ألم ومخاض ناتج عن حالة تكبل الشاعرة
ليست قصيدة حب بل وصف لحالة صراع نفسي بين أنثى وأناها ونفسها
قبل الدخول الى جو القصيدة وسبر أغوار معانيها نقول : أرى ان الشاعرة نجحت الى حد بعيد في تورية معانيها ، والتورية تشتمل على معنيين ، قريب وبعيد ، فالقريب هو ما يفهمه القارئ العادي عند قراءة النص ( أي السطح) ، أما البعيد فهو المعنى الحقيقي الذي يرمي اليه الشاعر ويقصده ( القعر والعمق ) ، وهذا يذكرنا بمبتكر التورية في الادب العربي ، الصحابي حُميد بن ثور الهلالي ، حين منع الخليفة عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، ان يذكر الشعراء اسماء محبوباتهم في الشعر ، فاحتال حميد على القانون ، وقال :
أبى الله إلا أن سَرْحَةَ مالكٍ ** على كل أفنان العِضاهِ تَروق
فكنى عن المرأة بالسرحة ، وهي الشجرة ، وتروق : تزيد على سواها بالحسن والبهاء. والشجرة تزيد طولا ، ونرى أن البيت يحمل معنى قريبا ، ومعنى آخر بعيدا هو الذي قصده الشاعر . وهذا هو بالضبط المسلك الذي سلكته الشاعرة ريما في قصيدتها من بدايتها الى نهايتها ، ونجحت في ذلك الى حد بعيد.
والى القصيدة بقراءة تفصيلية ، فنقول : انه برغم ما في القصيدة من جمال موسيقي تبثه التفعيلة الموسيقية ( مفاعلتن /مفاعيلن) ، الا أنني احس بحزن ينساب من خلال هذا الايقاع ، وما يبعث الحزن هنا ، هو مفردات القصيدة ذاتها ، وأراها بكائية واستصراخا ، من الشاعرة ( الانثى) الى نفسها ( الأنا الجوانية أو الانثى فيها، او نفسها ) . ان القصيدة بمثابة خطاب شاعرة الى نفسها وصراع معها ، ودعوة لها لتمضي الى شاطئ السكينة والهدوء والصفاء ، وتدخل هنا الصورة المرفقة كأنها نص يشرح الى أين تريد الشاعرة الفرار والمضي ، وهذا يشير الى الضيق والوحدة وحالة القلق التي تعيشها ، لانها لم تجد من تخاطبه سوى نفسها ، وربما وجدت ، الا أنها آثرت مخاطبة النفس ، وكلاهما مؤنث ، والانثى خير مستمعة لشقيقتها ، فما بالك حين تكون الانثى أناها وفي داخلها . كذلك لا أرى القصيدة قصيدة حب ، بالعكس فما هذه المعاني الا تورية وحيلة من الشاعرة ، نجحت الشاعرة فيها ، لاخفاء الدموع والحالة التي تكتنفها ، وتعيشها هي بدءا، وليس المتكلم هنا مذكرا ، أو ان الشاعرة جاءت بالقصيدة على لسان مذكر يخاطب مؤنثا ، لا ، المتكلم هنا هي الشاعرة ، والمخاطب نفسها أو الانثى فيها .
أطيعيني ...أطيعيني....
وإن شئتِ ....
أذليني...
لأن الحبَّ لن يبقى ...
وقد يبقى ..ليرضيني...
بداية ومطلع يشير الى أن الشاعرة في قمة اليأس ، نتيجة عدم استجابة النفس لنداءاتها ، وربما هي تروض نفسها المستعصية ، بعد الانغماس في ملذات الحياة ، على الدخول الى حالة أو حالات ترى فيها غير ما كان حتى اللحظة ؛ تنادي النفس


( اطيعيني ) ، وليس هذا ، بل ( وان شئت / اذليني) ، وليس هذا الذل ذا بال ، لان الأهم هنا ان تطيعها ، ولو كلفها ان تذل لها ، ( لأن الحب لن يبقى) ، هذه الجملة تكشف عن صراع بين الشاعرة ( الانا المفكرة) وأناها أو نفسها التي بين جنبيها وميل كل منهما ، فهي في صراع ( بين العقل والقلب ) فهي (انا المفكرة) ترى ان الحب سيمضي ولن يبقى ، بينما النفس أو القلب يجمح اليه ويطلبه ، ثم تردف ( وقد يبقى .. ليرضيني) - لن يبقى / وقد يبقى - حالتان تشيان بارتباك وعدم استقرار ، رغم ترجيح الاولى ، فقد وردت تقريرية تحمل التأكيد ( لأن الحب لن يبقى) ، أما الثانية فجاءت محملة بالشك وعدم التأكيد ( وقد يبقى ) و(قد) تحمل نقيضها معها ، أي انه قد يبقى وقد لا يبقى ، وحتى ان بقي فهو يبقى ( ليرضيني) ، وهذه تحيل الى أمر قد لا يظهر للقارئ البسيط ، انها تحيل الى الشاعرة ، ونستشف منها امورا تتعلق بالشاعرة ( الجمال ، الصبا ، الاعتداد والثقة بالنفس ، ووووو) ، أي أن بقاءه سيكون طمعا برضاها ، وكيف يتحقق ذلك دون وجود من يحاول ارضاءها؟.
