تصنيف العلماء والدعاة بين "التعديل" و "سوء الظن"

ما أشقانا نحن البشر!!!

كأننا نبحث عما يجلب لنا الذنوب والآهات وننسى موقف العرض والحساب ...

نفوس تتحطم... بيوت تتهدم... صلات تتقطع...

أعراض تتهم... وصور مضيئة تشوه... ومجتمعات تتردى...

والسبب سوء الظن!!!


ذلك الخلق الذميم الذي يغلب على الناس اليوم وربما ظنوه نوعاً من الفطنة وضرباً من النباهة في حين أنه غاية الشؤم ...

فبعض مرضى القلوب لا ينظرون إلى الآخرين إلاَّ من خلال منظار أسود، الأصل عندهم في الناس أنهم متهمون بل مدانون...

بل قد يصل الحال ببعضهم إلى العيب على من لم يتصف بهذا الخلق ويعدونه من السذاجة وما علم المساكين أن إحسان الظن بالآخرين مما دعا إليه الدين الحنيف...


- ترى هل تلوّث المجتمع وخربت النفوس حتى أصبح سوء الظن والشك بالآخرين خياراً لا غنى عنه حتى بين الدعاة..؟!

- ويا ترى هل سوء الظن مرض نفسي أم سلوك فطري ... أم أنه ذكاء اجتماعي ودعوي محمود ؟!!

- لماذا نشك بالآخرين وهل الشك فضيلة يحفظ للمرء خطوطه الخلفية أم أنه سوء طوية ونية..؟

- وإلى أي درجة ينبغي أن يكون هناك هامش للشك والحذر من الآخرين حتى لا نقع ضحايا غفلة؟!

- هل يجوز للمسلم أن يقع في عرض أخيه بحجة التقويم الدعوي وأن سوء الظن من حسن الفطن؟!


إن سوء الظن آفة كبيرة تنخر في المجتمعات والأسر والصداقات، بل هو سرطان العلاقات..

سوء الظن داء خفي ومهلكة وبلاء لا يكاد الناس يسلمون منه بدافع من خير أو دافع من شر، فهذا يسيء الظن بقصد الشر والفتنة، وذاك يسيء الظن بقصد الخير والعافية،

وكلاهما في الحقيقة سيء الظن!!!

ولو أن الأخير ما قصد إلا الخير، إلا أن إساءته الظن بأخيه المسلم لربما كان أشد وطأة وفتنة وأثرا ممن أساء الظن قاصدا للشر والوقيعة ...

ربما إذا اتخذ المرء موقفاً سلبيا تجاه آخر وقاطعه، وكان هذا الآخر يستحق، فلا أسف عليه...

لكن المشكلة الحقيقية إذا كان من نسئ الظن به بريئاً !!

هنا تقع الفواجع والمصائب على أناس أبرياء، فليس من السهل أن يتهم الإنسان بما ليس فيه..

وللأسف يزداد الأمر صعوبة إذا كان من يقع في ذلك المنزلق الخطير هم الدعاة والعلماء...

بل الفاجعة هو التدثر بأمر ظاهره شرعي وهو التناصح في حين أن التجاوز فيه من أعظم التجني على أعراض المسلمين عامة والدعاة منهم خاصة ...

إذ غالباً لا يقف الأمرعند حد التقييم المنصف، بل يحمل الشيطان الواحد من محترفي التصنيف ظلما وعدوانا وظنا وبهتانا على احتقار المسلمين وإطالة اللسان في أعراضهم والتجسس عليهم ولم يدر أنه بذلك يخرق حرمة الاعتقاد الواجب في موالاة المؤمنين وحفظ أعراضهم، وأن كل ما يقوم به من تجاوز -بغير حق متيقن- من المهلكات المنهيٌ عنها...

وما وعى أنه إنما استزله الشيطان -الذي لا يكاد يفتر عن التحريش بين المؤمنين ليفرق بينهم- ... حتى صيّر تصنيف الدعاة ورميهم بالنقائص ناقضا من نواقض الدعوة، وإسهاما في تقويضها، لأنه ينكث الثقة ويهدم المودة ويحرق الجهود فينصرف الناس عن الخير، وبقدر هذا الصد ينفتح السبيل للزائغين!!!

إن القلوب وأحوال العباد لا يعلمها إلا رب العباد، وقد يبدو للإنسان شيء فيحمله على وجه سيء، ويكون الحق في الوجه الآخر.

ومن يتأمل حقيقة البشر، من حيث الذهول والضعف والنسيان .. وجد نفسه مرغما على التماس العذر لهم، وعدم مؤاخذتهم بما يصدر منهم من أمور يمكن حملها على الوجه الحسن، ولو باحتمال ضعيف.. فيقدم الاعتذار على التهمة، والتـسامح على المؤاخذة، وحسن الظن على سوء الظن ..

فكثيرا ما ينسى الإنسان نفسه ويقع في أمور لا يحسب لها حسابا، ويتلبس بالشبهات وهو لا يدري ولا يقصد، أو يتكلم بالكلمة ولا يقصد ما وراءها من لوازم، بل هو ذاهل عنها...

وربما نرى إنسانا في أمر ما فلا نظنه إلا مسيئا عاصيا ونتكلم فيه وننشر خبره لمجرد التهمة أو تحليل موقف، ثم إذا اتضح الأمر وبانت الحقائق ظهر له أننا كنا مخطئين لكننا لم نتحرز.. وحكمنا قبل أن نتيقن..

إن التسرع بالحكم على الناس يفضي إلى بلايا ومصائب يكون فيها خراب النفوس والبيوت والسمعة..

ولا يحل لأحد أن يتهم أخاه أو ينسب إليه نقصاً في دين أو مروءة أو أي فعل من شأنه أن ينقص من قدره أو يحط من مكانته قبل التثبت.

