باكثير كاتبا مسرحيا
كلمة عن مسرحية "أوزيريس"


بقلم د. إبراهيم عوض


علي أحمد باكَثير (1328- 1389هـ/ 1910 - 1969م) كاتب قصصي ومسرحي وشاعر حضرمي الأصل، مصري الجنسية. ولد في مدينة سورابايا الإندونيسية لأبوين حضرميين حيث قضى طفولته الأولى. وفي الثامنة من عمره أرسله أبوه إلى حضرموت لينشأ نشأة عربية على عادةالأسر الحضرمية في المهاجر، إذ كانت تحرص على تربية أبنائها في جو عربي إسلاميخالص. وفي مدينة سيوون الحضرمية تلقى في الكُتَّاب المعارف اللغوية والدينية الأساسية. وبعد إقامة قصيرة في الحجاز سافر إلى مصر، والتحقبالجامعة المصرية عام 1934م، فدرس اللغة والأدب الإنجليزيين بقسم اللغة الإنجليزية من كليةالآداب. وبعد تخرجه عمل في التدريس أربعة عشر عامًا عين بعدها في قسم الرقابة على المصنفات الفنية بوزارة الثقافة في مصر، وقام برحلات مع بعض البعثات إلى فرنسا وروسيا وغيرهما.
وقد بدأت قبل ذلك شخصية كاتبنا في الانطلاق والبحث عن الجديد في الفنون والفكر، وأخذ ينشر قصائده في كبريات المجلات الأدبية مثل"أبولو" و"الرسالة"، ونال استقبالاً حسنًا من القراء والنقاد، وأصبح له حضوره المتميز في الوسط الثقافي، ونال عدةجوائز وأوسمة: ففي عام 1962م حصل على جائزة الدولة التقديرية للآداب، وعلى وسام عيد العلْم. كما حصل على وسام الشِّعر في مهرجان خاص أقيم بالجيزة تكريمًاللشاعر الملحمي الكبير أحمد محرَّم.
وتتنوع أعمال باكثير بين المسرحية الشعرية والنثرية والروايات والدراسات الأدبية. ومن أهم مسرحياته النثرية "الفرعون الموعود، وشيلوك الجديد، وعودة الفردوس، ومأساة أوديب، وأبو دلامة، ومسمار جحا، ومسرح السياسة، وإمبراطورية في المزاد". أما مسرحياته الشعرية فمنها "همام أو عاصمة الأحقاف، وقصر الهودج، وأخناتون ونفرتيتي".كما ترجم شعرًا"روميو وجولييت"لشكسبير. وله من الروايات "سلاّمة القس، ووا إسلاماه، وليلة النهر، والثائر الأحمر، وسيرة شجاع". وفي الدراسات الأدبية له كتاب بعنوان"فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية". ويتميز باكثير بكتاباته التي تجمع بين الرؤية الإسلامية والفكرالعربي ذي النزعة الإنسانية العامة. أما أسلوبه فيتسم بقوة العبارة ونقائها وإحكامها. وقد تناولت الدراسات الأكاديمية أعماله بالدرس والتحليل، وبوجه خاص ريادته لفنالمسرحية الشعرية (عن المادة المخصصة لـ"على أحمد باكثير" فى "الموسوعة العربية العالمية" بتصرف).
وقد عرفت باكثير منذ الصبا الأول وقرأت له مبكرا رواياته جميعا ما عدا "سلامة القس"، وفُتِنّت به، وكان لاسمه غير المألوف فى مصر على آذاننا وعقولنا فى قريتنا فى وسط الدلتا حيث تعرفت إلى رواياته التاريخية الـمُلْهِمَة وقعٌ مدهشٌ جميل، وإن كنت لم أقرأ له من إبداعاته المسرحية أوانئذ شيئا، بل لم اقرأ له منها حتى الآن إلا أقل القليل. وسبق أن تناولت بالعرض والنقد مسرحيته: "سر الحاكم بأمر الله"، وهى تأتى عندى على رأس المسرحيات الست التى درستها فى كتابى: "دراسات فى المسرح"، لا أستثنى من ذلك مسرحية الحكيم: "السلطان الحائر". كما سبق أن درست روايته: "ليلة النهر" فى كتابى الآخر: "فصول من النقد القصصى". وإنى ليعترينى الأسف الآن وأنا أكتب هذه السطور أنه لم تتح لى فرصة لقاء الرجل، رحمه الله، فمن الواضح أنه كان كريم النفس شهما نبيلا. وزاده شهامة فى نظرى ونبلا أنه وقف إلى جانب المرحوم المجاهد الفلسطينى محمد على الطاهر، الذى أبكانى أنا وزوجتى ونحن نقرأ فى أوكسفورد كتابيه عن فترة هروبه من السجن وتخفِّيه عن أنظار الشرطة والسلطة الإنجليزية التى كانت تنكل بكل حر أبى شريف يرفض الخنوع لها والصمت على ما تفعله ببلاد العروبة والإسلام، وبخاصة فى الأراضى الفلسطينية المباركة، والمؤازرة التى تلقاها من الرجال الأحرار الأوفياء أمثال على أحمد باكثير وإلياس أنطون إلياس صاحب "القاموس العصرى" ممن كانوا يعرضون أنفسهم بذلك لأشد ألوان الأذى والتنكيل لو قُدِّر لأمرهم معه أن ينكشف. كما لا ينقضى عندى العجب من هذا الاهتمام الذى أبداه باكثير نحو تاريخ مصر القديم، والذى استفزه للكتابة المسرحية عنه عدة مرات أبدع فيها إبداعا عظيما رغم أنه لم يكن مصريا بالدم بل بالتجنس، فضلا عن أنه لم ينشا فى مصر، بل وفد إليها وهو فى السن التى يلتحق فيها الشخص بالجامعة. وهى عجيبة من العجائب لا ريب فى ذلك.
وتعالج مسرحية "أوزيريس" لباكثير أسطورة "إيزيس وأوزيريس" الفرعونية المعروفة، التى كانت تتخذ بداية كل ربيع شكل احتفالات تمثِّل تناوب الفصول، ممجدة عودة الإله أوزريس للحياة بعد أن قتله أخوهالإله الشرير ست. وكان المصريون القدماء ينظرون إليه بوصفه مصدرًا لخصوبة الأرض، وضاهَوْه بنهر النيل، وارتبط اسمه عندهم بالحبوب والحصاد. وفي تلك الاحتفالات كانت القصة الكاملة تمثل في شكل ديني شعبي يبين كيف قتل ست الشريرُ أوزيريسَ الحاكمَ الشرعىَّ الطيب الذى لقن الناس معنى الحضارة وعلمهم الصناعات وبناء المدن وسار فيهم سيرة الرفق والعدل والرحمة، إذ كان ست يحقد عليه وحبك مؤامرة للتخلص منه فصنع تابوتا على مقياسه هو وحده، ثم طلب من الحاضرين أن يجربوه، ومن يجده على مقياسه فهو له. ثم ما إن جاء دور أوزيريس ودخل التابوت لتجربته حتى سارع ست ورجاله الأشرار فأغلقوه عليه وحملوه وألقوه فى النيل، الذى حملته تياراته إلى البحر، ومن هناك إلى مدينة ببلوس فى أرض فينيقيا حيث استقر عند أصل شجرة مدت أغصانها واحتضنته حتى غيبته فى جوف جذعها، وحيث شاهدها الملك فأعجب بها وقطعها وجعلها عمودا من أعمدة قصره. وفى تلك الأثناء ظلت إيزيس الزوجة الوفية الوالهة تبحث عن جثة زوجها حتى وجدتها ونجحت فى استردادها وأعادت إليه الحياة، ثم انتقمت له بعد ذلك من ست على يد ابنهما حورس إلهالسماء.
وموضوع المسرحية، كما نرى، موضوع أسطورى. وللموضوعات الأسطورية والتاريخية عند باكثير حظوةٌ وضَّح هو أسبابها، إذ نقرأ فى كتابه: "فن المسرحية من خلال تجاربى الشخصية" أنه يفضل كتابة هذا اللون من المسرحيات على المسرحية العصرية، موردا بعض العوامل المسؤولة عن هذا الميل لديه، ومنها إيثاره أن يكون المسرح قائما على الرمز كما هو الحال فى المسرحيات التاريخية، لا على التعيين والتحديد كما فى المسرحيات العصرية الواقعية. ذلك أن الأحداث الماضية قد ابتعدت عنا بما فيه الكفاية كى تتجرد من كثير من تفصيلاتها وملابساتها فتصبح أقرب إلى الرمز منها إلى الحقيقة، وهو ما يتحقق فى ذلك الضرب من المسرحيات على نحو أقوى. وثم سبب آخر يدفع باكثير إلى إيثار تلك المسرحيات هو أن ثم تقليدا فى كتابة الحوار فى المسرح شاع وذاع، خلاصته استعمال الفصحى فى المسرحيات التاريخية والأسطورية والمترجمة، وحَصْر العامية فى نطاق المسرحيات العصرية. ولما كان هو من أنصار الفصحى فقد فضل اللجوء إلى التاريخ والأساطير يستلهم منها مسرحياته على اللجوء إلى اختيار الموضوعات من الواقع المعاصر حوله. على أنه لم يتجنب المسرحيات العصرية تمام التجنب، إذ له من هذا اللون "الدكتور حازم" و"الدنيا فوضى"، وإن لم يتخل فيها عن مبدئه فى التزام الفصحى، لكن مع تطعيمها بالروح الشعبية والألفاظ التى تَحُور إلى أصل فصيح (انظر "فن المسرحية من خلال تجاربى الشخصية"/ مكتبة مصر/ 1984م/ 44- 46، 94- 98).
