـ لأنك تخونها مع الأخريات، تخون من تتربع في صدرك، و بالتالي أنت بلا حماية، رجل قاصر، قلبك مع واحدة وجسدك مع العشرات.
ـ المعذرة سيدتي، أظنك عاشقة حدّ النخاع، وأعتذر إذا كان سؤالي أزعجك.
ـ ليــس الحب عيباً لأداريه؛ الحب أكبر من الأرض والسماء، لذا يطير قلب العــاشق في اللا حــدود، باختصار هو ميلاد وموت.
كان الوقت يمضي مملاً بالنسبة لها، قرب صحفي متطفّل. تسارع وقع حبات المطر على زجاج النوافذ، دنت من الشباك لتسمع صوت المطر الذي تعشقه لعشق وليد له، كانت تستمع لخفقات قلبه كيف تتناغم وحبات المطر. وكان محمود يثني بين اللحظة واللحظة على جمالها، ويخبرها أن صورتها لم تفارقه منذ البارحة، وأنه يحس كطفل بين يديها، وبعد كل كلام يدور بينهما يذكرها برقم هاتفه. وساعة تجيبه بأنها ستحاول الاتصال به، يعود لسؤالها عن اسمها ومن أين جاءت وما هو عنوان أهلها؟
كانت تتابع حركات صابر وهو يفرك الكأس بين يديه ككلب حول وليمة. ومع استمرار الطرب والشرب ترنّح من ترنح، وعلت أصوات الضحكات والشهقات . وامتدت في الزحمة يد إحدى الحاضرات الى جيب أحد الضيوف المهمين عند صاحب الدار وسرقت محفظته؛ كانت السمراء تراقبها كيف زحفت مثل هرّة، ولكزت محموداً لكي ينتبه إلى ما تفعله اللصة.
لم يكن اهتمامه بحدوث السرقة كبيراً، فقال لها:
- كلهم سارقون، وكلهن يسرقن ويطلبن أجراً. هنّ يسرقن الألباب والقلوب والجيوب، وهم يسرقون الأجساد.
غاصت الأيادي في ثريد اللحم، صوت الملاعق والشوك والمصمصة تثير اشمئزازها ، كانت تدعو الله أن ينقذها من محنتها، وكلما شعرت بعيون محفوظ السلامة تطاردها، ودم الرغبة يفور على شفتيه المتهدلتين تقززت منه ورأتهم جميعا حيوانات بقرون .
- نعم حيوانات بأجساد بشر .