(5)

ومع أن هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 مثلت تحدياً حقيقياً للقوة العظمى في العالم، فإنها شكلت في الوقت نفسه انطلاقة جدية للولايات المتحدة في تبني إستراتيجية جديدة في ما وصفته ب (الإرهاب الدولي).

والمتتبع الدقيق للسياسة الخارجية الأمريكية منذ بداية الحرب الباردة، يرى أن الولايات المتحدة هي التي تصنع أعدائها وِفق تصوراتها وسياساتها العدوانية، وبالتالي هي التي تتبنى السياسات والإستراتيجيات المناسبة لذلك العدو من خلال تشغيل ماكنتها السياسية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية، لتسويغ حروبها المعلنة وغير المعلنة في العالم.

وهكذا، فقد تم استبدال عدو الأمس (الاتحاد السوفييتي السابق) بعدو جديد هو (الإرهاب الدولي)، وهو عدوٌ يخدم مصالحها في كل زمان ومكان، باعتبار أنه ليس محدداً بمكان ولا مؤطراً في زمان، وليس هناك مجموعة محددة تمثله، وبالتالي فإن الباب مفتوحٌ على مصراعيه أمام الولايات المتحدة كي تفعل ما تشاء، وتحارب من تشاء في أي مكان ترغب، وأي دولة تُحدِّد تحت مسمى محاربة الإرهاب.

صحيح أن انتهاء الحرب الباردة لم يُقلل من أهمية تركيا في الإستراتيجية الأمريكية، بل بالعكس من ذلك، زاد من أهميتها، إلا أن هجمات 11 سبتمبر أسهمت في تحديد الدور المناسب لتركيا في تلك الإستراتيجية، فكان دخول تركيا في التحالف الذي قادته الولايات المتحدة في الحرب ضد أفغانستان عام 2001 معبراً عن ذلك الدور الذي وجدت فيه تركيا عاملاً قويا في تسويغ حربها الطويلة ضد حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا والولايات المتحدة ضمن المنظمات الإرهابية.

وبالتالي فإن الإستراتيجية الأمريكية في مواجهة الإرهاب خدمت المصالح التركية في مواجهة حزب العمال الكردستاني، وهذا ما يسمى هنا (توافق المصالح).

(6)

وفي ما يتعلق بموقف تركيا من الحرب ضد العراق، فقد تباينت المصالح التركية مع المصالح الأمريكية في هذه القضية؛ فالولايات المتحدة اعتبرت هذه الحرب مرحلة ثانية من السيناريو الأمريكي في ما يصفه الأمريكيون حرباً ضد دول (محور الشر) أو (الدول الداعمة للإرهاب)، وهي العراق وإيران وكوريا الشمالية، فيما رأت تركيا أن هذه الحرب ليست كالحرب ضد أفغانستان، ولا تحمل مسوغاتها القانونية التي يحددها مجلس الأمن الدولي، كما فعل قبيل الحرب على أفغانستان، فضلاً على أن الولايات المتحدة ذهبت بمفردها الى الحرب دون حلفائها الأوروبيين.

والأخطر من ذلك أن تركيا هي أكثر دولة عانت اقتصاديا من حرب الخليج الثانية عام 1991 وما تبعها من حصارٍ على العراق طوال عقد التسعينيات من القرن الماضي، علاوة على ما ستجلبه تلك الحروب من مشكلات أمنية لتركيا هي في غنى عنها في هذه المرحلة.

ومع ذلك، فإن التوتر الذي حصل في العلاقات الأمريكية ـ التركية جراء عدم مشاركة تركيا في الحرب ضد العراق في آذار/مارس 2003، لم تكن سوى حادث طارئ في العلاقات الثنائية بين البلدين، ولم يؤثر في تحالفهما الإستراتيجي الذي تمتد جذوره لأكثر من أربعة عقود. وما لبثت العلاقات أن عادت الى طبيعتها بعد أشهر من التوتر.