وقد حرص باكثير فى هذه المسرحية على فخامة اللغة، ومن ثم رأيناه يلجأ إلى اللغة القرآنية ولغة المؤلفات التراثية الجليلة فيجرى على تراكيبها أو يستعمل تعبيراتها ومفرداتها. وفى معظم الأحيان يوفق فى ذلك توفيقا عظيما، إذ يستعمل تلك اللغة الفخمة فى موضعها تماما كما هو الشأن عندما يجريها على لسان الملك أو الملكة مثلا، حسبما هو الحال فى الشواهد التالية: "فلما أن سمع حديثه..." (تركيب قرآنى مثل قوله عز شأنه: "فلما أن جاء البشير..."/ يوسف، "فلما أن أراد أن يبطش بالذى هو عدو لهما..."/ القصص، "ولما أن جاءت رسلنا لوطا..."/ العنكبوت)، "سبحان الذى خلق وسوى وجمَّل وحلَّى" (ص15. وفى القرآن: "سَبِّح اسم ربك الأعلى* الذى خلق فسوَّى* والذى قَدَّر فهدى* والذى أخرج المرعى* فجعله غُثَاءً أحوى")، "يهدينى سواء السبيل" (ص20. وفى القرآن: "قال: عسى ربى أن يهديَنى سواء السبيل")، "فلا تصل أيديهم إلىّ" (على لسان أوزيريس/ ص37. وفى سورة "هود" يقول ربنا جل شأنه عن إبراهيم عليه السلام حين قدم عليه ضِيفانٌ فقدم لهم طعاما فلم يمدوا أيدهم إليه ليأكلوا: "فلما رأى أيديهم لا تصل إليه (أى إلى الطعام) نَكِرَهم وأَوْجَس منهم خِيفةً")، "لا تخافوا ولا تحزنوا" (ص12. وفى القرآن الكريم: "لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعَدُون")، "يقادون إلى إنصافهم بالسلاسل" (ص13. وفى الحديث النبوى: "يقادون إلى الجنة بالسلاسل")، "زوَّرْتُ فى نفسى الحجج والبراهين" (بمعنى "أخذت أُعِدّها فى ذهنى"/ ص14)، "إن كنت فى شك من..."/ ص72. وفى القرآن خطابا للنبى عليه السلام: "فإن كنتَ فى شكٍّ مما أنزلنا إليك...")، "لكل صالح فيها عدو من المجرمين" (ص72. وفى القرآن: "جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين")، "يا ويلتا!" (ص76. وقد تكررت هذه اللفظة فى القرآن كما فى قوله عز شأنه على لسان قابيل قاتل أخيه هابيل: "يا ويلتا! أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب فأوارىَ سوأةَ أخى؟"، وقوله على لسان سارة زوجة الخليل: "يا ويلتا! أألد وأنا عجوز، وهذا بعلى شيخا؟"، "أتريدون أن تذبحوه كما ذبحتم ابنى حوريس؟" (ص85. وفى القرآن على لسان أحد الإسرائيليين المصريين يخاطب موسى عليه السلام: " أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسا بالأمس؟"، "إن الله معنا" (ص86. وهى عبارة قرآنية وردت بنصها وفصها فى سورة "التوبة")، "إلى كلمة سواء" (ص106. وهى عبارة قرآنية من قوله تعالى خطابا للنبى محمد عليه السلام فى سورة "آل عمران": "قل: يا أهل الكتاب، تعالَوْا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم: ألا نعبدَ إلا الله ولا نشركَ به شيئا ولا يتخذَ بعضنا بعضا أربابا من دون الله")
ولكن على الناحية الأخرى حين نجد باكثير يُنْطِق أحد العامة فى المسرحية بتلك اللغة التى تنفح عَرْفا قرآنيا، نستغرب، لا من اللغة الفخيمة فى حد ذاتها، فقد ذكرتُ أن من أسباب نجاح المسرحية هذا التناسب بين جلال اللغة ومجادة أبطالها المحوريين كإيزيس وأوزيريس وحورس، بل من إجرائها على لسان بعض الشخصيات التى لا يمكن أن تصدر عنها لأن مستواها اللغوى والفكرى لا يرقى إلى السمو الذى يسربلها. خذ مثلا البستانى آمو فى حديثها عن الملكة إيزيس: "وَىْ! كأنها مقبلة" (ص9. وهو ما يذكّرنا بقوله تعالى على لسان قوم موسى فى سورة"القَصَص": "وَىْ كأنه لا يفلح الكافرون"). ترى هل مثل تلك اللغة الفخمة يليق أن تسند إلى بستانى؟
على أن باكثير لم يستلهم عبق الأسلوب القرآنى الجليل فى هذه المسرحية وحدها، بل اتبع هذه السنة فى أعماله الإبداعية الأخرى، إذ كان الأسلوب القرآنى يملأ عليه عقله ووجدانه، فكان من الطبيعى أن ينبجس على سن قلمه تلك اللغة الفخيمة، على الأقل: فى المواقف التى تناسبها تلك اللغة الفخيمة، وهو ما يعرفه دارسو باكثير. ومنهم إقبال هاشم (Eeqbal Hassim)، الذى كتب بالإنجليزية بحثا عن هذا الموضوع عنوانه: "The Significance of Qur’anic Verses in the Literature of Ali Ahmad Bakathir" (أى "دلالة الآيات القرآنية فى أدب على أحمد باكثير") يجده القارئ فى المجلد الأول من مجلة "NCEIS" (2009م)، من إصدارات جامعة ملبورن بأستراليا. ومنهم كذلك مارفن كارلسون (Marvin A. Carlson) وداليا بسيونى (Dalia Basiouny)، اللذان قاما بترجمة مسرحية "مأساة أوديب" لكاتبنا رحمه الله فأشارا إلى أن ذلك الاستلهام قد شكل لهما صعوبة فى ترجمة ذلك العمل إلى لغة جون بول. وقد وقف د. عبد الحكيم الزبيدى عند بعض الهنات التى تَحُور إلى هذا السبب، ومنها قول باكثير: "لا يَجْرِمَنَّك شَنَآنُ المعبد يا أوديب على أن تنسى مصلحتك" (انظر مقاله فى "مجلة واتا للترجمة واللغات" المشباكية بعنوان "ملاحظات على ترجمة "مأساة أوديب" لعلي أحمد باكثير إلى الإنكليزية"، وهذا رابطه: http://www.watajournal.com/mag4/Researches/1.html. أما الترجمة المذكورة فقد ظهرت فى 2006م مع ترجمة ثلاث مسرحيات عربية أخرى عن نفس الموضوع ضمن كتاب يحمل عنوان "The Arab Oedipus: Four Plays From Egypt and Syria"، وهو من نشر Martin E. Segal Theatre Center Publications). ولا أدرى كيف غاب عن فطنة المترجمَيْن الاستعانة مثلا بترجمات القرآن الكريم أو بمعجم إدوارد وليم لين: "مدّ القاموس" فى نقل مثل تلك التعبيرات والتركيبات إلى الإنجليزية نقلا دقيقا!
على أن هذا لم يمنع أن تظهر فى مسرحية "أوزيريس" بعض التعبيرات العامية أو التعبيرات ذات النكهة الشعبية المصرية كما فى قول نفتيس زوجة ست لإيزيس أختها: "حسبى الله منك يا إيزيس"، وكأنها امرأة مسلمة مصرية من عصرنا، وإن كنا فى مصر نقول عادة: "حسبى الله، ونعم الوكيل"). ومثل ذلك نكهةً شعبيةً مصريةً قول أوزيريس عن سِتْ أخى زوجها: "لعل ربنا أن يصلح يوما حاله" (ص37). وبالمثل يقابلنا هذا التعبير الشعبى المعروف: "الحيطان لها آذان"، وإن كان باكثير قد فصَّحه، أى أجراه على سنة الأسلوب الفصيح كما هو واضح، فردّ الواو والدال فى "وِدَان" همزة وذالا (ص33).
وإذا كان باكثير يستلهم عبق الأسلوب القرآنى فى مسرحيته التى بين أيدينا فالحق أن تأثير القرآن فى هذه المسرحية لا يقتصر على استيحاء أسلوبه الجليل، بل نرى هذا الأثر أيضا موجودا فى بعض المفاهيم التى تنتسب إلى الإسلام وكتابه الكريم، مثل قول أوزيريس: "الله استخلفنى على هذا الوادى الأمين"، بدلا من أن يقول مثلا إنه ظل الله فى أرضه، أو إنه هو الإله. ثم فلنلاحظ أنه استخدم التسمية الإسلامية للإله، وهى كلمة "الله" (ص18)، وإن كان إيزيس وأوزيريس قد استعملا فى ص95- 96 مثلا كلمة "الرب" بدلا من "الله".وهناك قول أوزيريس: "لقد أيقظنى ربى وشرح صدرى للخروج الساعة" (ص37)، وهى عبارة إسلامية المعنى تماما. ومثلها قوله: "لكل امرئ أجلٌ هو مستوفيه" (ص37)، الذى ينظر إلى قوله سبحانه: "لكل أمة أجل. فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". كل ما هنالك أن باكثير يتحدث عن أجل الفرد، على حين تتحدث الآية عن آجال الأمم. وعندنا أيضا عبارة "الدار الأخرى بعد هذى الدار" (ص54)، التى تعبر عن عقيدة إسلامية أساسية، وبنفس الألفاظ تقريبا. وفى قول أوزيريس: "إياك يا هذا أن تغتر بقوة ساعدك. إن القوىّ الحق إنما هو القوىّ الخُلُق، الكريم النفس والروح، ففى ذلك فليتنافس المتنافسون. أما القوة البدنية فإن كثيرا من الحيوان يَفْضُل فيها الإنسان" مشابهة للحديث النبوى الذى يقول فيه سيد الأنبياء: "ليس الشديد بالصُّرَعَة. إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب" (ص53). ثم إن كلام أوزيريس وابن حورس عن أن طاعة الأب واجبة، وطاعة الأم أوجب (ص94) يذكرنا بقول الرسول فى الحديث التالى حين سأله أحد الصحابة: من أحق الناس بصحبتى يا رسول الله؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك. كذلك فقول أوزيريس وهى تبكى أمام حتحور: "لطفك يا إلهى بعبيدك" (ص82) هو تعبير ذو نكهة إسلامية، وكذلك قولها هى أيضا لست: "أخشى عليك من غضب الله ولعنته" (ص84). ولدينا أيضاهذا التعبير ذو النكهة الإسلامية الخالصة: "زُمْرة الصالحين" (ص21).
ومما يجدر ذكره كذلك حديث حوريس إلى أمه عن بَرَكة أشلاء أوزيريس على مصر والمصريين، وكأننا أمام مسلم متصوف يتكلم (ص112). وهذا هو نص الكلام: "كلا يا أماه لم يذهب دم أبى هدرا. لقد أراد هذا الشرير (يقصد عمه ست) أن يمحو أوزيريس من الوجود فاغتاله وقطعه إِرْبا إِرْبا وفرق أشلاءه، فإذا حكمة الرب تجعل من هذه المحنة نعمة على أوزيريس بخلود الذكر، وعلى مصر بالنماء والازدهار، إذ حلت بركة تلك الأشلاء على أرجاء الوادى فزادته خصبا على خصب. وكذلك حكمة الرب جل جلاله: يُخْرِج من الشر خيرا، ومن الموت حياة، ومن الظلام نورا". ولا ينبغى أن يفوتنا فى هذا النص عبارة "جل جلاله"، التى ألحقها حوريس باسم الجلالة، وهو تقليد إسلامى صرف كما نعرف جميعا، وكذلك الإشارة إلى إخراج الله الحياة من الموت.
وعلى العكس من أوزيريس، الذى رأيناه يقسم بــ"الله"، نجد نفتيس (أخت إيزيس) وزوجة سِتْ الشرير (أخى أوزيريس) تقسم بــ"رب الأرباب" لا بــ"الله" (ص32، 35). ونفس الشىء يفعله حاكم ببلوس الوثنى، الذى يقول مستنكرا: "معاذ الآلهة" (ص72). وأغلب الظن أن باكثير يريد أن يقول هنا بطريق غير مباشر إن هناك فرقا بين أوزيريس وأخيه ست: فالأول مؤمن موحد، أما الثانى وزوجته فليسا موحدين. وإنى لأتصور أن باكثير، حين جعل من أوزيريس وزوجته مؤمنين موحدين، كان يرد على من ألهوهما وابنهما وصنعوا منهم ثالوثا مقدسا، فأراد باكثير أن يبرئهم من لُوثَة الرضا بهذه الوثنية التثليثية من خلال تصرفاتهم وأقوالهم وعقائدهم هم أنفسهم، إذ يريهم للقراء مؤمنين بالله كلاما وفعلا وعقيدة مستكنة فى الضمير. وهو بهذا يذكّرنا بما صنعه القرآن الكريم فى مثل هذا السياق مع عيسى عليه السلام، إذ أبرزه فى الدنيا ويوم القيامة مستنكرا تأليهه على أيدى بعض من يزعمون اتّباعه (المائدة ومريم).
ومما تأثر فيه باكثير بالقرآن فى تلك المسرحية أنه جعل ست ونيتا يستبقان الباب لاستقبال نفتيس زوجته. ففى هذا صدى قوى لاستباق يوسف وامرأة العزيز الباب فى السورة التى تحمل اسم ذلك النبى الكريم، فضلا عن أن ست يتهم نبتا أمام زوجته بأنها هى التى كانت تغازله، بالضبط مثلما فعلت زوجة العزيز مع يوسف، إذ اتهمته أمام زوجها بأنه كان يريد بها سوءا رغم أنها هى التى كانت تشده من ثوبه من وراء فمزقته. بل إن ست ليتهم إيزيس بأنها تراوده عن نفسه، وذلك كله قلبا للواقع (ص26- 29).
وهذا الذى صنعه باكثير فى "إيزيس" من خلق جو قريب من الجو الإسلامى هو انعكاس لشخصيته المؤمنة التى تعتز بدين محمد وما يعبق به من توحيد نقى خالص لا يوجد إلا فى دين ذلك النبى العبقرى الذى ليس له بين أبناء آدم ضريب. وهذا أمر معروف عن باكثير طوال حياته. وكان من ثماره أنْ ضرب الشيوعيون المصريون الخونة حوله حصارا فى أخريات حياته أرادوا به خنقه حين دان لهؤلاء الهمج غير المتحضرين كل شىء تقريبا فى عالم الثقافة الرسمى. وفى هذا الصدد يحسن أن ننقل ما كتبه د. نجيب الكيلاني عن مسرحية "حبل الغسيل" لباكثير من أنها "كانت صرخة شجاعة أدانت فساد المنهج وعفن الإدارة وانحراف المؤسسات الشعبية حينما استبد الشيوعيون بمقاليد الأمور في مصر في النصف الأول من عقد الستينات، حيث صنعوا من الشعارات واجهة للبلاد بينما هم يستغلونه وينفذون مخططا مُوحًى به إليهم من سادتهم خارج البلاد. وفي ذلك إدانة للفكر الماركسي وتجربته المشينة بمصر".
وممن لمسوا أيضا الاتجاه الدينى لدن باكثير وإيمانه الفائق بقيم الإسلام ووجوب التمسك بها ونبذ الماركسية والليبرالية، اللتين لا تصلحان لمجتمعاتنا ولا تصلح مجتمعاتنا لهما، وانعكاس ذلك كله فى كتاباته: إقبال هاشم (Eqbal Hassim)، الذى كتب فى بحثه المذكور آنفا: "The Significance of Qur’anic Verses in the Literature of Ali Ahmad Bakathir"، قائلا: "Bakathir was a committed Muslim who strove to portrayand champion Islamic ideals through his works. He desired to illustrate the importance offollowing Islam as a complete way of life as a means of reforming the self and the society. He wrote his works during a long period of ideological conflict in the Arab world, when Islamic, Communist, Marxist, Liberalist and Secular ideologies were at loggerheads. In light of this, Bakathir endeavoured to show the Arab Muslims of his time– first and foremost– that following the Qur’an faithfully was the only means to achieving a moral society". (المجلد الأول من مجلة "NCEIS" (2009م)من إصدارات جامعة ملبورن بأستراليا).
أما كاتب مادة "باكثير" فى "ENCYCLOPEDIA OF ARABIC LITERATURE" فيحكم بأن أعمال باكثير المسرحية ليست على مستوى واحد من الجودة، عازيا ذلك إلى ضيق رؤيته وتحمسه العاطفى للإسلام وكراهيته للشيوعية. وهو حكم فطير بل سخيف يدل على أن صاحبه لا يفقه شيئا فى تذوق الأدب ولا فى نقده. وإلى القارئ نص الحكم فى أصله الإنجليزى: "Biikathlr's work is of uneven quality. Many of his plays lack dramatic qualities, and his work suffers from a narrowness of vision associated with the author's passionate belief in Islam and his anti-Marxist stance".

