ثيودور روثكه الشاعر الأمريكي المنسي

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
فخري صالح



يعد ثيودور روثكه 1908( - )1963 واحدا من الشعراء الأمريكان الكبار الذين غمط حقهم وانطووا في عالم النسيان. ولم يقيض لنا نحن العرب معرفة شعر روثكه بصورة جلية ، إذ هيمن على مشهد الترجمة عدد من الشعراء الأساسيين في المنجز الشعري الأنجلو ـ أمريكي ، وعلى رأسهم بالطبع إزرا باوند وتي. إس. إليوت ، فيما غاب روثكه الذي كتب شعرا لافتا يستوحي الطبيعة ويبدع استعارات طالعة من العالم النباتي الذي يرى الشاعر الأمريكي اللامع أنه ليس أقل افتراسية من عالم الحيوان.

رغم موته في أوج تألقه الإبداعي ترك روثكه ، الذي رحل وهو لم يتجاوز الخامسة والخمسين ، نتاجا شعريا يؤهله أن يكون واحدا من أفضل الشعراء الأمريكان في القرن العشرين. وقد تلقى روثكه اعتراف الأوساط الشعرية عندما حصل على زمالة غوغينهايم عامي 1946 1950و ، وعندما فاز بجائزة بوليتزر عام 1954 عن مجموعته الشعرية "اليقظة: أشعار" ، التي تضم ما كتبه بين عامي 1933 ـ 1953 والمنشورة عام ,1953 أما مجموعته الشعرية "كلمات إلى الريح" (1958) فحصلت على جائزة بولينغن عام 1958وجائزة إدنا سينت فينسنت ميلاي عام ,1959 كما حصلت ـ مجموعته الشعرية "الحقل البعيد" ، التي طبعت بعد وفاته ، على جائزة الكتاب الوطني الأمريكي عام ,1964

ولد روثكه في ساغيناو ، بولاية متشيغان ، حيث تجاور المصانع البحيرات والجداول والغابات والمزارع الجميلة ما جعل هذه المشاهد توقظ فيه الإحساس بالتبجيل والحب الصوفي للطبيعة. كان والد روثكه بائع زهور ، والمفارقات الضدية الغريبة التي ترد في شعره مستوحاة من البيت الزجاجي الذي كان يملكه والده ويستنبت فيه الأزهار ، حيث يمتزج الموت بالحياة مولدا نوعا من الجمال الغريب الذي تتسم به أشعار روثكه. بعد أن حصل روثكه على شهادته الجامعية الأولى عمل في التدريس الجامعي متنقلا بين عدد من الكليات والجامعات الأمريكية. و بعد أن نال شهادة الماجستير من جامعة متشيغان عام 1936 عمل في كلية ولاية بنسلفانيا إلى عام ,1943 عام 1947 عمل في جامعة واشنطن ، سياتل ، حيث استمر في التدريس هناك طيلة حياته. وقد تطور عمله الشعري بعد تخرجه من الجامعة ، لكن نضجه الفعلي تحقق عندما نشر مجلده الشعري الأول "بيت مفتوح" عام ,1941 ويمكن أن نقسم أشعاره إلى قسمين: القسم الأول يتضمن قصائد تتمسك بالتقاليد الشكلية الشعرية بصورة مفرطة ، وهي ذات نزعة عقلانية واضحة ومحتشدة بالمفارقات: والقسم الثاني يتضمن القصائد التي تستفيد من الشكل الحر الذي نلاحظ فيه تأثير والت ويتمان ، إضافة إلى الرومانسية المتعالية على الوجود الواقعي التي ترجّع صدى عمل رالف والدو إميرسون الشعري. أما تأثير تي. اس. اليوت على روثكه فكان شكليا تقنيا. يشارك روثكه إميرسون إيمانه بحلول الروح في الطبيعة. فلقد رأى روثكه الجانب المعتم في الطبيعة ، ذلك الجانب الذي حاول إميرسون أن يعلله ، لكن هذا التلاقي بينه وبين إميرسون لم يفقد عمله الشعري تفرده. يقول روثكه في قصيدة له بعنوان "شتلات" وقد كتبها عام 1948:

عيدان مدلاة بكسل فوق طفال رملي سكري الطعم

سيقانها المتقاطعة المكسوة بالفرو تجف:

لكن الشتلات الرقيقة تواصل ملاطفتها لوجه الماء:

الخلايا الصغيرة تنتفخ:

نتوء صغير ينمو دافعا برفق كتلة رقيقة من الرمل ، مبرزا من خلال غشاء عفن قرنه اللولبي الرفيع الشاحب اللون.

