سوسن البرغوثي: يتمنعون وهم الراغبون
يتمنعون وهم الراغبون!
سوسن البرغوتي
منذ ما قبل اللقاءات العلنية والاتفاقيات الموقعة مع العدو، لم يتغير أو يتبدل مشهد بيت الطاعة والولاء لـ(التوصيات والإرشادات) الأمريكية، ولم تتخلل طوال فترة سلطة الحكم الذاتي المحدود بالكم والكيف، منغصات اللقاءات الحميمية مع وكلاء (إسرائيل) الحصريين في رام الله. فجأة ودون سابق إنذار، يترجم عباس امتعاضه الدبلوماسي من الضغوطات الأمريكية، بأنها تهديدات للعودة إلى المفاوضات المباشرة، وكأنها انقطعت أو تأخر أي منهم لتلبيتها يوماً.
هذا التضليل والتدليس، أكمله فصل لجنة المبايعة العربية الهزلية، تحت ذريعة إحراج (إسرائيل) ووضع الكرة في ملعبها، وكأن في الملعب أي زاوية حرة للسلطة أو لعرب المبادرة و(حسن النوايا)، أو كأنهم ليسوا جميعاً، كرة تتقاذفها وتركلها أقدام اللاعبين الأساسيين!، ودور الكمبارس، لا يعدو أكثر من هامشي، وأقل بأن يوصف أنه طرف مشارك، وأن بدونه ستضيع الحقوق وثوابت أوسلو، وأنه الدينامو المحرّك، وإلى آخر التوصيفات (البطولية). فهذه النرجسية الخادعة والمخادعة، تصم آذان الأحياء، وتغشي الأبصار وتعمي البصائر، فماذا بقي من الحقوق، وماذا أبقت سلطة رام الله هامشاً لتتظاهر بأنها تفاوض من أجله؟!.
الإملاءات تنحصر بحصاد (إسرائيل) من زوبعة هذه الجولة (التفاوضية)، بإعلان كبير "المفاوضين" ومعاونيه المشعوذين، الاعتراف بـ(يهودية دولة إسرائيل)، مقابل إبقاء الوضع على ما هو عليه من تنسيق أمني وشراكة بقمع وملاحقة كل من يتلفظ أو حتى يفكر بمواجهة (الجار)، الذي أصبح بجهود المتبوع الطائع (المفاوض)، أهل البيت وصاحب الحق المكتسب!.
بعد كل حفلة امتعاض تمثيلية لعباس، تهب التنظيمات الفلسطينية، الأعضاء في منظمة أوسلو، برفع شعار (لا) للمفاوضات والتنديد والشجب، وأن تزايد عدد "المستوطنات" في جمهورية الضفة المحتلة بسبب المفاوضات، والتي لم يتوقف بناءها منذ عام النكبة، والاحتلال بنيته الأساسية استيطان الغرباء المستعمرين، وسيستمر – إن بقي الوضع من سيئ إلى أسوأ- حتى تحليل التربة الفلسطينية، والتأكد من خلو أي جينات فلسطينية فيها. فهل أعلن أي من هؤلاء الأعضاء تجميد عضويته، على أقل تقدير، ومن المفترض الانسحاب فوراً من منظمة اللا تحرير...نعم المنظمة ومؤسساتها، شكلية وغطاء لسياسات مدمرة، منذ برنامج "النقاط العشر- المرحلي" ما قبل اتفاقية أوسلو وما تلاها، وكلهم على علم بذلك!.
لم يعد موضوع الإملاءات مجال سجال حول تقاسم أو تبادل الأرض و"الدولتين"، إنما التفاهمات حول تفاصيل كيفية إدارة ولاية (إسرائيلية).
شخصيات السلطة الفلسطينية تدرك أنه ليس لها من الأمر شيء، لذلك فهم مضطرون لاختلاق أعذار وأن التهديدات والضغوطات فائقة، في حين أن أهداف العودة إلى المفاوضات:
1) السلطة لا تملك القرار في خيار ثان وليس لديها أي مشروع غير القبول بـ"المقدّر"،
2) الارتهان للمال والسياسة الأمريكية- (الإسرائيلية) بالمطلق، وهواجس الخوف من التخلي عن دعم السلطة سياسياً واقتصادياً، إذا توقفت العملية السياسية، وعندها (قطع الأرزاق من قطع الأعناق)، فما المبرر لوجود كل تلك الطواقم، إن لم يكن لها ولو وظيفة شكلية؟!.
الحلقة المفقودة لمصطلح "الدولة"
(إسرائيل) وأمريكا تسعيان، لتثبيت كيان أو بتعبير أدق - ولاية- في (إسرائيل)، ولهذا تعكف الحكومة (الإسرائيلية) على التفاوض بتفاصيل الإدارة المحلية، كالاقتصاد فاقد الاستقلالية، وتوزيع المياه بقدر ضئيل من المياه الفلسطينية لمناطق هذه الإدارة، والعلاقات العامة وثقافة "السلام والتعايش" والأمن للكيان الصهيوني، الحاصل عملياً. ولنلاحظ أن جميع تلك القضايا، تعزز التبعية للمركز في "تل أبيب" على غرار الولايات الأمريكية للمركز في واشنطن. أما القضايا الأساسية، فمن الغباء، أن يعتقد الجانب الفلسطيني، أن (إسرائيل) سترسم حدودها في (أرض إسرائيل) الاسم المتفق عليه بين الطرفين!.