فكم من خبر لا يصح أصلا وكم من خبر صحيح لكن حصل عليه من الإضافات ما لا يصح أو حُرف، وغير وبدل...




وأخوة الإيمان تحمل لزوما على تقديم حسن الظن بالمؤمن، فهو في أصل الأمر لا يريد شرا، والتعامل معه وحمل ما يصدر منه على هذا الأصل يوجب حسن الظن ..

فالمؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخواناً المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله التقوى ههنا (يشير إلى صدره ثلاث مرات) بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يعجبنكم طنطنة الرجل، ولكن من أدى الأمانة، وكف الأذى عن أعراض الناس فهو الرجل.

إذن فتحريم النيل من عرض المسلم معلوم من الدين بالضرورة بل من الضروريات التي كفلتها الشريعة،

ولو قدر الظانّ الله حق قدره وعظم شرعه لعظمت في نفسه حرمة المسلم لأن الأصل بناء حال المسلم على السلامة، والستر ولأن اليقين لا يزيله الشك وإنما يزال بيقين مثله.

لذا كان الملتمس للمعاذير مؤمنا، أي مثابا على ذلك، لأنه يحزنه ولا يرضيه الطعن في أخيه، فيجهد نفسه وعقله ولسانه بالدفاع عنه، وينظر للناس بعين صالحة ونفس طيبة يبحث لهم عن الأعذار، ويظن بهم الخير... "والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" وقد قيل: التمس لأخيك ولو سبعين عذرا."

بينما الطالب للزلات وإظهار المعايب منافق وذلك لخبث باطنه وسوء طويته فهو يرى الناس في مرآة نفسه فيظن بهم السوء، ويبحث عن عيوبهم... ويطيّر الأخبار بلا تثبت ولا تعقل وتلك ذنوب مضافة فلا ثواب له لأنه لا يدفع عن عرض المؤمن، وهذه ليست بصفات المؤمنين.

وأكثر من ذلك أن احتراف التجريح بالتصنيف هو وصف من الشخص لدخائل نفسه وإظهار لما يحمله من ميول ودوافع، إذ هو يقيم الشاهد على نفسه من فلتات لسانه وتصبح إدانته من فمه...

لكن الأمور مرهونة بحقائقها، وسوف يحصد الزوبعة من حرّك الريح، وربما يبتلى الجرّاح القداح بمن يشينه بأسوأ مما رمى به غيره، مع ما يلحقه من سوء الذكر.

وفي ظل الإرجاف قل من الناس من لا ينثني أو يتقوقع، وربما لجأ البعض إلى العزلة الشعورية فجعلها حلاً - وهي بلا شك غاية في نبل النفس وصفاء المعدن ورفعة خلق المسلم، ومعونة عظيمة على نقاء السريرة والصفاء، والإعراض عن الجاهلين لكن كم يا ترى من يجيدها؟؟!!!
إننا بحاجة للإنصاف بل إلى الرسوخ في الإنصاف فلا نجحد ما للإنسان من فضل... وهذا لا يتأتى إلا بقدر كبير من خلق رفيع، ودين متين...
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ** بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم



وليتذكر الجميع أن أقسى شيء على النفس هو سوء الظن والتخوين واتهام النيات والتلبيس،،،

إنه جرح للنفس، وكسر للقلب، وإهانة لمشاعر راقية، وتحطيم لأخوة الإيمان...

يقضى على روح الألفة، ويقطع أواصر المودة، و يولد الشحناء والبغضاء..

ذلك أن الإحساس بالظلم والألم والمشاعر السلبية التي تتكون جراء ذلك عند أصحاب النوايا الطيبة وعطايا النفس الكريمة الذين يساء الظن بهم لا يمكن وصفه ...

والأقسى منه هو عدم القدرة على الدفاع عن النفس، أو الصمود أمام نظرات ظن سيء، وأقساها إن أتت من غال أو عزيز أو أخ وصديق!!!

وحتى حين تظهر الحقائق وتفسر المواقف على الوجه الأصح ويعلم أصحاب سوء الظن أن ذلك المظلوم أرفع عن كل ما ظنوه به، يبقى بأعماق قلبه جرح ينزف لا يبرأ مع مر السنين..

إن من ذاق وتجرع تلك السموم ممن حوله، ورمي فصبر واحتسب رغم تلك الجروح الغائره في القلوب – وهو صبر عظيم لا تطيقه إلا النفوس الصافية التي تتطلع لعظيم الأجر- لن يضيعه مولاه ولن يخذله أبداً...

فليستمسك بما هو عليه من الحق وسلوك جادة الصالحين، ولا يفتنّ في عضده تهييج المرجفين ولا يبتئس بما يقولون أو يفعلون، وله في يوسف الصدّيق قدوة "فلا تبتئس بما كانوا يعملون"

بل إن ربه تعالى بشّره بقبول دعوته (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) فهذا وعد الله بأن يخل له وجه الحق فيكون به قرير العين رضي النفس ...

ذلك لأن دعوته خرجت ممهورة بآلام القهر الذي لا يعلم مداه إلا من بيده قلوب العباد، مشفوعة بقطرات من دموع القلب الحارة في جوف الليل،

وانطلقت تأوي إلى الركن الشديد وتستجير برب العرش العظيم، مفرج الكربات ومغيث اللهفات وكاشف الشدائد والبليات، سامع كل نجوى فتنفذ لا تقف أمامها جدر ولا تردها حجب...

و "يا ليت قومي يعلمون" ...

فاللّهم سلّم قلوبنا واصرف عنا خواطر السوء، ولا تجعلنا ظالمين لأحد من خلقك ولا معتدين على أيّ من عبادك لا بعمل ولا بقول ولا بظن اللهم آمين .. "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين