5
تزاحمت الأفكار عليه، برز حائط السجن المحفور بأظافر قاطنيه، سمع طقطقة براميل النفط، شمّ رائحة دشداشة أبيه، سمع صوت عراك أمه وهي تتوسط الحوش، تصبّ الماء الساخن في طست وتدلق عليه الصابون وترطن:
- إي يمته يريحني ربى من الضيم، إيديـّه ورمت من غسل النفط).
تراءى له الموت الكامل والعظام الناتئة بعد سلخ الجلد وتهدّله، السلك الكهربائي حُني وأدخلوه عورته، طوّقه بالألم والعجز.
منذ أن وطأت قدماه أرض لندن لم يذق طعم النساء، رجعت إلى مخيلته صور الشبابيك المتسخة بفضلات الذباب، الكلاب الملتصق جلدها على عظمها ، الاستعطاء في الشوارع، ممرات ضيقة متعرّجة وراح يسأل نفسه بهدوء من يخاف الرقيب:
- هل نحتاج أربعاً وثلاثين سنة من الانتظار لتخلصنا أمريكا من حزب ظالم ومن طواغيته الزناة؟
على مقربة من محمود مشت راوية، ذكرت له أسماء ولحظات ومواعيد لم يذكرها أمام أحد، مكالماته الهاتفية، ثلـّة السكر والعربدة.
حبّه لفتاة لا يعرف عنها شيئاً يركض خلفها بحذاء لا يعرف كيف يتعامل معه، عمله في جريدة صاحبها كان من أقرب المقربين لـ (عدي بن صدام) وصراعه مع نفسه بين القبول والرضا، مصداقية علاقات السكر والنساء، أنّى لها أن تخترق صدره؟
كل هذا أظهرت السيدة معرفتها به، هل كانت معه؟ أبوسعها اختراق الجدران؟،.هل كانت ترتدي طاقية الإخفاء،هل شاهدت عريه على السرير؟،.
لا بدّ أن يعرف، كما لا بدّ أن يكون يقظاً. حتى المخابرات العراقية التي تعرف عدد شعرات إبطه، ليست كمثل السيدة راوية.
طلبت منه راوية أن يسأل وليداً عن آخر ساعة للمعرض، وعـّلّقت:ـ
أعتقد أنه سيقول الساعة السابعة والنصف.
ـ مادمت تعرفين الموعد لمَ تطلبين مني سؤاله؟.
واستمرّ يسألها:
- أختي، اسمحي لي، أنت شرطي متنقل؟ لكن شرطي مثقف، هذا ما لم نتعوّد؟؟!!
ضحكت حتى كادت ضحكتها العالية أن تخرجها عن وقارها، ربما سيستنتج الحقيقة. مرّت على أسماء العراقيين الذين تعرّف عليهم في لندن، نساء ساقطات عاشرهن، سماسرة مغاربة في ساحة الطرف الأغر (ترافغلر سكوير)، مشاعره، كيف توصّلت لمشاعره؟
***
ذكّرته بكلمة سمعها من لاجئ عراقي ذات يوم، يوم سُرقت من جيبه محفظة نقوده ،،، حيث عبـّر عن استيائه وهو يتفحص أوراقاً مهمّة وضعها في الجيب الخلفي لبنطلونه، سنوات من عمره في الغربة سُرقت منه، جواز سفره، بطاقة التأمين وتذكرة سنوية اشتراها للتنقل.
رأى رجلاً قادماً ممسكاً بيد شاب في السابعة عشرة من العمر:
ـ لقد أوقعت به سيدي، شاهدته وقت سرقك، راقبت وقفته، لم يرني وأنا أتابع حركاته، ها هو خذه وقدّمه للبوليس.
توسّل إليهما الصبي بعربية كردية:
- (أنا ابنكم، عراقي من الشمال، لا تنطوني للإنجليز).
أشفق عليه محمود، وطلب منه أن يسلـّمه ما سرقه. أفرغ جيوبه، وجد ثلاث ساعات نسائية، وسلسلة ذهبية.
ـ ( عمّي خذهن كلهن.)
ـ سآخذ خاصتي، والله يعوّض أصحاب الساعات والسلسلة.
ـ (ممنون منك عمِّي والله بعد ما أسويها تبت لن أعدها ثانية).
كان محمود يحاول التخلص من لوم نفسه على سهوه، وكان الشاب خائفاً يبكي ويطلب المعذرة والسماح، و محمود يرد عليه:
ـ لا عليك لست المخطئ، إنه خطأ الأوطان .
(ضحك وقتها على الذين يكتبون عن الأوطان) واستمرّ قائلاً:
ونضيع نحن في الخطأ*
ـ الصمت راحة بال أليس كذلك سيدة راوية..؟.
سألها وصمت، ثم استطرد قائلاً:
- هل أنت (مُخاوية)..؟؟.
ـ لم أفهم.
ـ يعني هل عندك جنّي ينقل إليك أخباري؟ حتى كلمة الرجل الذي قبض على اللص حفظتِها؛
لم تجب على سؤاله، بل راحت تشير بإصبعها إشارة استخفاف تعقيبا على قوله عن الذين يكتبون عن الأوطان:
- الوطن كالسرير، كلما اهتزّ أكثر لمك في حضنه، بشرط أن تمحو من جبينك كلمة شرف.
اكتشف دموعاً حبيسة في عينيه وهو يجيب السيدة :
- والله يا سيدة راوية لطالما تمنيت لوطني أن يرحل من هذا الوطن قبل أن يصبح قشرة بصل.
ـ للأسف الشديد. (متعجلا)
ـ للأسف أصبحنا قشرة بصل.
شعر بضيق أصابها، لم يلتحق بها وهي تنزوي على كرسي في زاوية بعيدة من المعرض. رأت من مكان جلوسها وليداً يشرب قهوته ببرود.