ألا ساء ما يزرون
سوسن البرغوتي
لقد سادت في الضفة الغربية المحتلة السياسة الغوغائية البراغماتية ورمت خلف ظهرها القوانين الشرعية، وبات كل ذي منفعة يفتي بما يتجاوزها، فقد أصبحت تلاوة القرآن في المساجد من (موبقات السلام) مع المغتصبين المنزعجين من صوت الآذان وتوحيد الخالق. ولتدعيم مسوغات الحدّ من المظاهر الإسلامية وعلى الأخص في شهر رمضان المبارك، مُنع الخطباء وطُردوا ليفسح المجال لخطباء الاستسلام لشرع المحتل؛ فاتخذوا وسيلتهم لوزرهم ذريعة الوحدة الوطنية، في حين أن الإسلام يدعو إلى الإعداد لعدو الله والإنسان ورص الصفوف، ولا يدعو إلى استئصال أهل العلم والمعرفة. وبما أن "تقنين" قراءة القرآن وتحديد وخفض صوت الآذان، هو بهدف استرضاء هؤلاء المغتصبين الرعاع، فإذاً الموضوع برمته، صوت (إسرائيلي) بفم ويد ضاربة لهم.
وعلى هذا الأساس، مقارعة أي منهم، مضيعة للوقت، فهم يُؤمرون وينفذون، ويأمرون والشعب يعلم هذا تمام العلم، وليس من أمره إلا قولة حق أمام سلطان جائر. لكن مهلاً.. مهلاً، هل سلطة الاحتلال القابعة برام الله، صاحبة سيادة، لتحكم ويطيعون، وتدّمر قيم اجتماعية وثقافية وسياسية؟
والأخطر أن عدوى وهم ولاية أمور العباد الدينية والدنيوية، بيد وعاظ صكوك الغفران في عصر انحطاط قسم من الفلسطينيين والعرب، وما الفتاوى التي ما أنزل الله بها من سلطان، إلا لإشغال الشعب عن أولوياته، والذهاب إلى سجال تافه سطحي، فمنذ متى كان الخطباء أو قراءة القرآن وصوت الآذان، يحتاج إلى دليل وبرهان؟!.
هذه الفرامانات، وراءها نوايا وضغوط مضاعفة على الشعب، فاليوم الآذان يزعج شذاذ الآفاق وغداً أجراس الكنائس، وشعائر مواسم روحانية ولربما الاحتفال بأعيادنا لا تروق للمستعمرين وموظفيهم، وفي المستقبل سيظهر من يدّعي أن المسجد الأقصى ما هو إلا حجر، والحجر لا يُعبد، وإن هُدم وحل مكانه كنائسهم، فالأمر لا يعنينا، والإسلام هو في الجوهر لا في المظهر.. أليس هذا كله يعني تعزيز كل ما يقوم به كيان الشياطين؟!
حاخاماتهم يحكمون ويوجهون الجنود للقتل والإبادة، وحرق الزرع وتطهير الأرض من سكانها، وطرابيش السلطة الذين يشهدون أن لا إله إلا الله، يفرطون ببديهيات، فما الذي يؤذي هؤلاء؟.. إنه الجهاد الذي يُدعى له من مساجد الله.
المغتصبات التي تبتلع الضفة، لا تحرك لهؤلاء جفن، ولا تقض لهم مضاجع، والأنفاق تحت وفوق المسجد الأقصى، لا يشغل هاجسهم، كل مشكلتهم هي الآذان والقرآن، وما ذلك إلا التدريج لإلغاء شخصية وثقافة الإنسان الفلسطيني وجزء من تراثه، وما أشبه بما يفعلون، زمن سقوط غرناطة. وكل ممارسات وسلوكيات السلطة، تثبت أمراً واحداً لا غير، وهو اتباع التعليمات بحذافيرها، وكأن الشعب الفلسطيني يحتل أرضه!، وقياساً عليه، فإن المفاوضات أيضاً تدخل الحيز ذاته، من مفهوم الطاعة المطلقة لولاة أمرهم، وهي لا تخرج عن مدرسة الماسونية بحرف واحد.
هذا الأسلوب والنهج المعتمد، والموافق عليه من قبل جماعة أوسلو، لا غرابة في أن يصدر عن حكومات الاحتلال، وليس مستبعداً من عبيد ارتضوا بعبوديتهم، لكن الغريب العجيب، أن يقبل الشعب بكل تلك الإهانات والإذلال، ولا يثور ضد منتهكي إنسانيته وقيمه!!.
ولربما الوضع المنفلت ليس له أي مبرر غير ضياع الأبجديات النضالية والتيه في أسلوب الحياة، وكما يقول المثل الشعبي (من يتزوج أمي، هو عمي)، لا فرق بين هذا أو ذاك، طالما أنه وجه لنفس العملة المصنعة والمعدة من أسياد الرغيف.
شعب لا يثور ولا يغار على محرماته، الحياة الكريمة سُلبت منه، والكرامة يستحيل تحقيقها إلا بالحرية، وفاقد الأخيرة، إنسان تائه لا يعرف أين قِبلته، فماذا ينتظر؟
لقد باتت قضيتنا مقيدة بتصريحات فلان أو علان، وتحليلات لا تغير من الواقع شيئاً، ووضع الضفة الغربية خطير، لأن المقاطعة تحدد مصير شعب بأسره، والموظفون المستفيدون من إغراق الجميع لا يتعدون المئات.
إلى أين وصلنا بعد عملية السلام الوهمي، وأي نفق آخر مهيأ للتصفية النهائية، بعد اقتلاع هوية وإرادة النضال من أجل التحرير، لا من أجل سلطة ولا سلام مع محتل. سؤال ليس من المفترض أنه يحتاج لعبقري ليجيب عليه، والإجابة هي أن السلطة المحلية هي جوهر الضياع التي أخذت مكان الصراع، وحللته وغيرت وجه تاريخ ناصع بالتضحيات، وكأن الشعب أنبوب اختبار جامد ومغيب عن قرار وجوده، فمن الذي منح طاقم المفاوضات التفويض والتمثيل لكل الشعب الفلسطيني؟!
وبعد أن فاحت فضائح السلطة، التي لم ولن تخفي وجهها القذر الحقيقي، تبين أن المحنة الفلسطينية، ليست بشخوص النظام البائس التابع كلية للاحتلال، إنما بنظام أعوج في بلد محتل من الأساس، وعليه فإن ما يُسمى بالمعارضة ورفض الفصائل لأي ممارسات، لن تجدي نفعاً، والحل الوحيد نسف السلطة المسيطر عليها أمريكياً - (إسرائيلياً)، والمحكومة بالتسول المالي. وهذا يعني أنه آن أوان التحرك الجاد والمنظم وتفعيل المقاومة المسلحة، وإلا فالشعب الفلسطيني على عتبات آخر فصول تصفية قضيته ووجوده وحقه في كامل أرضه.