ثم يواصل روثكه الكتابة عن هذه الشتلات فيما بعد ، مستغربا عناد الحياة رغم قسوة الظروف المحيطة:

هذا الإلحاح ، الكفاح ، انبعاث العيدان الجافة ، السيقان المقطوعة التي تجاهد لتثبت أقدامها ، أي قديس جاهد أكثر ، ناهضا على مثل هذه السيقان المقطوعة ليحيا حياة جديدة؟ أستطيع أن أسمع ، تحت التراب ، ذلك الامتصاص والنشيج ،

في عروقي ، في عظامي أشعر بذلك ، المياه القليلة تنز إلى أعلى ، الحبوب المخفاة عميقا تشق طريقها في النهاية.

وعندما تشطأ البراعم الصغيرة ، منزلقة مثل سمكة ، أذبل ، متحدرا نحو البدايات ، بغمد رطب.

في قصيدة أخرى بعنوان "الابن المفقود" يقوم روثكه بتقطيع القصيدة إلى خمسة أقسام تصور صراع الحياة والموت. في القسم الأول ، وهو بعنوان "الطيران" يكتب الشاعر: في وودلون سمعت الموتى يصرخون: هدهدني انصفاق الحديد ، تساقطُ قطرات بطيءّ فوق الصخور ، ضفادع الطين تتكاثر في الآبار. الأوراق جميعها أخرجت ألسنتها:

نفضتُ عني الطباشبر الطرية لعظامي ،

قائلا ، أيها الحلزون ، أيها الحلزون ، تقدم بي إلى الأمام متلئلئا ، أيها الطائر ، تحسر علي برفق في البيت ، أيتها الدودة ، كوني معي

فهذا أصعب أوقاتي.

و إذ أصطاد في جرح قديم ، بركة الرقاد الناعمة:

لا شيء يقضم صنارتي ، المنوة نفسها لم تقترب منها

جالسا في بيت فارغ

أراقب الظلال وهي تزحف ، تخمش بالأظافر.

كان هناك ذبابة واحدة. أيها الصوت ، أخرج من رحم الصمت. قل أي شيء.



اظهر على شكل عنكبوت



أو على شكل عثة تقضم الستارة.



أخبرني:



أيّ طريق آخذ:



من أي باب أخرج ، إلى أين أذهب وإلى من أتوجه؟

قالت الحفر المظلمة ، لُذ بالريح ،

قال القمر ، ظهرُ أنقليس ،

قال الملح ، أنظر باتجاه البحر ، دموعك ليست تسبيحا كافيا ، لن تجد راحتك هنا ، في مملكة الضجيج والثرثرة.

راكضا بخفة فوق أرض إسفنجية ، متجاوزا عشب الصخور المنبسطة ، الدرداراتً الثلاث ، الخرافَ التي تغطي وجه الحقل ، فوق جسر واهن

باتجاه المياه الجارية تتغضن وتتموج. إذ أصطاد عبر النهر ، عميقا بين النفاية ، عميقا بين أوراق النبات التي خرّمتها الحشرات ، قرب حافة البركة الطينية ، قرب حفر المستنقع ، قرب البحيرة التي تجف ، أصطاد في حرارة الصيف.

شكل جرذ؟ إنه أكبر من ذلك.

أقل من حجم ساق

وأكبر من حجم أنف

تماما تحت سطح الماء

يجري كالعادة.



إنه ناعم كفأر؟

هل يستطيع أن يجعّد أنفه؟



هل يقدر أن يأتي إلى البيت على رؤوس أصابعه؟

خذ جلد قطة

و ظهر أنقليس ، ثم قلبهما في الشحم ، ـ على هذه الهيئة سيبدو. أملسَ مثل ثعلب الماء

بأصابع جُليدية عريضة

تماما تحت سطح الماء

يجري كالعادة.

في القسم الثاني من القصيدة المعنون بـ"الحفرة" يكتب ثيودور روثكه في هذا النص الشعري الذي يصور فيه كفاح الكائنات من أجل العيش:

في أي اتجاه تذهب الجذور؟

أنظر أسفل الاوراق.

من وضع الطحالب هناك؟

الصخور كانت هنا منذ مدة طويلة جدا.

من الذي روّع البذاءة وحولها إلى مجرد ازعاج؟



اسأل الخلد ، فهو يعرف.

أشعر بأنني ألمس قذارة عش رطب.

إحذري يا أم العفن الفطري. اقضمي ثانية ، أيها الاعصاب السمكية. في القسم الثالث وهو بعنوان "المهذار" يصور روثكه احتدام الحياة ومقاومة الموت: في فم الغابة ، قرب بوابة الكهف ، أنصت لشيء سمعته من قبل. كلاب الأربية نبحت وعوت ، كانت الشمس قبالتي ، والقمر لم يكن ليشتملني.

الأعشاب الطفيلية أنّت ، الحيات بكت ، الأبقار والورود البرية

قالت لي: مت.

