--------------------------------------------------------------------------------
2
- الله، الله.. أنت اليوم شقراء وحكيمة، فيلسوفة. شكراً أيها الجوع الذي صنعت من المومس فيلسوفة.
دفعت شعرها الأشقر الى ظهرها، باعدت بين الزرّين الذين تركهما وليد مفتوحين، استخرجت قلم روج من جيبها، أدارت وجهها إلى زجاج واجهة محل تقف قربه، وطلت شفتيها.
ـ من أين حصلتِ على قلم الروج؟
ـ كان على الطاولة في الصالة، تركه وليد منذ أن زاره فارس عبد الودود قبل شهر. اشتراه من (برتبللو) بثلاثة جنيهات، وتركه على الطاولة، أتدرين لماذا؟ ليثبت لزائريه وهم قـلـّة أنه غير عاجز جنسياً، وأن صاحبته نسيته عنده البارحة، لقد شاهدته عندما دخل عليه صديقه بعد أسبوع من زيارة فارس، دون سابق موعد. يا ربّي لقد نسيت اسمه هذا الأشرم، هل تذكرين سمعته يقول لوليد إن شفته شُرمت من التعذيب في السجون؟.
- إي، لا عليك، تذكرت، اسمه محسن.
ـ أكملي.
- تظاهر أمام محسن أنه اكتشف القلم صدفة، وأبدى ارتباكه، وخبأه في غرفة نومه، بينما تغافل محسن المسكين عن ارتباك صاحبه ودخل المطبخ ليعدّ الشاي لنفسه.
ـ لكن هل تكفينا هذه الورقة؟ إنها بعشرة باوندات فقط؟
ـ لنجرّب.
دخلتا مقهى في بداية الشارع بعد أن عبرتا الى الجهة الأخرى، فاحت رائحة الشاي الساخن والقهوة والمعجنات والسجائر. جلست السمراء الى إحدى الطاولات، بينما تقدمت الشقراء للشراء، فاختارت قطعتين من الكيك وكوبين من الشاي. ثم مدّت يدها لتستفسر عن الباقي. اعتذر البائع الذي تمايل كأنثى، ووضع يده على صدره قائلاً:
Sorry, the price of cheese cake is 2.50.
عادت لصاحبتها مبتسمة:
- خذي، لا نملك غير هاتين القطعتين. كلي على مهلك لتمتلئ معدتك، وتحتفظ بالأكل لمدة أطول.
على بعد من طاولتهما جلس رجل يلبس نظارة رمادية الإطار، يحتسي القهوة المضغوطة. لمحته يحدّق إليها طول الوقت، ويخصّها بنظرة جذابة بين الحين والآخر حين يرفع النظارة، وما إن تستقر عيناه على نهديها حتى يرتدي النظارة ثانية، وفي إحدى المرات غمزها بطرف عينه.
بعد أن انتهتا من وجبتهما، خرجتا لا تعرفان إلى أين أو في أي شارع هما. اهتزّت الشقراء في وقفتها، فترجرج النهدان، ومع أول استدارة لها سمعته يسألها:
- هل بإمكاني أن أقدّم خدمة؟ سأكون ممتناً لو قبلتما دعوتي.
قطعة الكيك لم تشبع الشقراء، فابتسمت برضا، لكزتها السمراء، لكن لم تطعها وأجابته على الفور:
- نحن بحاجة إلى خدمة، ومثلك قليل يا سيدي، عفواً.. ما اسم هذه المنطقة؟
- (ماربل آرج )، هلاّ تفضلتما الى سيارتي؟
أجابته الشقراء :
- هذا أفضل، وأين سيارتك؟
- تلك السوداء (وأشار إلى سيارة جميلة لامعة).
جلست الشقراء قرب الرجل، في الكرسي الأمامي، تركت السمراء تجلس في الخلف. أعجبتها السيارة من الداخل، مقاعد مخملية رمادية اللون، خدمات لا توصف، الحواشي مذهّبة.
ـ لا بدّ أنك رجل ثري.. (ثم استدركت)؛ لكنك كنت تجلس في مقهى متواضع.
فتحت المرآة التي أمامها، وجدت السمراء قد لمعت عيناها بالدموع، وبدتا كلؤلؤتين على ساحل الرمش الأسود الكثيف. نظر هو في المرآة الأمامية، وخاطب السمراء :
- تبدين جميلة بالدموع. ثم انصرف عنها بلباقة العارف شغله:- ما اسمك يا شقرائي الفاتنة؟
ـ لا أعرف.
ـ وما اسم صاحبتك؟
ـ لا نعرف.
ـ هـــم.. فهمت، لا تريدان الإفصاح عن هويتكما، هذا من حقكما. أما أنا فقد تعرّفت على أميرات حقيقيات وأمراء، لا يهم إن كان الاسم حقيقياً أم.
قاطعته السمراء وهي تمسح دموعها :
-أم ماذا؟ نحن لسنا أميرات، ولا نعرف اسماً لنا؛ وهذه حقيقة.