وسوفَ أعودُ للقيا...
وأوراقٍ تعزيني....
وأنسى أننا يوماً .. بحرفِ الودِ تَلويني...
وسوف أعود للقيا وأوراق تعزيني ، مما سبق ، تظهر اللقيا وكانها ليست الهدف المرجو ، بل هي تكملة لـ ( ليرضيني) ، وسيكون فعل اللقيا ذلك على كره وليس برضى واطمئنان ، لانها تقول بعدها ( وأوراق تعزيني) ، ولو طرحنا سؤالا ، عمَّ تعزيها الاوراق ، وهي تقول ( وسوف أعود للقيا) ، هنا يظهر الحال محملا بالقلق وعدم الارتياح لهذا الوضع ، وألاحظ اطلالة مسكوت عنه في قولها (وأنسى أننا يوما ً .. بحرف ِ الود ِ تَلويني...) ، أرى أن النقط ، سواء كانتا اثنتين أو عشرا ، والواقعتين بين ( يومًا .. بحرف) تخفيان مسكوتا عنه ، ربما هو صرخة في النفس التي ما تنفك تحاول اغراءها للعودة الى الماضي ، فكأنها تقول لنفسها بعد بسط الكلام والشكوى ( ماذا ، هل بحرف الود تلويني؟) وتلويني أي تكسرين ارادتي ، ولذا جاء ما تلا كرد على النفس :
فلن أحيا بلا حب ٍ ..
وثمة َ طائر ٍ يرنو..
إلى قفصي...يداريني...
يزقزق ُ في بساتيني...
ويسقيني ..بلا مَن ٍ...
مرارا ً من كؤوس ِ الحب...
وإن ضاعت ْ ...يلاقيني...
وتمضي باقة ُ الذكرى...
بلا طعم ٍ...
بلا لون ٍ...
لن تحيا بلا حب ، ولن ولن ، وكل ما تلا يأتي من باب لن يكون ذلك لانه ( بلا طعم ، بلا لون) ، ربما المعنى هنا أنه لا حياة فيه ، ميت ، وهناك طائر يرنو الى اليها في قفصها ، وهذه تحمل دلالة ، فالقفص يشير الى سجن ، وهو هنا سجن معنوي ، أي انحصار داخل حالة ، ربما احباط أو ضيق ، ويرنو الطير ، والطير مكانه الفضاء ، أو ربما هو تعبير عن الحرية ، فهي في قفص والطائر طليق ، أي تبادل أدوار ، فقد اعتاد الانسان على صنع القفص لسجن الطائر فيه ، بينما هنا هي السجينة والطائر طليق، وهذه مفارقة ، والطائر هنا يبدو كمتخيل أو حلم لدى الشاعرة اود تحققه، أو هو العالم الذي تتمنى أن يكون واقعا كمقابل لواقع اخر على النقيض ، وهو الواقع الذي تعيش فيه سجينة القفص، لذا ختم المقطع بقولها ( بلا طعم / بلا لون)
ونرحل ُ نحو َ أنهار ٍ ...شربنا ماءها يوما ً...
بلاسَمك ٍ ..ولا ألق ٍ ...
أجود ُ بورد ِ أعراسي...
أجود بحرف ِ كراسي...
أجود بعمري َ الباقي...
بلا طعم ٍ...
بلا لون ٍ...
وهذا المشهد يندرج ضمن نفس السياق السابق ، بل يتماهى معه ، وقد ختم بنفس الجمل (بلا طعم / بلا لون ) .
أطيعيني...
أطيعيني...
بلا حب ٍ بلا قُرب ٍ...
وضميني...
أجيبي صرخة َ الملهوف....
في روض ِ الرياحيني ِ.. ( الرياحين)
بلا ود ٍ بلا قلب ٍ...