يا لها من أغنية تافهة. يا لها من غيوم بطيئة. يا له من ماء معتم. هل للمطر أب؟ كل الكهوف جليد. الثلج وحده هنا. أشعر بالبرد. بالبرد يشتملني. أدفئاني يا أبي وأمي. كان الخوف أبي ، الأب الخوف.

نظرته تنشّف الحجارة. أي شكل ينسل وينزلق

يومئ عبر الردهات ، يقف باتزان ورباطة جأش على الدرج ، ويسقط حالما إلى أسفل؟

من أفواه الأباريق الجاثمة على رفوف كثيرة ، رأيت مادة تسيل

في ذلك الصباح البارد.

مثل انزلاق الأنقليسات

ذلك الخد المائي

إذ قبله لساني

أيقظته شفتاي. هل هذا هو قلب العاصفة؟ الأرض نفسها ليست ثابتة. عروقي تجري باتجاه لا مكان. هل تطرد العظام نارها؟

هل تترك البذرة مهجعها القديم؟ هذه البراعم حية مثل الطيور. أين ، أين هي دموع العالم؟

دع القبل تدوي ، منبسطة مثل كف جزار:

دع الإيماءات تتجمد: لقد تحدد مصيرنا.

النوافذ جميعها تشتعل، ما الذي بقي من حياتي؟ أريد أن يعود إلي غضبي وحماسي القديمان ، اندفاعة الحليب البدائي،

وداعا ، وداعا ، أيتها الاحجار العتيقة ، نظام الزمان يمضي في طريقه ، لقد زوجت يدي للاهتياج السرمدي ، إنني أركض ، أركض باتجاه صفير المال.

المال المال المال

الماء الماء الماء

كم هو بارد هذا العشب.

هل غادر الطائر؟

الساق لا زالت تترنح.

هل للدودة ظل؟

ما الذي تقوله الغيوم؟ هذه الضربات الضوئية تفككني.

أنظر ، أنظر ، الخندق يفيض بلون أبيض، لدي عروق تزيد عن عروق شجرة، قبلني ، أيها الرماد ، إنني أسقط في دوامة معتمة. أما في القسم الرابع من هذه القصيدة الملحمية المعنون بـ"العودة" فإن روثكه يغوص على الأعماق المعتمة للوجود: كانت المسافة إلى المرجل معتمة ، معتمة طوال الطريق ، فوق الجمرات الزلقة

عبر البيت الزجاجي الطويل.

الورود واصلت التنفس في العتمة.

لها أفواه كثيرة تتنفس منها. أخرجت ركبتاي ريحا حيث تنام الأعشاب الطفيلية. كان هناك ضوء وحيد يتأرجح قرب حفرة النار ، حيث كان رجل النار يستل ورودا ، الورودَ الكبيرة ، المصنوعةَ من خَبَث المعادن اللعين.

إذ بقيت طيلة الليل.

طلع ضوء النهار على الثلج

الأبيض.

كان هناك أنواع عديدة من الهواء البارد.

ثم اندفع البخار.

ضربة أرغن

الدفء يعدو فوق النباتات الصغيرة.



النظام، النظام،



أبونا جاء،



حرك ضبابّ رقيقّ الأوراق:



ذاب الصقيع على الزجاج البعيد:



الوردة ، الأقحوانة استدارتا باتجاه الضوء. حتى الأشكال المطموسةالساكنة ، الأعشاب الطفيلية المصفرة المحنية

تحركت متأرجحة ببطء الى اعلى. في القسم الخامس من القصيدة المعنون بـ"كان الوقت بداية الشتاء" تندفع الحياة التي تجاهد إلى المشهد الطبيعي وهو ينهض من موته:



كان الوقت بداية الشتاء ،

وقتُ ما بينَ بينَ من الأوقات ،

المنظر الطبيعي كان لا يزال بنيا إلى حد ما:



ظلت عظام الأعشاب الطفيلية تتأرجح في الريح ،

فوق الثلج الازرق.



كان الوقت بداية الشتاء ،

تحرك الضوء ببطء فوق الحقل المتجمد ،

فوق إكليل البذور الجافة ،

العظامُ الحية الجميلة



تتأرجح في الريح.



سافر الضوء فوق الحقل الواسع:



واستقر هناك.



توقفت الأعشاب الطفيلية عن التأرجح.



تحرك العقل ، ليس وحيدا ،

بل عبر الهواء النظيف غير الملوث ، في الصمت.



هل كان ذلك هو الضوء؟



هل كان ذلك هو الضوء الذي في الداخل؟



هل كان الضوءَ الذي يسكن في الضوء؟



السكونُ يصبح مفعما بالحياة ،

ومع ذلك يظل ساكنا؟



روح مفعمة بالحياة يمكن أن تدركها

حالما عللت النفس بها.



سوف تعود ثانية.

إبق ساكنا.

انتظر.