لماذا يسخر العالم من ديمقراطيتنا؟

من يراقب ما يحدث في السودان أو العراق، قبل وبعد محاولات الانتخابات فيهما، وينصت لما يُقال حول هاتين التجربتين، يدفعه فضوله للبحث لتقفي أثر الديمقراطيات في العالم قديماً وحديثاً ومواضعة تجارب الآخرين في الديمقراطية أو ما يُشار إليها بإرادة الشعب.


من هو الشعب وكيف يعبر عن إرادته؟

عندما يُذكر الشعب، يتبادر لذهن السامع مجموع أولئك البشر الذين يقطنون على رقعة أرضٍ خُصِص لها اسم وعلم وحدود، وهذا التخصيص قد يكون طارئاً أو يكون التسليم به آتٍ من تراكم افتراضات، قد يكون بعضها محل خلاف أزلي، ومع ذلك يحاجج من يريد الدفاع عن تلك المسلمات بكونها تاريخية بنظره، فيتم مشاركته التسليم بها لحينٍ ما، ثم لا يفتأ المسلمون بتلك الافتراضات أن يتراجعوا عنها أو يطالبوا غيرهم بمراجعتها وِفق رؤى جديدة، ترتبط بما آلت إليه الظروف بأن يكون حاكماً أو محكوماً.

لو كان مجموع البشر بصفتهم أشخاصاً لا يرتبطون بغيرهم بأي رابط، لجاءت نتائج الانتخابات مضحكة وبلا معنى. ولو كان مجموع البشر بصفتهم أفراداً يلتقون مع ما يشبههم في ظروفهم الفكرية أو المهنية أو العرقية أو العشائرية، لظهرت نتائج الانتخابات متوافقة مع حجم تلك الفئة (المهنية أو الفكرية ـ السياسية، أو الطائفية أو العرقية أو الجهوية)، وبالتالي لا بد من التسليم بنتائجها وفق مجموع الأصوات كعامل تمييز وتصنيف لمن فاز ولمن خسر. وإن تم اعتماد مبدأ المواطنة للبشر المشكلين لذلك الشعب فإن تلك الصورة الطوباوية في بلداننا لم تتشكل بعد لأن أسسها تحتاج مزيداً من التنظير والاتفاق على ذلك التنظير كأساسٍ للعبة.

المُوَاطَنة في بلداننا وبلدان العالم

يزعم الغرب، أن تجربة الديمقراطية نشأت في بلدانهم وبالذات في العهد الإغريقي والعهد الروماني القديمين (قبل ميلاد المسيح عليه السلام)، ولو عدنا الى تلك الفترة، لوجدنا أن التصويت أو الاقتراع كان يقتصر على الفرسان وملاك الأراضي والنبلاء والأحرار، أما العبيد والعمال والفلاحون فليس لهم ذلك الحق، وقد شاهدنا قبل عقود في أكثر من بلد عربي، حاول أن يطبق الديمقراطية، اقتصر فيها حق التصويت لمن (يملك سند دفع المسقفات ـ أي ضريبة العقار) كدلالة لتعريف مواطنته، ولم يكن للمرأة حق التصويت.

يذكر العلامة (جواد علي) في كتابه الموسوعي (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) أن هناك بعض الدول العربية القديمة ( قتبان وكمنهو في اليمن قبل الميلاد ب 13 قرن) كانوا قد سبقوا اليونانيين والرومان في التجربة الديمقراطية، إذ كان يتم انتخاب ممثل واحد عن كل عشيرة، وممثل واحد عن كل مهنة وممثل واحد عن كل ديانة وممثل واحد عن كل صنف تجاري وصناعي، ليتشكل من هؤلاء مجلس (مزود) وهذا (المزود) يختار حاكمه ويضع قوانينه ليعلقها على (مسلات) في مداخل المدينة ليطلع عليها الشعب. وبرأيي فإن تلك التجربة أكثر عدلاً لتعريف المواطنة وتناقل السلطة بين أفراد الشعب.

هل يتساوى المواطنون في قدرتهم على اختيار ممثليهم؟

تعتمد خاصية الاهتمام بالقضايا العامة على عدة عوامل: منها ما يتعلق بالثقافة ومنها ما يتعلق بالمكانة الاجتماعية والاقتصادية ومنها ما يتعلق بقدرة المرشحين على تعريف أنفسهم للناخبين والوصول إليهم، وهذه الأمور وغيرها تختلف من مواطن (شخص أم فرد) الى آخر، وهنا ستتدخل عوامل أخرى للتأثير على اختيار الناخب منها تعبئته ضد آخرين أو العزف على وتر الطائفية أو العشائرية أو الإقليمية، أو تخويفه من مصير سيء فيما لو نجح طرفٌ آخر.