ابتسم، وانطلق بسيارته مسرعاً. ثم تباطأ وهو يتطلع إلى ساقي الشقراء، وهي تراقبه بدورها حين كان يمدّ يده ببطء نحوها، فرفعت فستانها بصورة تبدو عفوية، واضعة ساقاً على ساق. امتدت يده إلى المقعد الأمامي ولامست كتفها، وراح يلعب بخصلات شعرها، ويمرّر أصابعه على رقبتها. ولما توقفوا عند الإشارة الضوئية، طلب منهما قبول دعوته قائلاً :
- اليوم أحتفل بعيد ميلادي، وسأكون مسروراً لو قبلتما دعوتي.
- لمس وجه الشقراء، التي لم تخفِ فرحتها، ولم تطلب منه التوقف عن مداعبتها، بل راحت تظهر له الموافقة الفورية، وتغريه بمزيد من المداعبة.
واستدارت إلى صاحبتها، التي أشارت إليها بالرفض، ثم غمزت لها. لم تترك الشقراء مجالاً للرد، وقالت:
- نحن موافقتان، أين تقع شقتك؟
- نحن متجهون إليها، إنها في (نايتسبريدج)، وهي منطقة راقية جداً، فيها أرقى المحلات وأرقى الزبائن (وغمز الشقراء).. ها قد وصلنا.
ـ عذراً، ما اسمك ومن أي بلد أنت؟ سألته الشقراء بغنج ظاهر.
ـ أنا من بلاد الله، أليست البلاد العربية من بلاد الله؟
(وفتح باب السيارة) :
- تفضلا.
ـ تشرّفنا بمعرفتك، المهم أنك تفهم لغتنا.
قالت السمراء:
- لكنه لا يذكرني بوليد.
ـ من وليد؟
ـ لا عليك، إنه شخص ما.. هل أعجبك شعري الأشقر، لاحظت اهتمامك به؟
ـ بل جمالك كله أعجبني، أنت كنز يا..
أجابته:- لا اسم لي.
ضحك.. وقال؛ فهمت، معذرة، عفوكما.
رافقهما إلى مدخل البناية، صعدوا إلى الطابق الثالث، الشقة (203). أدخل مفتاحه في الباب، شمّت السمراء رائحة بخور منبعثة ودخلت مع الشقراء بهدوء. علـّق الرجل مفتاحه على الطرف الأيمن لمرآة في المدخل، وفي الجانب الآخر ظهرت مرآة أخرى بإطار من الفضة الخالصة.
صالة واسعة بأثاث فخم، سجاد عجمي، لوحات زيتية.
أخذت الشقراء حريتها في التجوال داخل الشقة، كما أعطت لنفسها الحق للتدقيق في محتوياتها، سواء المطبخ والصالة وغرف النوم الثلاث. جرّبت الجلوس على الأسرّة ذات الأغطية الجذابة والثمينة، دخلت الحمّامات، تفحّصت الصابون وزجاجات العطر المتنوعة، جربتها واحدة واحدة، رشّت على جسمها خلطة من تلك العطور. دخلت إحدى غرف النوم، قرأت اسم زجاجة عطر (خلطة عربية) وبين قوسين دهن عود، ، وعند الباب أشار إلى الشقراء:
ـ سأوفر كل ما تحبين.. (وبحث في وجه السمراء عن سؤال، وتابع):
- سأحضر بيكاسو إلى هنا إذا رغبت.
دخل غرفة ليست بعيدة عن الصالة.. اقتربت الشقراء من السمراء وسألت:
- ما بالك متجهمة؟ لقد حصلنا على من يرعانا، أكل وشرب ومكان للنوم، ماذا تريدين أكثر؟
ـ أريد وليداً.
- دعي وليدك، واستمتعي بما جئنا من أجله.
خرج الرجل يرتدي ملابس منزلية، دشداشة عربية واسعة ذات لون بيج وقماش من النوع الفاخر.
ـ ها.. ماذا تفضلن على الغداء، هل تحبان الأكل اللبناني أم الإيراني أم الهندي؟
أجابته الشقراء:
- نحبّ كل شيء، هات ما يعجبك أنتَ، وستجدنا نلتهم حتى أصابعك.
ـ أريدك أن تلتهمي شيئاً آخر.
- ثم راح يسرد طلباته عبر الهاتف:
- ثلاثة كباب، ثلاثة تبّولة، حمص، بابا غنّوج، زيتون ومخلّل، عرايس، وأكثِرْ من الخبز.
- أخذ حبتين من صحن الفستق الموضوع على إحدى الطاولات الزجاجية، قشرهما وقدّم واحدة للسمراء بيد، ووضع اليد الأخرى على زندها. ثم رجع إلى الوراء قليلاً حين نفرت منه، قائلاً :
- اهدئي ما قصدت شيئاً.. رغبت أن أسأل إن كانت هذه أول زيارة لكما في لندن.
مشت الشقراء باتجاهه، وضعت يدها على صدره، وداعبت شاربيه:
- دعك منها، أنا أجيبك. إنها زيارتنا الأولى والأخيرة، سنبقى اثنتي عشرة ليلة بأيامها عندك، ما رأيك؟
ـ هذا هو مطلبي (قفز فرحا)، اتفقنا إذاً.
ـ فهمتك؛ اتفقنا. نحن نفهم بعضنا، ألم تقل لي في السيارة أنك رجل سياسي؟
ـ نعم.
ـ وما دخل السياسة بالدعارة؟
ـ ليس في الموضوع أية دعارة، لماذا تسيئين الظن؟ نحن طليقان فقط، ثم ما من فارق بين السياسة والدعارة، من حيث أنهما لفكّ الأزمات.
عصرت شفتيه بإصبعيها المشدودين على شكل كماشة:
- هل تقصد أن المصلحة من كل أحزاب الخراب، قومية، بعثية، شيوعية، شعوبية، تطرف ديني وأخلاقي، هي تطرف سراويل؟
ـ يا حلوتي،،
(وشدّها من خصرها، بينما حاولت الالتصاق بجسده، وضغطت نهديها على صدره):
-حلبة المصارعة بين الثور والفارس سياسة أيضاً، ففي النهاية سيكون الثور هو المغلوب حسب الخطة، والملعب واللعبة معدّة لصرعه مسبقاً. والأحزاب التي ذكرتها مجرد جعجعة وصوت عال لنشر الدعارة علناً، فلماذا اختلطت عليك الأمور؟
- وهو يمدّ إصبعه بين نهديها الملتصقين به، شعرت بمدى أهميتها، فراحت تزيد من عيار دلالها لتطلب ما تشاء:
- الليلة حفلتك، ولا أعتقد أنك تقبل أن أستقبل ضيوفك بهذا الثوب يا.. سي..
- ـ ناديني صابر.. اسمي صابر، شو بدك تعرفي أكثر؟ أنا من لبنان.
- تشرفنا يا صابر، أنت إبليس بعينه. لذلك يا عزيزي إبليس أنا أحب الأبالسة.
- وأنت هل تحبين العري؟ سأل السمراء، فلم تجب.
- وتابعت الشقراء:
- شكلي حلو، وقوامي جميل، لمَ أخفِه؟ لمَاذا أخفي ما وهبني إياه وليد؟
- مين وليد؟ عم تذكروا في الرايحة والجاية وليد؟
- صانعنا.
- عندكم خادم اسمه وليد؟
- لا عليك، إبليسي العزيز. مقاسي14ومقاس صاحبتي 16 .
- على أمرك، إي و لك تقبريني.
- ومثلما طلب الغداء على التلفون، اتصل على طريقته وحدّد الشكل والمقاس للملابس. فشعرت أن الفرصة مواتية، وصاحت الشقراء :
- لا تنسَ الحلي أيضاً؛ خواتم وأساور، والعطور أكثِـرْ منها، أحبّ رش جسدي من إصبع قدمي حتى رأسي. (ثم تذكرت وليداً الذي يعيش على مساعدات الدولة) :
- طز فيك، وبمنطق حزبك وسياستك يا وليد.
(وهزت بنطلون صابر ترقّصه).
ـ شو عم تعملي؟
ـ أمنطق سروالك. (غيّرت مشيتها وصوتها، وأضافت قليلاً من بهارات الغنج ):
- الوسط والسروال يعصرك منطقه، سواء بضعفه وبجبروته، وفي كلا الحالين هو ممسحة.. ممسحة ضدك.
- لماذا الضد؟
- إنه مستثنى شاذ غير محتمل التصريف.
- أنت أستاذة لغة إذاً؟
- ورماها على الأريكة مازحاً؛ استسلمتْ لرميته، تطاير ثوبها حتى وصل سرّتها. لكنها قرّرت تأجيل إرواء نظراته النهمة لما بعد الغداء، ماءت بحزن:
- لا تنظر إليَ هكذا، نحن غرباء حتى عن ثيابنا.
- لا تحوليها إلى نكد، دخلك، أبوس يدك.
رنّ جرس الباب، فتحه مسرعاً، دخلت سيدة ترتدي بنطلونا بحمالتين وقميصا جميلا. وقّع لها صكاً، أخذته وخرجت معتذرة عن المقاطعة:
- بوسة لها الشنبات، باي..
- وقف الشقراء بكل ثقة أمام صاحبتها، وهمست في أذنها:
- كوني طبيعية واستمتعي بوقتك.
- مع هذا؟
- لكني أحبه.
- إنه لا يستحق حبك، أنت تحبينه وهو لا يشعر بعبادتك. (إي شنو قيمتها يا وردة؟)
ليته يعرف أنك تتحمّلينه وتتحمّلين إلغاءه لك بسبب حبك له.. (أنا ما أريد واحدة ترافقني بعذابها)
ـ أنت تتكلمين باللهجة العراقية.
ـ هذه اللغة اللي سمعتها، كما أني صرت أعرف أحكي لبناني.