ومع اندلاع الأزمة العراقية، واجهت تركيا معضلة صعبة تتلخص في رفضها لمنطق الحرب الذي يتناقض مع مصالحها الوطنية من جهة، وتأييدها للحليف الأمريكي الذي بدا أنه مُصِرٌ على خيار الحرب، بينما تحاول تركيا تفادي السلبيات التي نجمت عن تجربتها السابقة في التعاون مع الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية؛ إذ خسرت تركيا ما بين 50ـ 100 مليار دولار من مواردها التجارية خلال عقد التسعينيات وما بعده نتيجة للعقوبات الاقتصادية التي فُرِضَت على العراق.

كما أن المدن التركية المتاخمة للعراق عانت أسوأ العواقب من الحصار الاقتصادي، وهو الأمر الذي دفع الأكراد الناقمين على الحكم التركي والعاطلين عن العمل الى الالتفات نحو العمل السياسي وحمل السلاح ضد الدولة. وإذا كانت تركيا قد لجأت للمساومات والتقدم بطلبات ضخمة للأمريكيين، فقد كان ذلك نتيجة للدعم الشعبي الكبير الذي رأى أن الحرب ليست حرب تركيا.

(7)

تُعد المسألة الكردية في العراق جوهر القضية العراقية بالنسبة الى تركيا، وتمثل معادلة صعبة في العلاقات التركية ـ الأمريكية، وعامل انقسام حقيقي في سياسة كل من تركيا والولايات المتحدة تجاه هذه المسألة؛ فتحالف الأكراد مع أمريكا أعطاهم دفعاً قوياً باتجاه المطالبة بكركوك ومناطق وأقضية كبيرة في محافظة الموصل، وهو ما يُعد خطاً أحمر بالنسبة لتركيا، الأمر الذي أدى الى استياء شديد من أنقرة تجاه سماح واشنطن للأكراد برفع سقف مطالبهم الى مستوى تصفه تركيا ب (الخطير).

وعلى الرغم من أن بوش قدم لأردوغان ضمانات ووعوداً قوية بعدم السماح للأكراد بالسيطرة على مدينة كركوك، فإن مخاوف تركيا من تقدم مستوى التحالف الكردي ـ الأمريكي في العراق باتجاهات لا ترغب فيها تركيا، وتهدد ما تصفه ب (مصالحها القومية)، تقوض تلك الوعود وتجعلها غير ذات قيمة على أرض الواقع.

ومهما يكن حجم الخلاف التركي ـ الأمريكي حول المسألة الكردية في العراق، فإن الولايات المتحدة تدرك جيداً، في نهاية الأمر، أن علاقاتها الإستراتيجية مع تركيا غير قابلة للمساومة مقابل علاقاتها مع أكراد العراق، ذلك أن مستوى المصالح الإستراتيجية المشتركة بين تركيا والولايات المتحدة يعلو على مستوى أية مصالح يمكن أن تتمخض عن التحالف الكردي ـ الأمريكي.

من هنا، فإن الولايات المتحدة غير مستعدة للتضحية بمصالح إستراتيجية بعيدة المدى مع شريك إستراتيجي غير قابلة للمساومة، مثل تركيا، مقابل مصالح أخرى مؤقتة وقصيرة المدى أملتها ظروف الحرب على العراق.

يمثل وجود بعض مقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي في شمال العراق تحدياً إضافياً آخر للتحالف التركي ـ الأمريكي، ويضع الولايات المتحدة بعد احتلالها للعراق أمام مسؤولية تنفيذ وعودها التي قطعتها لتركيا بالتنسيق معها حول تصفية عناصر هذا الحزب الذي عَدَّته (منظمة إرهابية).

وعلى الرغم من انزعاج تركيا مما اعتبرته (سياسة التسويف والمماطلة) الأمريكية في تنفيذ تلك الوعود، فإنها تتفهم وضع الولايات المتحدة الحرِج في العراق، الأمر الذي جعلها تتخبط في وضع خططها السياسية والعسكرية هناك، وأعاق مخططها الإستراتيجي في المنطقة.

وبالتالي، فإنه في الوقت الذي لا تريد فيه تركيا إغضاب الولايات المتحدة وتحميلها أعباءَ جديدة داخل العراق، فإن إصرارها المستمر على الجانب الأمريكي في هذا الصدد يأتي من محاولة استغلال فرصة إعطاء الولايات المتحدة لها الضوء الأخضر في تصفية مقاتلي حزب العمال الكُردستاني، حتى لو تطلب ذلك العمل بمفردها.

انتهى