هنا يعود الكلام الى بدايته ( اطيعيني) وقد يبدو للبعض كتكرار ، لكنه لا يظهر لنا كذلك ، بل يظهر لنا كتعبير عن عمق الازمة وارتفاع حدتها ، حيث تحاول النفس

( الامارة بالسوء!!!) ، والنفس كذلك حقيقة ، ان تثنيها عن المضي في الطريق ، بل حاولت ان تلويها وتكسر عزيمتها ، فجاء الكلام هنا متشابه الحروف مع المطلع مختلف الوقع ، لانه هنا يأتي صرخة وبصوت مرتفع ، وفيه رجاء واستعطاف لهذه النفس ، فهي تقول لها ( اطيعيني /بلا حب بلا قرب) وهذا معناه ، دعي الحب والقرب ، وضميني ، واجيبي صرخة الملهوف ، ومن الملهوف هنا ومن المخاطب؟ ، قد يبدو للقارئ البسيط ان استعمال لفظ التذكير يحيل الى رجل ، مذكر، يخاطب أنثى ، لكن بالنظر الى عمق النص منذ بدايته ، لا نجد أثرا للرجل ، وربما تعمدت الشاعرة هذا كتورية منها ، لابهام المعاني ، فهي نفسها الملهوف/ـة ، رغم ورود الكلمة بصيغة المذكر، وتختم (بلا ودٍ بلا قلبٍ...) أي دعيني من كل هذا ، بلا ود بلا قلب ، والمعنى بلا ما يكون في القلب ، أي الحب ، أي اتركي هذه ودعي الوسوسة .

لكي تبقى مراسيلي...
تسافر ُ نحو َ شط ِّ الحب ...
ورَغما في مواويلي...
ولونا ً في رياحيني...
يبدو لي أن الشاعرة تتمتع بهمة عالية وعزيمة واصرار ، واذا استمرت معركتها ، فاني أراها منتصرة على نفسها ، وسنرى بيان ذلك ، (لكي تبقى مراسيلي... /تسافر ُ نحو َ شط ِّ الحب ...) ، مراسيلي !!! استعمال مفردات بسيطة ، يشير الى عاشقة تبعث مراسيلها لتصل الى شط الحب ، لكن القراءة المدركة للنص ، لا تقول هذا ، فهي تستبطن النص لتخرج مكنونه ، فشط الحب ، هو (شط الفكر) في العنوان ، وكلاهما يدلان على الامن والامان والهدوء ، والصورة المرفقة للقمر والماء ليلا ، تشير الى الصفاء وتستحث التأمل في الوجود ، ويقينا هذا هو ما تحاول الشاعرة الهرب اليه ، انه شاطئ الامن والهدوء والصفاء ، كمقابل لشاطئ الحياة والواقع بصخبه وضجيجه وهمومه ، الذي تصارع الشاعرة للتخلص منه ، وهو نفسه الذي تشدها اليه نفسها .
فكوني أنت ِ مزماري..
يغني في شرايينيِ....
برَغم تنقل ِ الشحرور ِ بين بلابل ِ الوادي...
لأني سوفَ أنساكِ ...
لتنسيني...
بوادي الظلمةِ الكبرى...
تلح على النفس ان تكون مزمارها الذي يغني في الشريان ، وما دام في الشريان فقد وصل حد الانصهار معها ، وهي لا تلتفت الى سواه ، رغم تنقل الشحرور بين بلابل الوادي ، والشحرور طير والبلابل طير ، ثم تردف (لأني سوفَ أنساكِ .../ لتنسيني... / بوادي الظلمةِ الكبرى...) ، هنا تأكيد بالنسيان من كليهما ، وأين بوادي الظلمة الكبرى ، وهنا يلوح لنا ما يشبه المفارقة بين بلابل الوادي ووادي الظلمة ، فالشحرور والبلابل لها صوت ، والوادي ربما هو واقع الصخب والصوت في الحياة ، ووادي الظلمة ، تكشف الظلمة معناه ، فالظلمة من أهم صفاتها الهدوء والسكون ، وهذا يحيل مرة أخرى الى الصورة المرفقة ، فهي تحمل هذه الصفات ، فهل ارادت الشاعرة النهار وضجيج البشر كمقابل لظلام الليل وسكونه ، وعندما تصلها ستنسى النفس والنفس تنساها ، ومعنى النسيان انها تكون قد انتصرت وحققت ما تريد ، وحينها تكون النفس برغباتها منسية كانها غير موجودة ، وتكون الشاعرة قد وصلت الى ما تريد ، الى شاطئ الفكر الذي شخص كعنوان .
وأرحل ُ ..
تظمؤ ُ الذكرى... (تظمأ)
وأرحل ُ..
يا ظلام َ البعد...
يرنو.. نحو َ أوقات ٍ ..
ألملمها...
وأرنو ..نحو َ أوطان ٍ ..
أجمّعها...
بلا لون ٍ..
بلا ود ٍ..
رحيل بدأ نحو الهدف ، يعتريه تشويه لكنه لن يقطع الرحلة ، تظمأ الذكرى ، والظمأ هنا ربما هو الجفاف ، بمعنى انتهاء الذكرى وعدم فاعليتها ، أي انقطاع حبل الماضي ، وهو يشير الى ضعف تأثير النفس على الشاعرة ، فما عادت تكترث لوسوسات النفس ، وتستمر ، ويرنو ظلام البعد نحو أوقات تلملمها ، وظلام البعد ياخذ صفة مؤنسنة ، انه يرنو وينظر الى أوقات تلملم ، ربما هي ذكريات مضت ، ثم هي ترنو الى أوطان تجمعها ، هل هي أوطان جديدة لا علاقة لها بالماضي ، بدليل قولها بلا لون بلا ود ، أي ما زالت غير واضحة المعالم وغير مألوفة ؛ لانها لو كانت أوطانا سابقة ، لكانت صفة الحنين مبثوثة ، فالمرء لا يفقد الحنين الى الوطن الحقيقي الذي ربي فيه وقضى فيه صباه ، فمرابع الصبا لا تغيب من الذاكرة مهما غاب الانسان عن وطنه .
ولكن ..
كي تلاقيني..
أجدد ُّ فيكِ تلحيني...
فكوني...
زهرةَ الرمانِ في كأسي ..
لتسقيني...
فتسقيني...
بداية المقطع هنا ( ولكن) هي استئناف لقولها (بلا لون ٍ.. /بلا ود ٍ..) ، تجمع الاوطان ، ليكون التلاقي ، وما دام التلاقي فقد سبقه فراق ، أي ستفارقها في الطريق الى الشاطئ ثم تعود وتلتقيها ، ولكن بعدما تكون قد حققت الهدف ، وعندها تكون النفس أليفة طيعة في يدها محببة اليها ( أجدد فيك تلحيني) ، ( وكوني زهرة الرمان في كأسي/لتسقيني/فتسقيني) ، لماذا زهرة الرمان ، الجلنار، بالذات ؟
أطيعيني...
أعيديني...
إلى صفحات عودتنا...
فلن أحيا بلا حب ٍ...
أعيديني...
أعيديني...
هذا المقطع الختامي والذي سبقه ، نستشعر فيهما الفة ومحبة بين الشاعرة والنفس ، فليس من محاولة اغواء ووسوسة من النفس ، ولا ارتباك وتشنج وضيق من الشاعرة ، بل تبدو العلاقة حميمية هنا ، والسبب هو تحقق ما أرادت بعد الرحلة ، ولذا بعدها اصبح الحب مطلوبا ، وتريد منها أن تعيدها ، لكن الى أين ؟ هل من الشاطئ الى البر ، أم عودة في رحلة اخرى للشاطئ ، حيث الامن والامان والصفاء والهدوء ؟ فقد رأينا صراعا في البداية ومع انتهاء القصيدة كانت الالفة قد حلت مكان الصراع ، وهذه حالة ، أو رسم معالم حالة تعيشها الشاعرة ، وقد أثرت النص بتورية أضافت أبعادا وجماليات للنص والتأويل ، وارى الامر أشبه بدائرة تبدأ الرحلة والنص من نقطة عليها ، وتنطلق الشاعرة ونفسها في مسارين متضادين ، لكنهما تسيران نحو الالتقاء في نقطة النهاية . النص ينفتح على دلالات متعددة تغنيه وتثريه ، وهذا بلا شك يحسب للشاعرة ، وقدرتها على التحليق بقارئها بعيدا في الاعالي.
بقيت ملاحظات قليلة :
في قول الشاعرة : (مرارا ً من كؤوس ِ الحب... /وإن ضاعت ْ ...يلاقيني...) حرف الباء من كلمة ( الحب) ، نحس تلقائيا بنزوعه للتحريك وليس التسكين.
كذلك هناك بعض الاخطاء الطباعية ، بالاضافة الى التشكيل وتنوين الفتح الذي يكون على الالف ، فمكانه ليس على الالف ، لان الالف حرف مد ساكن ، لا يشكل أبدا ، وحتى في اللفظ نشعر ان التنوين مرتبط بالحرف الذي يسبق ، وهناك أيضا بعض التشكيل يحتاج الى تدقيق أكثر.
تقسيم القصيدة الى مقاطع من عندنا .
تقديري للشاعرة ريما الخاني .

http://r7abalaebda3.net/vb/showthread.php?t=794

http://www.omferas.com/vb/showthread.php?t=21689&page=2