وقد يستغرب بعض مما صنعه باكثير من صبغ شخصيتى إيزيس وأوزيريس بالصبغة التوحيدية ويعد ذلك تصرفا غير مقبول فى موضوع المسرحية بحجة أنه يخلو من هذا تماما. ولكن إذا كان من النقاد من يرى أن للكاتب المسرحى الحق فى أن يحمّل شخوص مسرحياته التاريخية ما يريد تحميلهم إياه ما دام ذلك يتم فى إطار فنى خال من التعسف، فما بالنا بموضوع أسطورى لا يقوم على الحقائق بل على الخيالات والخرافات؟ لا شك أن هذا يسهّل مهمة من يريد من كتّاب المسرح تحميل موضوعه وأبطاله بالمغزى الذين يريد. وأنا، وإن كنت مع القائلين بجواز عدم الالتزام الصارم فى الإبداع المسرحى بما يقوله المؤرخون، لا أذهب إلى آخر الشوط، ومن ثم لا أفتح الباب على مصراعيه لتطويع التاريخ لكل ما نريد، بل أحصره فى حرية تفسير الوقائع التاريخية وسلوك الشخصيات التى ترتبط بها، بشرط ألا يتناقض ذلك وحقائق التاريخ المسلم بها. ويمكن أن نعد من هذا الباب تقديم باكثير لإخناتون فى مسرحيته: "إخناتون ونفرتيتى" على أنه رسول من الرسل الذين لم يتعرض القرآن لذكرهم، والذين أتوا رغم ذلك وأَدَّوْا واجبهم فى تبليغ الدعوة دون أن نعرف نحن عنهم شيئا، مصداقا لقوله عز شأنه: "ورسلاًقد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك" (النساء/ 164).
وعلى كل حال فباكثير فى مسرحيته التى فى أيدينا إنما يتعامل مع أسطورة من الأساطير، ومن ثم كان مدى الحرية الذى يمكنه التحرك داخل نطاقه مدى واسعا. ثم إنه لم يجعل من إيزيس شخصية مسلمة كما صنع فيما قيل مع أوديب، بطل المسرحية المسماة بهذا الاسم، والتى قال د. محمد أبو بكر حميد فى مقال له عنها إن باكثير "ينفرد برؤية غاية في الأهمية وسعة الأفق يعطى بها للأدب العربي بعدا عالميا حينيرى أن استلهام الأساطير الأجنبية وتاريخ الحضارات الإنسانية البعيدة عن الإسلام زمانا أو مكانا يعد أهم جسر عبور للأدب العربي إلى العالمية شريطة أن يصب الأديب العربي في هذه القوالب الفنية مضمونا يعكس بصدقٍ واخلاصٍ فكر أمته وفلسفتهافي الحياة، وبالتالي فإن الشعوب الأخرى التي تطلع على هذا العمل الفني المستمدموضوعه من تراثها لن تجد صعوبة في فهمه واستيعاب المضمون الجديد الذي حمله. ويرى باكثير أن أحداث التاريخ والاسطورة خاصة تعين الكاتب على إعادة تشكيلمادته الفنية بحيث تلائم المضمون الذي يريد صبه فيها". وكان أحد النقاد قد اعترض علىالمضمون الإسلامي الذي عبر عنه باكثير من خلال هذا المسرحية حسبما يروي لناباكثير قائلا: "لعل من الطريف أن أروي حادثة وقعت لي مع ناقد مرموق من نقادنا المحدثين توفي منذ بضعة أعوام... قال لي في موضوع التعليق علىمسرحية "مأساة أوديب": بأي حق يا فلان جعلت أوديب يعتنق الإسلام، وهو وثني إغريقي عاش قبل أن يظهر الإسلام بعشرات القرون؟ فقلت له: وماذا يضيرك يا دكتور؟ إني لو وجدت مذهبا أو عقيدة أسمى من الإسلام وأقرب إلى المنطق والعقل منه لجعلت أوديب يعتنقه. ولكن ما حيلتي؟ لم أجد أسمى ولا أعظم من الإسلام"... ويعلق باكثير على هذه الحادثة فيقول: "الواقع أن ذلك الناقد وأمثاله قد فقدوا الإيمان بأمتهم ورسالتها، ففقدوا الإيمان بانفسهم وفُتِنُوا بالأفكار التي غزتهم من الخارج، فاستسلموا لها راضين مختارين. فلا غَرْوَ أن يزعجهم صوتارتفع من ضمير أمتهم وطفق يقرع أسماعهم مذكرا إياهم بالحجة والبرهان أنهم حينتركوا تراث أمتهم وتعلقوا بتراث غيرها كانوا قد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هوخير"... وهذا يؤكد أن مواقف نقاد هذه المرحلة من ذوي الميول اليسارية والماركسية من أعمال باكثير كانت مواقف عقائدية، وليست نقدية" (من مقالٍ غُفْلٍ من اسم صاحبه عنوانه: "مسرحية فاوست الجديد- تأليف علي أحمد باكثير" منشور على الرابط المشباكى التالى: http://www.almassrawy.com/forum/showthread.php?t=5661
ومن الواضح من هذا النص أن د. محمد أبو بكر حميد يحتفى أشد الاحتفاء بما صنعه باكثير حين أعاد الكتابة عن أوديب وفاوست في مسرحيتيه: "مأساة أوديب" و"فاوست الجديد"، مقدما أسطورتين: إحداهما وثنية، والأخرى مسيحية، فى صياغة إسلامية (http://www.lahaonline.com/articles/view/7728.htm). ومن الواضح أيضا أن هذا الاتجاه لدن كاتبنا الكبير يرجع إلى أنه، طيب الله ثراه، كاتب مؤمن يعبر بكل ما أوتيه من قوة وإخلاص عن إيمانه بالله سبحانه فى وقت كان صبيان الشيوعية الأشرار يمرحون فى الأرض فسادا ومروقا وإلحادا، فمن هنا كان حرصه البالغ على صبغ إبداعاته بالصبغة الإيمانية المضيئة. وقد تعرضتْ لهذه الملاحظة إقبال حاسم فى مقالها الذى سبق أن استشهدنا به فى هذه الدراسة فقالت: "Bakathir always tries to convey an Islamic message via his highly ‘Islamicised’ works, and these works are but a reflection of his strong religious ideals and Qur’anic mindset through which he evaluates society. They depict a zealous commitment to work for Islam and the Arabs, as well as the ideal that remaining faithful to Islam is the only means to attaining success in this world and the Hereafter".
وعلى أية حال فكل ما فعله أوديب فى المسرحية التى كتبها عنه باكثير أنه، بعدما كان فى بداءة أمره ملحدا، قد انقلب فى النهاية وصار مؤمنا بالله بالمعنى العام، وليس واحدا منا نحن المسلمين بالذات. لقد أراد الناقد المشار إليه فى حديث باكثير السخرية بما صنعه كاتبنا، فما كان من باكثير إلا أن مضى معه فى ذات الاتجاه وبادل سخريته بسخرية أشد رغبة منه فى إفحامه بدلا من الدخول معه فى جدال لا يقدم ولا يؤخر، وإلا فإن باكثير، حسبما قلنا، لم يصيّر أوديب مسلما كما زعم ذلك الناقد. وحتى لو جعله مسلما أفليس له عبرة فيما صنعه برنارد شو حين خلق من مسرحية "بجماليون" مسرحية عصرية تماما تجرى أحداثها فى بريطانيا، وبطلاها أستاذ لغوى متخصص فى الصوتيات وفتاة تبيع الزهور فى الشوارع استطاع أن يغير طريقة نطقها إلى الحذلقة الأرستقراطية، مما جعل علية القوم يتوهمون أنها واحدة منهم، وبذلك أثبت صدق ما كان يقوله عن سخافة التمييز الطبقى الذى يقوم على مثل تلك الاعتبارات المضحكة؟ وأين هذان البطلان من الأسطورة الإغريقية التى تتحدث عن بجماليون ملك قبرص النحات الذى قام بصنع تمثال من العاج لفتاة جميلة وقع فيحبها، وهو الذى كان يشعر قبل ذلك بالنفور والاشمئزاز من جنس النساء، فأخذ يدعو ويبتهل لأفروديت، إلهة الحب والجمال عند الإغريق، حتى حولتالتمثال إلى امرأة حية تزوجها وأنجب منها ولدًا سماه: بافوس؟
فإذا انتقلنا إلى مسرحية "أوزيريس"، التى نحن بصددها هنا، وجدنا أوزيريس حاكما خيرا يسعى بكل جهده إلى خدمة رعيته ومعاملتها معاملة إنسانية كريمة، محاولا بجُمْع طاقته أن يعيش مسالما مسامحا حتى مع ألد أعدائه وأعداء الحياة والكرامة والعدل، وإن أخذتُ عليه التمادى فى التسامح حين لا يكون ثم مجال له، وخاصة حين يكون الطرف الآخر ممن لا يفقهون لغة التسامح ولا يستطيعون أن يتذوقوا طعم المعاملة الرحيمة أو يقدروا قيمتها فيأشَرون ويتمردون ويسببون الكوارث لأمتهم. والملاحظ فى هذه المسرحية أن باكثير يتحرك داخل نطاق الأسطورة لا يكاد يتخطاه إلا فى أمور غير ذات خطر.