وأهم الملفات الأساسية، القدس، وقد تهودت بالكامل.. اللاجئون، ورؤيتهم تتلخص بالتالي: تعويض اللاجئين الأحياء الذين هُجروا من فلسطين بالقوة، مع إبقائهم في أماكن إقامتهم، أو الموافقة على عودتهم، وفي هذه الحالة من بقي منهم على قيد الحياة - وقد مرت ثلاثة أجيال على النكبة- يستحيل أن يترك أبناءه وأحفاده، ليعود غريباً في وطنه المحتل، ولا يُسمح لهم حتى بزيارته، وإن حدث، فستكون الزيارة بتأشيرة (إسرائيلية). والأجيال ما بعد النكبة لا تعويض لهم، ولا حق لهم بالعودة، كما سيتم تعويض كل من هاجروا من اليهود طواعية إلى فلسطين المحتلة، ومنحهم الأحقية بامتلاك أراضي وبيوت السكان الأصليين والاستيلاء على "أملاك الغائبين".
وعند متابعة التصاريح، نجد أن التوافق قد تم، وهو عودة بضعة آلاف من اللاجئين، وقد تُحدد أسماؤهم فيما بعد، حفاظاً على أمن (الجار). وكل ما يجري على الأرض لا يوحي أن غير هذا يحدث، والاكتفاء بحكم ذاتي بلدي موسع للسلطة بإشراف وتحكم (إسرائيلي).
ثلاثة عناصر تحكم الجولة القادمة: بيت الطاعة، انتظار ما بعد المفاوضات، وقد تمتد لسنوات، وتنتهي دائماً عند نقطة اللا توافق! و(إسرائيل) تبني المزيد من المغتصبات، وتحصن الجدار الفاصل، بحواجز ونقاط تفتيش، لالتهام كل أراضي الضفة.
هذا هو الواقع، وسلطة رام الله، لا تقوى ولا يحق لها، المطالبة بـ (القدس الكبرى)، وإخلاء المغتصبات الكبرى، ولا يحق لها الحديث عن الجدار، الذي بُني بعهدها الميمون، دون أي اعتراض. أما العنصر الثالث، تلويح عرب الاستسلام، بالضغط على الإدارة الأمريكية وإحراجها حتى لا تستخدم الفيتو عند إعلان "الدولة" الفلسطينية من جانب واحد، وكذلك باقي الدول الكبرى في مجلس الأمن (بعد خراب مالطا)، وكأن إدارة أوباما معنية بإحراجها، وكأن كل الحكومات الأمريكية تريد منح جزء من حقوق فلسطينية، أو كأنهم أجمعون متفرغون لخدمة العرب ومراضاتهم، فهذا عين التغابي والرعونة السياسية، وذلك لعدم تفهم عمق العلاقة الأمريكية- (الإسرائيلية) القدرية ومشروعهما الاستعماري المشترك.
حتى لا نكرر ما فعله غيرنا من الشعوب في مسيرة التحرير، وحتى لا نعيد بديهية أن الحل بالمقاومة المسلحة أولاً، وحتى لا نبقى حرفاً ساكناً في صحف وإعلام عربي رسمي مضلل.. فإن اللجوء إلى العصيان المدني وإسقاط سلطة رام الله وحكومتها بالقوة، إن اقتضى الأمر، وتشكيل حكومة وطنية مؤقتة على أسس وقواعد راسخة وحق لا يسقط بالتقادم، سيفوت الفرصة أمام اللاعبين الأساسيين والشركاء الهامشين، بتوظيف أي غطاء لممارسات التهويد والتوسع وعملية بناء حقائق جديدة مفروضة على الأرض، بل لهدم ما توصلوا إليه، وتضع الجميع عند الأمر الواقع، طالما أنهم لا يعترفون إلا به، فعندها ليس أمام (إسرائيل) إلا إعادة احتلال ما يُسمى بمناطق السلطة علناً، ولتتحمل مسؤوليتها كمحتل، ويحدد الشعب أولوياته وحقه في تحرير أرضه، وإما الرضوخ لإرادة الشعب الفلسطيني بتغيير حكومته وسلطته المحلية، ما دامت القيادات الوطنية في الخارج تتحرك وفق معطيات ومناخات إقليمية ودولية.
ارتضوا بيت الطاعة، فلا يلزمون به غيرهم، وتظاهروا بالضغوطات، لا يعني أن الشعب قطيع غنم، لا يفقه فصل ترحيل الشعب الفلسطيني بالداخل المحتل عام الـ48، وإغلاق ملف المهجرين والملاجئ وملف القدس، فكل ما يحدث اليوم، هو استمرار لما اُتفق عليه سابقاً، ولكن ماذا أمام شعب تقطعت أوصاله ومحاصر في الوطن المحتل، والمتشرد بأصقاع الدنيا، في ظل غياب قيادة ومظلة سياسية جامعة للكل الوطني، لا تهدد وتتوعد فحسب، فما نفع القول إن لم يقترن بالعمل؟!.
انهيار وانفجار
ستنهار فكرة "الدولة المستقلة" الفلسطينية، أسرع مما يتصوره البعض، وسترتطم بوقائع وأحداث، أكثرها متوقعة، تؤدي إلى انهيار مفاجئ لما يُسمى بعملية السلام، وبالتالي فإن صبر واحتمال الفلسطينيين سينفد، فالوضع العربي العام، يشي أن ثمة مناطق ساخنة في الوطن العربي، مهيأة للانفجار، والوضع الفلسطيني ليس بمنأى عمّا يحدث، ومهما حاولوا "ترقيع" وتهدئة الأمور إلى أجل ما، فبنهاية المطاف، الكل يستعد والجميع يتوقع حدوث اشتباك مع المقاومة على مختلف الجبهات العربية، أو نشوب مواجهة عسكرية تمتد من غزة إلى بيروت مروراً بالقدس والجولان، إلا أن هذا الاحتمال، لن يكون غداً، ولكن العد التنازلي بدأ، بينما ساعة الصفر، غير معلومة، رغم تصعيد الحرب الإعلامية والنفسية والسياسية