وبالتالي فإن صوت العالِم أو المخترع وصوت الأمي والأخرس يتساويان، وصوت من لا يعلم ويعرف بمصلحته وصوت من يعلم ويعرف يتساويان. وصوت من يبيع صوته وصوت من يناضل سلمياً للوصول بحزبه أو فكره للحكم يتساويان. وعليه فإن النتيجة النهائية للانتخابات لن تكون بالضرورة هي النتيجة التي يفترضها النظام الديمقراطي بشكله المثالي الذي قدمه المفكرون على أنه الخلاص من الديكتاتورية واحتكار السلطة.

الانتخابات أقل سوءاً من عدمها

رغم كل النواقص في عملية الانتخابات، وما يعتورها من شراء ذمم وامتناع شرائح واسعة عن الاشتراك فيها، فإن المدافعين عنها يشبهونها بنظام قبول الطلبة في الجامعات، حيث يتم اعتماد مجموع (العلامات أو الدرجات) في المفاضلة بين الطلبة وقبول أكثرهم مجموعاً في الأقسام المتقدمة من الكليات في الجامعة واستثناء ذوي المجاميع المتدنية. وهم بذلك لا يقفون عند عدم تساوي ظروف الطلبة في تحصيلهم الدراسي، لأن بعضهم لا يكون متفرغاً للدراسة لظروف معيشته القاسية، أو أنه لم يكن بإمكانه دفع أجور المعلمين الخصوصيين كما يفعل الطلبة المقتدرين والذين سيتفوقون عليه بمجموع علاماتهم. فلم يظهر حتى اليوم نظام جامعي في أي منطقة بالعالم يستطيع تجاوز هذا المقياس في اختيار الطلبة المقبولين في الجامعات.

هم بذلك يجيزون أن يبذل المرشحون للانتخابات البرلمانية أو البلدية أو حتى الرئاسية أموالهم ونفوذهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي من أجل فوزهم، بالرغم من أن مَن خسر الانتخابات قد يكون أكثر ثقافة وعلما وفائدة ممن فاز.

مرجعيات الانتخابات

تضع الدول والشعوب دساتير وقوانين تنظم مسألة الانتخابات فيها، وتطور تلك القوانين بلوائح يشترك فيها أعضاء الهيئات العامة كما في النقابات وغرف التجارة والشركات في انتخاب مجالس إداراتها، ويتم التطور وفق تراكم ملاحظات الأعضاء ومن يحق لهم الترشيح والانتخاب. وكذلك تفعل الشعوب وأحزابها وهيئات المجتمع المدني فيها لتطوير نُظم الانتخابات السياسية العامة.

وتنبري في الدول والهيئات الدولية تشكيلات أهلية وحكومية وأممية، لتراقب وتنتقد وتقيم وتُحَكِم في التجاوزات التي قد تحصل في انتخابات بلد ما.

وليس بالضرورة، أن تكون تلك الهيئات نزيهة وحيادية بشكلٍ كامل وعادل في عملها، والنماذج في تدخلاتها أو صمتها كثيرة، ففي الانتخابات الأوكرانية قبل عدة أعوام تدخل الغرب لفضح التجاوزات التي حصلت لأنها تضر بمصالح الغرب، ولكنها لم تتدخل في انتخابات (جورجيا) عندما تم انتخاب (شيفرنادزه) لأن التجاوز يصب في مصلحة الغرب.

وفي فلسطين، رغم أنه لا حرية دون تحرر ولا ديمقراطية دون حرية، فقد كان انتخاب حماس خالياً من التجاوزات التي تستوجب الانتقاد، فإن الغرب لم يعترف بتلك الانتخابات النزيهة كون نتيجته لا تصب في مصلحته.

القوة هي من تحدد مسيرة الانتخابات

في أمريكا وبريطانيا واليابان وكل دول العالم تقريباً، تتناوب أحزاب معروفة تشكلت من ممثلي رأس المال وبغض النظر عن فساد أيديولوجيتها أو صلاحيتها، فإن أحزاباً صغيرة لم تستطع أن تحل محل تلك الأحزاب، بالرغم من أنها أحزابٌ (تمثيلية) لا أيديولوجيا لها ولا تنظيم كما هي الحال في الأحزاب التكاملية، وهي بذلك تترجم منطق القوة في فرض النتائج وفق اتفاق فيما بينها تكون عبر تجارب سنين طويلة.

والقوة في بلادنا، ليس بالضرورة أن تتطابق في نشأتها مع تلك التي تشكلت في اليابان أو الغرب. فقد تكون تجميع عشائري أو تجميع مصلحي يلتف حول فكرة دينية أو (جهوية) أو عرقية، ومع ذلك فهي قوة ستترجم أدائها من خلال تسخير مقدراتها في لعبة الانتخابات التي كانت أسسها كما قدمنا.

إن اعتراض الغرب، يندرج تحت مقولة (نعوم شومسكي) في كتابه (إعاقة الديمقراطية)، عندما ربط رضا الغرب بتحقيق مصالحهم ولخص ذلك بقوله: (دعهم يفعلون ما يريدون .. طالما أنهم يفعلوا ما تريد).