لكن هناك عدّة هَنَات تبتعد بالمسرحية بعض الابتعاد عن منطق الحياة: فمثلا هل من الممكن أن تتغزل الخادمة فى مولاتها الملكة إيزيس قائلة: "يا شمس الضحى، يا ربة الحسن البهى"، وكأننا فى فلم مصرى تغازل فيه الشغالة وداد حمدى سيدتها الشابة الرعناء وتضحك على عقلها بمثل تلك العبارات؟ أو تصف الملكة زوجها أثناء كلامها مع خادمتها أو وصيفتها بـ"حبيبى أوزيريس"، هذا الوصف المغرق فى العاطفية؟ (ص10، 15)، أو تنادى الوصيفة مليكتها بـ"إيزيس الكاملة" (ص14) هكذا دون ألقاب ملكية، وكأنها تنادى وصيفة مثلها؟ وهل كان المصريون القدماء، وبالذات الملوك والملكات منهم، يعبرون عن عواطفهم الزوجية بمثل تلك الحرية فى حضرة الآخرين فيرتمى كل من الملك والملكة فى حضن الآخر أمام الوصيفة (ص16)، وتنادى الملكة زوجها الملك بــ"يا حبيبى"، وهو إياها بـ"يا حبيبتى" أمام أخيه ست (ص24)؟
وعلى الناحية الأخرى هل يعقل أن تقول إيزيس بجلالة قدرها لواحدة من رعاياها: "يا أختى" (ص13)؟ وكذلك هل يعقل أن يقوم الملك لوزيره وقاضيه عند دخولهما ليصافحهما؟ (ص22) وبالمناسبة فقد فَرَط من باكثير مثل ذلك من قبل، إذ جعل الحاكم بأمر الله فى المسرحية التى تحمل اسمه يقوم لداعى الدعاة حين يدخل عليه محييا رغم أن الخلفاء فى ذلك الوقت لم يكونوا ليقوموا لرجالهم، بله الخلفاء الفاطميين بالذات، الذين كان الداخل على الواحد منهم يحيّيه قائلا: "الصلاة والسلام على مولاى أمير المؤمنين". أما الوضع الطبيعى فى مسرحيتنا فهو ما صنعه قائد القواد حين انحنى لإيزيس أيام كانت وصية على ابنها فى مملكة غرب الدلتا (ص90)، وانحنى أيضا أمام حوريس (ص92). وعلى كل حال فهذا كوم، ومخاطبة إيزوريس لواحدة من رعاياه بـ"يا سيدتى" كوم آخر، إذ هو تصرف يتجاوز مقدرة الخيال على التصور والاستيعاب (ص80- 81). أما لهفة إيزيس على تعرف رأى وصيفتها فى جمالها حين كانت تترقب وصول زوجها أوزيريس فهى لهفة نسائية تماما. وقد أحسن الكاتب التعبير عنها كلمات وحركات وتصرفات وقلقا (ص15- 16).
كذلك نرى ست الأخ الشرير لأوزيريس يتناقض فى كلامه عن إيزيس زوجة أخيه، إذ يقول لزوجته إن إيزيس تتمنى أن تكون له هو، وأن تكون نفتيس لأوزيريس المشغول دائما بالرعية لا وقت عنده لها، ليعود بعد قليل فيقول لزوجته إن إيزيس تغار على زوجها منها هى نفتيس وإن أوزيريس يحب نفتيس، وإن إيزيس تريد أن تقتلها لهذا السبب (ص29- 31). ترى هل يمكن ألا تتنبه نفتيس إلى ما فى الكلام من تناقض شديد، وفى ذلك الحيز الزمنى البالغ القِصَر؟
وفى المؤامرة التى جهزها ست لقتل أوزيريس عند خروجه ليلا للسفر (ص34، 36)، تلك المؤامرة التى تذكرنا بقتل الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله ذات ليلة عند خروجه فى طوافه المعتاد إلى جبل المقطم، نلاحظ ونحن فاغرون أفواهنا من الدهشة أن أوزيريس يستقبل كلام إيزيس عن مؤامرة ست ضده دون أن يسألها عن مصدر الخبر، ودون أن يتخذ احتياطاته رغم أنه ملك من الواجب عليه ومن السهل أيضا أن يتخذ مثل تلك الاحتياطات، بل نفاجأ بأنه يترك الأمر يدبر نفسه بنفسه. كذلك من الغريب أن تتركه إيزيس رغم كل هذا الخطر يسافر ليلتها وحده بتلك السهولة دون أن تلح عليه بالبقاء وتذرف الدموع، مخلفا الدولة كلها فى يدها فى مثل هذ الموقف العصيب دون أية احتياطات على الإطلاق، وإن كانت الأسطورة تؤكد أن إيزيس كانت تسيطر على مقاليد البلاد فى غياب زوجها ببراعة، واستطاعت دائما أن توقف ست عند حده لا يفكر فى أى شغب أو تآمر (That Typhon, during his absence, did not rebel, because Isis was on her guard, and able to keep watch upon him vigorously; but after Osiris returned Typhon laid a plot against him, having taken seventy and two men into the conspiracy).
ليس ذلك فحسب، بل إننا بعد شهرين نشاهد حفلا فى قصر ست يحضره أوزيريس وزوجته ورجال الحاشية وأتباع ست، وقد اقتنع الملك بأن أخاه صار صالحا هو وأتباعه فوثق به، متجاهلا ما قالته له زوجته من أن ست يخطط لاغتياله. وهو أمر غريب جدا (ص48- 49). وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإننا فى هذا الحفل نشاهد ست وقد تظاهر أمام أخيه بأنه هجر الشرب والصخب كما قلنا قبل قليل، فضلا عن طلبه من أصحابه أن يتظاهروا هم أيضا أمام أخيه بأنهم قد هجروا الشراب ونبذوا الصخب مثله. وهنا ينبئنا تاريخ بلوتارك بأن الربة إيزيس لم تكن تشرب أو تصخب أو تمارس الجماع، وأنها لم تكن تكثر من الطعام أو تميل إلى تعديد ألوانه، وكانت تحب الاعتدال وتكره الإفراط والإدمان فى أى شىء. فهل تأثر باكثير فى هذا المشهد بما قرأه عند ذلك المؤرخ الإغريقى أو عند من نقلوا عنه هذا الكلام؟ وهذه هى العبارة فى الترجمة الإنجليزية لما قاله بلوتارك فى تاريخه المذكور: by means of a perpetually sober life, by abstinence from many kinds of food and from venery, she checks intemperance and love of pleasure, accustoming people to endure her service with bowels not enervated by luxury, but hardy and vigorous; the object of all which is the knowledge of the First, the Supreme, and the Intelligible.
ترى كيف عادت الثقة لدى أوزيريس فى ست بعدما كان من علمه بتآمره عليه؟ وهَبْه، بطيبة قلبه، قد نسى ما كان، فأين كانت زوجته التى كانت تشك طوال الوقت فى ست ولا تطمئن له أبدا؟ وأين موقع نفتيس من هذا كله بعدما ضبطتها أختها بالخنجر فى يدها تريد أن تقتل حبيبها أوزيريس بتكليف من ست زوجها الشرير؟ إن المسرحية لا تأتى بعد هذا على ذكر نفتيس بتاتا، اللهم إلا إشارة إلى وجودها فى حفل الغدر التابوتى، وإلا إشارة أخرى إلى وجودها فى المحكمة العليا عند النظر فى شرعية استيلاء ست على السلطة للمرة الثانية (ص101)، وكانت تخشى أن يصيب ابن أختها سوء. الواقع أن الشهرين اللذين انصرما ما بين مؤامرة ست ورجوع المياه إلى مجاريها بينه وبين أوزيريس هما شهران مظلمان يحتاجان إلى ما يضىء عتمتهما حتى نعرف ماذا تم فيهما مما أعاد الأمور إلى ما كانت عليه سَلَفًا بين الأخوين؟
ثم عندنا حكاية التابوت. والملاحظ فى الأسطورة أن التى صنعت التابوت ملكة حبشية استعان بها ست فى مؤامرته على أخيه، وأنها هى التى أخذت سرا مقاس أوزيريس حتى يأتى التابوت على مقياسه بالضبط، على حين أن المسرحية لا تشير إلى مثل تلك الملكة من قريب أو من بعيد، بل تقول إن ست هو الذى صنع التابوت، وحسب. وتذكر المسرحية أيضا أن ست قد أغرى أخاه بأن يجرب التابوت الذى صنعه له خصيصا، على عكس الأسطورة التى تقول إنه طلب من جميع الحاضرين أن يناموا فيه على سبيل التجربة، ومن يجده مناسبا لمقياسه فهو له هديةً من ست (and having for helper a queen coming out of Ethiopia, whom they call Aso. That she secretly measured the body of Osiris, and made to the size a handsome and highly ornamented coffer which he carried into the banqueting room. And as they were all delighted with its appearance and admired it; Typhon promised in sport that whoever should lie down within it, and should exactly fit, he would make him a present of the chest; and after the others had tried, one by one, and nobody fitted it; then Osiris got in, and laid himself down, thereupon the conspirators running up shut down the lid, and fastened it with spike-nails from the outside, and poured melted lead over them, and so carried it out to the River, and let it go down down the Tanaite branch into the sea).
كذلك هل يمكن أن يطفو فوق صفحة النهر تابوت مغلق مصنوع من الذهب؟ من المؤكد أن ست حين ألقى به فى النهر كان يعرف أنه سوف يغطس ولا يطفو، وهذا هو المتوقع لأنه هو الطبيعى (ص59). صحيح أن التابوت فى قصة موسى طفا، لكن ذلك التابوت الذى صنعته أم موسى لوليدها كان من خشب ومسدود الثقوب بالزفت والـحُمَر كما جاء فى العهد القديم وكما لا بد أن يكون الأمر، بخلاف التابوت هنا، إذ كان مصنوعا من الذهب، والذهب معدن ثقيل لا يطفو. وإذا كان هذا مقبولا فى الأسطورة فهو فى مسرحية تمثَّل فى عصرنا غير مقبول. والطريف أن بلوتارك فى تاريخه يذكر أن التابوت الذى كان يضم جثمان أوزيريس كان مصنوعا من الخشب لا من الذهب ولا من أى معدن آخر (the wooden coffer, in which lay the body of Osiris). ترى لماذا لم يمسك باكثير بهذه التفصيلة ويأخذ بها بدلا من التابوت الذهبى فيخرج بذلك من المشكلة؟
وهنا يثور سؤال آخر هو: هل من المعقول أن يظل مقتل أوزيريس وانتقال السلطان إلى ست والحرب الأهلية التى عقبت ذلك وانفصال مملكة غرب الدلتا عن ست سرا لا تعلم به الرعية متمثلةً فى حتحور وابنها حوريس، الذى رأى التابوت فى الليلة السابقة يحمله اليم نحو الشمال (ص62)، وهو ما تقوله الأسطورة، إذ تذكر أن بعض الأطفال هم الذين دلوا إيزيس على اتجاه التابوت:As she wandered about everywhere, not knowing what to do, she met no one without speaking to him, nay, even when she fell in with little children, she inquired of them about the coffer; these last chanced to have seen it, and told her the branch of the River through which Typhon’s accomplices had let the chest drift into the sea)، مع أن المعروف فى تلك الحالات أن الملك الجديد يحرص تمام الحرص على إعلان انتقال السلطان إليه فورا وبدون أى تأخير؟ أما فى المرحلة التالية فتقول المسرحية إن قلب إيزيس هو الذى هداها إلى مكان تابوت زوجها وجثمانه عند القصر الملكى فى ببلوس، على حين تقول الأسطورة إنه وحى الإله (by the divine breath of fame).
ثم كيف استطاعت إيزيس أن تشفى ابن مَلِك جبيل فى المسرحية؟ الواقع أن المسرحية لا تتعرض لهذا الأمر. أما فى الأسطورة فكانت ترضع الطفل بإصبعها، لكن لا كلام هناك عن تمريضه، بل عن إحراقها كل جزء يبلى من جسمه إل أن مات. بل إنها حين ناحت على زوجها بصوت عال مات الأخ الأول للطفل، أما أخوه الآخر فقد أخذتْه معها ومع التابوت. وفى الطريق نظرت إليه نظرةً حَرِدَةً حين كان يستطلع من الخلف ما تصنعه مع الجثة فصعق ومات فى الحال: Isis is said to have suckled the child by putting, instead of her nipple, her finger into his mouth, and by night she singed away the mortal parts of his body. She turned herself into a swallow and flew around the pillar until the queen watched her, and cried out when she saw her child all on fire, and so took away the boy’s immortality. She turned herself into a swallow and flew around the pillar until the queen watched her, and cried out when she saw her child all on fire, and so took away the boy’s immortality. Then the goddess, manifesting herself, asked for the pillar of the roof, and having removed it with the greatest ease, she cut away the Erica that surrounded it. This plant she wrapped up in a linen cloth, pouring perfume over it, and gave it in charge to the king; and to this day the people of Byblus venerate the wood, which is preserved in the temple of Isis. The coffin she clasped in her arms, and wailed so loud, that the younger of the king’s sons died of fright at it, the elder she took with her and putting the coffer on board a ship, put to sea ; but when the river Phaedrus sent forth too rough a gale, she grew wrath, and dried up the stream. As soon as ever she obtained privacy, and was left by herself, having opened the coffer and laid her face upon the face of the corpse, she wailed and wept; but when the little boy observed this, and came up quietly from behind to spy, she perceived him, and turning round gave him a dreadful look in her rage, the child could not stand the fright, and died
وفى هذا السياق نقرأ عند د. الحجاجى (فى كتابه: "الأسطورة فى المسرح المصرى المعاصر"/ دار المعارف/ 1984م/ 49) أن باكثير، حين جعل إيزيس تشفى الطفل وتعيد إليه حيويته ونشاطه، إنما كان يجرى وراء ماتقول الأسطورة من أنها كانت ترضع ابن ملك جبيل بوضع إصبعها فى فمه، مع أن ما تقول الأسطورة، حسبما رأينا، شىء مختلف تمام الاختلاف، إذ مات الولد فيها على يد إيزيس، على حين أنه فى المسرحية قد أنقذته إيزيس. كذلك كيف يبقى جثمان أوزيريس طوال تلك المدة لا ينتن ولا يتحلل؟ بل كيف يبقى حيا بعد كل هذا، على الأقل: بعدما أغلق عليه التابوت إغلاقا تاما لا تخلص إليه نسمة هواء؟ ينبغى ألا يغيب عن بالنا أننا هنا فى العصر الحديث لا فى الأسطورة.
ولا شك فى أن الطيبة المتجاوزة لحدود العقل والمنطق لدى أوزيريس، فضلا عن ثقته فى ست بعد كل الذى كان منه، أمر لا يدخل العقل إلا إذا قلنا إن أوزيريس مغفل لا يحسب للعواقب حسابا (انظر مثلا ص79). ذلك أنه لا بد للحق من قوة تحميه. وهذا، فيما يبدو، هو ما تريد المسرحية أن تقوله (ص90 فما بعدها، 97). لكن كان ينبغى أن يعمل باكثير قبل ذلك على إظهار خطإ أوزيريس فى اتخاذه هذا الموقف المثالى الذى من شأنه أن يجلب الكوارث على صاحبه، وهو ما حدث فعلا، إذ تمكن ست من الظفر به. ومثالا على تلك الطيبة المغرقة فى المثالية، أو فى السذاجة إذا أحببت أن تسمى الأمور بما يناسبها، نفاجأ فى ص112 بأن أوزيريس يعفو عن ست وسائر المجرمين الذين عاثوا فى البلاد شرا وترويعا، مع أن الله ذاته، وهو العفو الغفور، ينتقم من المجرمين، إن لم يكن فى الدنيا ففى الآخرة، بل ويأمرنا بمعاقبتهم، فضلا عن أن أحد أسمائه هو "المنتقم". فكيف ينصر باكثير هذا العفو الساذج على الانتقام والعقاب؟ الحق أنه لو تصرف فى الأسطورة تصرفا أوسع من ذلك لكان الصراع بين القوتين المتنافرتين: قوة الخير لدن أوزيريس وقوة الشر متمثلة فى ست، أقوى وأشد وأكثر اضطراما، ولخلق مسرحية أفضل كثيرا من المسرحية الحالية رغم أنها فى حد ذاتها مسرحية قوية كما سوف أبين بعد قليل. كذلك فرغم أن إيزيس كانت تؤمن بأن صاحب الحق لا يجوز له أن يتخلى عن بعض هذا الحق بل لا بد له أن يعمل على أن يناله كاملا غير منقوص ما دام ذلك فى مستطاعه (ص103) فقد كانت هى وزوجها متفاهمين لا يختلفان، ونراها تتقبل تصرفاته الطيبة، بل قل: الساذجة، تقبلا كأنْ ليس فيها ما يناقض مبدأها هذا الحازم.
وقد سبق أن تناول باكثير موضوعا قريبا من هذا فى مسرحيته: "إخناتون ونفرتيتى"، إذ يدور الصراعفيها، كمايقول د. عبد الحكيم الزبيدى، "بين رغبة إخناتونفينشر دعوته الجديدة بينالناس سلما لأن دعوته إنما تقوم على الحب والسلام وبين رغبتهفياستخدام السيف ضد الكهنة الذين وقفوا له بالمرصاد وقاوموه بالعنف وألّبوا الناس ضده. وهكذا فالصراعفيالمسرحية إنما هوفيحقيقته دفاعٌ بالحجةوالدليل العملي عن مبدإ الجهادفيالإسلام، وردٌّ على الذينيقولون إنه مادام الإسلام يقوم على مبدإ "لا إكراهفيالدين" فكيف يأمر بالقتاللنشر الدين؟ فإخناتون، فيالبداية، رفض استخدام العنف ضد مناوئيه من الكهنة الذين قاوموا دعوته الجديدةوحرضوا الناس ضده. وكذلك فعل أعداؤه بالشام، إذ طردوا الرسل الذين أرسلهم للتبشيربالدين الجديد وهدموا المعابد التي أقاموها. وقد حاول كبير قواده حور محب أنيقنعه أن استعمال السيف ضروري لنشر الدين لأن الكهنة يقفون حائلاً بين الناس وبينقبول الدين الجديد، ولكن إخناتون لم يقتنع بكلام كبير القواد قائلاً له إن الحرب لاتتفق مع دعوة الحب والسلام التي أمره الرب بها. وقد أدت سياسة إخناتون السلمية الى أن تجرأ عليه الكهنة حتى إن عميد كهنة آمون أساء أدبهفيحضرة إخناتون ووجه اليهكلاما جافا فيه تهديد ووعيد لدرجة جعلت كبير القواد يفقد صوابه ويهجم عليه بالسيف لولا أن إخناتون حال بينهما. وحرض الكهنة الناس على خلع طاعة إخناتون وعدم دفعالخراج واستمالوا قواد الجيش اليهم حتى ساءت حالة الدولة وجفت خزائنها وتفرق أتباع إخناتون عنه،واستولى الحيثيون على ولاياتهفي الشام.وأخيرا حينأصبح إخناتون على فراش الموت تبين له خطؤه وأنه يجب استخدام سيف العدل لتحطيم سيفالظلم. وقد برر المؤلف ضرورة استخدام السيف بقوله على لسان إخناتون مخاطبا ربه: "إن رحمتك العظمى رحمة الجرّاح الذي يبتر العضو كي ينقذ الجسم من قرحة سامة. حكمةغابت عني فانهار لها صرح أعمالي" (د. عبد الحكيم الزبيدى/ المغزىالإسلامي في مسرحية إخناتون ونفرتيتي/ موقع "ناشرى". ورابط المقال هو:http://www.nashiri.net/articles/literature-and-art/1886.html?task=view ).
ولست أملك إلا أن أقف مع باكثير ومع د. الزبيدى فى ذات الخندق، فالواقع الذى لا يمكن المماراة فيه بأى حال من الأحوال يؤكد أن الحق الذى ليس له قوة تحميه هو حقٌّ ضائعٌ مقضىٌّ عليه. ذلك أن الحقوق لا تتكلم من تلقاء نفسها ولا تكافح بذاتها من أجل بقائها، بل الأمر، حسبما قال القرآن الكريم فى توضيحه لواجب أصحاب القضايا العادلة إزاء من يعتدون عليهم ويريدون محقهم وتدمير دعوتهم، يتلخص فى قوله تعالى: "قاتِلوهم يعذبْهم الله بأيديكم ويُخْزِهم وينصرْكم عليهم ويَشْفِ صدور قوم مؤمنين"، و"إن تنصروا الله ينصرْكم ويثبِّتْ أقدامَكم". وبغير هذا فليس أمام أصحاب الحق من مصير إلا المحو والضياع، والتاريخ الذى لا يكذب خير شاهد على هذا الذى نقول.
ولدن اقترابنا من أواخر المسرحية نرى إيزيس تعيش فى الجزء المستقل من مصر بعيدا عن ست وقبضته دون أن تكون زوجة له (ص88). ترى كيف تم ذلك، وقد هددها بأن يتخذها لنفسه لأن له فيها وطرا كما قال؟ هل تركها فلم ينفذ تهديده؟ لكن لماذا؟ كذلك من أين أتى حوريس بن أوزيريس إلى الوجود، ولم يكن لأوزيريس ولد إلى أن مات؟ يقول الحجاجى إن باكثير قد فسر مجىء حورس بالمعجزة من خلال بعث أوزيريس بقوة صلاة إيزيس وتعاويذها، أى بعد حصولها على التابوت والجثمان (الأسطورة فى المسرح المصرى المعاصر/ 51). لكن ما وجه الصلة بين عودة أوزيريس إلى الحياة وبين ولادة حوريس؟ ذلك ما لم يحاول د. الحجاجى أن يوضحه. ثم لماذا كان اسم ابن السيدة حتحور هو أيضا حوريس؟ ترى ما الحكمة من وراء هذا الخلط بينهما فى الاسم؟
ومما خالف فيه باكثير تفاصيل الأسطورة أن أوزيريس فى الأسطورة، على خلاف ما تقول المسرحية، هو الذى كان يدرب ابنه على القتال ويعده للمعركة مع ست، وحين تنتهى الحرب بأَسْر عمه ست تسارع إيزيس بفك وثاقه مما استفز الابن فضربها (Afterwards Osiris came from the shades to Horus, and trained and exercised him for war, and then asked him “What he thought the finest thing possible?” and when he replied “to avenge one’s father and mother when ill treated;” he asked him secondly “what he considered the most useful animal to people going to battle?” and when Horus answered, “the horse,” Osiris wondered at it and was puzzled why he said the horse instead of the lion. But when Horus explained that the lion indeed was serviceable to one standing in need of aid, but the horse can both save him that flees and also destroy the enemy: Osiris on hearing this was rejoiced at the supposition that Horus had provided himself with horses. And as numbers came over from time to time to the side of Horus, Typhon’s concubine, Thucris by name, came also, and a serpent pursuing her was cut to pieces by the friends of Horus; and now in memory of this event, they throw down a rope in the midst of all, and chop it to pieces. The battle lasted for many days, and Horus vanquished, but Isis having received from him Typhon in chains, did not destroy, but on the contrary unbound and let him go free. This Horus did not endure with patience, but he laid hands on his mother, and pushed the crown off her head; whereupon Hermes placed a bull’s skull upon her instead of helmet. And when Typhon brought a charge of illegitimacy against Horus, Hermes acting as his counsel, Horus was pronounced legitimate by the gods. After this Typhon was beaten in two other battles; and Isis conceived by Osiris copulating with her after death, [Alluding to the incident of the opening of his coffer, and explaining the sad fate of the too inquisitive little boy.] and brought forth the prematurely born, and weak in his lower limbs, Harpocrates.)
ولقد وُفِّق باكثير كثيرا فى إبراز الحقيقة القائلة بأن أمور العدل والرفاهية فى الدولة، أية دولة، إنما تقوم أول ما تقوم على استعداد الشعب للكفاح من أجل حقوقه مهما كلفه ذلك من تضحيات. فمن رَأْى حوريس أن العبرة بشجاعة الرعية وحرصها على كرامتها ووقوفها فى وجه الطغيان لا فى قيام فرد منها بعبء تخليصها من شر الأشرار (ص111). وهذا كلام حكيم لأن الأمة إذا نجت منه هذه المرة فمن ينجيها يا ترى فى كل مرة؟ ومن ثم فالمهم هو يقظة الرعية لا تحمس بعض أفرادها فحسب، على حين تغط هى فى نوم عميق. وهذه نظرة سياسية ثاقبة. وللأسف فإن المسلمين فى عصرنا الراهن يغفلون غفلة تامة عن هذه الحقيقة التى تفقأ العيون، بل يتعامَوْن عنها تعاميا، مفضلين أن يظلوا يقاسون ما هم فيه من هم وكرب وكوارث وتخلف وضياع كرامة وهزيمة وذل على أن يبذلوا بعضا من التضحية لقاء الفوز براحة الدنيا وسعادة الآخرة.
ويأخذ د. شمس الدين الحجاجى على باكثير أنه، كما يقول، قد "تقبَّل الخرافة وأظهرها على المسرح فى حدث لم يقبله بلوتارك نفسه. فقد كان بلوتارك يرى أن الخرافة شر لا يقل عن الإلحاد، ورَفَض ما ذكره فى أسطورة المحاكمة من أن هور قطع رأس والدته. وهو يعدّ هذا وما قيل عن تخييل بدن حوريس من الآراء الشاذة الغريبة. بنى باكثير موقفا فى المسرحية ليس من السهل تقبله، وكان أحد الأسباب التى أسقطت المسرحية وقللت من قيمتها الفنية. وكان هذا الموقف مبنيا على أساس من حب إيزيس لزوجها". والحجاجى إنما يشير هنا إلى أن إيزيس استطاعت إعادة أوزيريس إلى الحياة كرة أخرى بالصلوات والرقص. ثم يضيف قائلا: "لم يكن المؤلف فى حاجة إلى الاعتماد على الخرافة ليظهر قوة هذا الحب، إذ إن ذلك الحدث لم يطور العمل المسرحى، فإن أوزيريس لم يعش طويلا، إذ قتله أخوه بعد ذلك. ولم يدفع هذا الحدث المسرحية إلى الأمام، وساهم فى خلق جو ممل لا يمكن من متابعة خطة المرأة بعد ذلك للانتقام لزوجها. هذه الخطة مزجت بين ما كتبه بلوتارك وما كتبه الحكيم فى حدث واحد. كما أن المؤلف حاول أن يغير من اتجاه المرأة للأساليب السياسية فعمد إلى المزج بين العمل السياسى والالتزام بالموقف الأخلاقى. وهذه المحاولة من المؤلف أدت إلى تميع الأحداث وعدم صدقها ووضوحها" (الأسطورة فى المسرحى المصرى المعاصر/ 397- 399).
ترى هل يشير الحجاجى إلى ما كتبه بلوتارك فيما يلى: "I am afraid that this is “moving things that ought not to be moved, and making war not only upon antiquity” (as Simonides hath it), but upon many tribes and families of man, possessed with veneration for these particular deities, when people let nothing alone, but transfer these great names from the heavens to the earth, and do their best to eradicate and destroy (or nearly so) the respect and faith implanted in men from their infancy, and opening a wide door to the atheistical sort, [An evident allusion to the Christians.] and also to him that humanizes the gods, and giving a splendid opportunity to the deceptions of Evemerus, the Messenian, who, by composing treatises upon his false and unfounded mythology, disseminated atheism all over the world, reducing all deities alike to the names of generals, admirals, arid kings, pretended to have flourished in old times; transcribing all this forsooth from the inscriptions in letters of gold set up at Panchon which said inscriptions no foreigner nor Greek, save Evemerus alone, as it seems, has met with, when he made his voyage to the Panchoans and Triphyllans, people that never were, nor are, in any part of the globe"، أو فى قوله: "When therefore you shall hear the fables the Egyptians tell about the gods—their wanderings, cutting to pieces, and many such like mishaps you ought to bear in mind what has been above stated, and not to suppose that any of them happened or was done in the manner related. For they do not really call the dog “Hermes,” but the animal’s watchfulness, sleeplessness, and sagacity (for by knowledge and absence of knowledge it distinguishes between friend and foe, as Plato says) make it appropriate to the most sagacious of the gods: neither do they suppose that the sun rises as a new born child out of a lotus, but it is in this way they picture the rising of the sun, enigmatically expressing that the solar fire is derived from moisture. For that most savage and terrible King of the Persians, Ochus—who put many to death, and finally butchered Apis and dined upon him along with his friends—they styled “The Sword,” and still call him by that name in the list of kings; that is not actually describing his person, but likening the hardness and wickedness of his disposition to an instrument of slaughter. In the same way must you hear the stories about the gods, and receive them from such as interpret mythology, in a reverent and philosophic spirit, both performing constantly and observing the established rites of the worship, and believing that no sacrifice nor act is more well pleasing to the gods, than is the holding the true faith with respect to them, so will you escape an evil no less great than Atheism, namely, Superstition"؟ لكن الأمرين مختلفان بين الأسطورة والمسرحية. ذلك أن الخرافة عند بلوتارك فى نصه السابق إنما قْصِد بها النيل من الآلهة عن طريق تصويرهم بما لا يليق، وإلا فقصة إيزيس وأوزيريس قائمة كلها على الخرافات من أولها إلى آخرها.
ولقد صور باكثير أوزيريس فى صورة الحاكم العصرى الديمقراطى، إذ نسمعه يقول عن المُلْك إنه "مُلْك الشعب" (بدلا من أن يقول مثلا: مُلْكِى أنا")، كما يصف نفسه بأنه خادم الشعب (ص20). وباكثير فى هذا إنما يعتمد على ما اشتهر به أوزيريس فى التاريخ، فعند بلوتارك نقرأ أن أوزيريس كان يحكم مصر دون حاجة إلى سلاح، بل بالإقناع والعقل والموسيقى والغناء، كما كان يطوف بالبلاد يعلم رعاياه التحضر والزراعة وعبادة الآلهة (when Osiris reigned over the Egyptians he made them reform their destitute and bestial mode of living, showing them the art of cultivation, and giving them laws, and teaching them how to worship the gods. Afterwards he travelled over the whole earth, civilizing it; far from requiring arms, he tamed mankind through persuasion and reasoning joined with song of all kinds and music which he brought over). وأَرْجَح الظن أن باكثير قد سمى قصر أوزيريس لهذا السبب بــ"القصر الأخضر". ألم يعلِّم الشعب الزراعة؟ على حين سمى قصر ست: "القصر الأحمر" إشارة إلى دمويته وقسوته وشره. وعلى نفس الشاكلة يسمى توفيق الحكيم أوزيريس على ألسنة الناس فى مسرحية "إيزيس" بـ"الرجل الأخضر".
وفى (ص46) يطالعنا منظر رقص عار فى قصر أوزيريس، فهل كان هناك رقص عار فى ذلك الوقت؟ إنه مجرد تساؤل. وهذا المنظر يذكّرنى بمنظر الرقص فى مسرحية باكثير الأخرى: "سر الحاكم بأمر الله"، حيث نشاهد جماعة من الراقصات يتأودن أمام الحاكم ويغنين غناء كله فتنة وإثارة للشهوات، وهو ما دفعنى إلى الابتسام لصدوره من باكثير، إذ لم أتوقع منه شيئا مثل هذا تصورا منى أن تحرجه سوف يمنعه من التوقف أمام مثل ذلك المشهد. وليس معنى كلامى أن المتدينين لا يحسون دبيب الشهوة فى عروقهم وكأنهم ملائكة لا يعرفون وساوس النفس، بل أقصد أن الناس تتوقع من الأدباء من هذا الطراز ألا يقفوا طويلا أمام مثل تلك الأحاسيس، بل يتجاوزوها إلى ما هو أجدى وأطهر. ولسوف أكتفى هنا بنفض ما بخاطرى أمام القراء، الذين يمكنهم أن يأخذوا فكرة عما أقول إذا أوردت لهم ما كانت الراقصات الفاتنات يغنينه للخليفة فى المسرحية، فهن يقلن مثلا:
نحن مُنَى الدنيا * نحن أغانيها
ما لذة الدنيا * لولا غوانيها
وتقول إحداهن، واسمها شمس:
عيناى ما عيناى؟ * عيناى يا مولاى
نجمان لماحان * بالسر بوّاحان
* * *
ثغرىَ ما ثغرى؟ * كأس من الخمرِ
من يرتشفْ منها * لا يصطبرْ عنها
***
خَدِّىَ ما خَدِّى؟ * من رَيِّق الوردِ
والفتنةُ الفتنهْ * تكمن فى الوجنهْ
***
نَهْدَاىَ ما نهداىْ؟ * نهداىَ يا مولاىْ
سران مبثوثانْ * بالحب مبعوثانْ
***
وعودىَ الريانْ * من مائه نشوانْ
لو خف ردفاهُ * لطار عِطْفاهُ
وأخيرا تدنو من الحاكم وهى تترنم فى غنج ودلال:
وفِىَّ يا مولاىْ * ما فِىَّ يا مولاىْ
والخير يا مولاىْ * عندك يا مولاىْ
فتصنع زميلاتها ما صنعت، ويغنين نفس المقطع، وبنفس الطريقة!
ومع هذا فالمسرحية رغم هذا الذى قلته تشد القارئ شدا قويا لما فيها من جلال اللغة ولبراعة الكاتب فى خلق الجو. لقد شعرت فعلا أننى أعيش فى العصور القديمة، وتعاطفت مع إيزيس فى لهفتها على زوجها المغدور وبحثها المولَّه عنه، وبخاصة فى المشهد الذى ضمها وحتحور وابنها عند الكوخ. والحوار فى كثير من المواضع حى ومتوتر ويدل على أستاذية فى إجرائه. كذلك فالطهارة والرحمة والاحترام الذى كان أوزيريس يحكم به مصر والشعب المصرى هى أيضا مما يضفى على المسرحية سحرها الخاص رغم ما لاحظته عليها من مآخذ. ذلك أننا فى بلاد الإسلام بوجه عام نفتقد هذا اللون من الحكم منذ قرون، ونتعطش إلى شىء منه. كما أن توضيح حوريس للمصريين أن العبرة بموقفهم هم وشعورهم بالكرامة وإجبارهم الحاكم على أن يسير فيهم سيرة صالحة، وليست العبرة بالحاكم نفسه، هذا التوضيح ينسجم مع ما أنادى به وألح عليه وأؤكد أنه لا أمل بتاتا فى أى شىء إن لم يضعه الشعب قُرْطًا فى أذنه، ومن ثم يدفعنى إلى التعاطف مع المسرحية وما تنادى به. وهناك أيضا الصراع بين الخير والشر، وهو صراع أبدى، وقد عرضه باكثير عرضا قويا. ولو بذل جهدا أكبر لكان العرض أقوى وأشد تأثيرا. ولا ننس إيزيس وقوة شخصيتها، وهذا لون جديد علينا إلى حد كبير، وقد مهر الكاتب فى عرض شخصيتها القوية بحيث لم يخرجها عن طورها كأنثى، ولا عما يجب أن تتحلى به الزوجة الصالحة من احترام زوجها والعمل على مرضاته وتفهم ظروفه والاجتهاد فى إنجاحه، فهى مثلا تحرص على أن تبدو جميلة فى عين زوجها وتتلهف على عودته وتتزين له بكل ما لديها من ملابس أنيقة وجواهر ثمينة، وتسأل مَنْ حولها من الوصيفات عن مدى أناقتها وفتنتها رغم كونها الملكة...