تنازل بلا إعلان
سوسن البرغوتي

وسط ازدحام الملفات الشائكة وتداخلها وفي حومة مواجهات واشتباكات في الضفة والقدس المحتلة، وغارات على القطاع المحاصر بمساهمة وتواطؤ عربي رسمي ودولي مفضوح، وبعد إعلان سقوط مشروع ما يُسمى حل الدولتين، يهرع كبير المفاوضين مجدداً بالاستجداء ودعم بيان اللجنة الرباعية، مع التأكيد دائماً وأبداً، أنها تمثل الدول الاستعمارية بالإضافة إلى روسيا وعراب الأمم المتحدة المهيمن عليها أمريكياً، والمجمعين على نقاط رئيسة:

- وقف "الاستيطان" في الضفة والقدس إلى حيث وصل، وهنا نعيد السؤال نفسه، ما الذي بقي حتى إن توقف البناء؟، ولحين إلزام "إسرائيل" – ولن يحدث- تكون قد التهمت ما بقي من أراضٍ فلسطينية.
- استئناف المفاوضات من نقطة الصفر، دون شروط، أي ما تم تنفيذه من قبل السلطة متفق وموافق عليه. على الرغم من تهويد القدس بالكامل، وبناء "الخراب" والشروع ببناء كنس يهودية أخرى، وضم الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح، وازدياد مشاريع توسع المستعمرات، إلا أن سلطة رام الله ما زالت تراهن على أمل معالجة الفالج الذي أصابها، وكأن بيان الرباعية ثورة أو انقلاب على ذات المفاهيم والممارسات الاستعمارية.
- مطالبة اللجنة بتوقف "إسرائيل" عن القيام بأعمال هدم وطرد من القدس الشرقية، يعني بقاء الأمور على ما هي عليه، وغض الطرف عن التوسع والبناء في المستعمرات (غير الشرعية) أما الشرعية الكبرى - حسب التفاهمات- فقد حُسم أمرها، لصالح (الدولة اليهودية)، والمطلوب شرط الاعتراف بها من قبل المفاوض الفلسطيني.
- موافقة امتناع الصهاينة الإعلان عن القرارات حول البناء، يدعو إلى السخرية مما آلت عليه أمور وحال المفاوض الفلسطيني، والدهاء "الإسرائيلي" المكشوف، فالأقوال أمر والأفعال على الأرض هي نفسها المعتمدة داخل الأرض المحتلة عام 1948، بمعنى أوضح، تغطية إعلامية لتسويغ بث روح الحياة إلى مفاوضات تتنازل أكثر بلا إعلان.
- اللجنة الرباعية طالبت بوقف "الاستيطان"، ولم تدن تهويد القدس وأفعال الاحتلال في قتل واغتيال الفلسطينيين، ولم تفرض على "إسرائيل" عقوبات إجرائية، حيال القتل والهدم اليومي.
- حقن ما يسمى العملية السلمية، جرعة مخدرة لإنعاش السلطة، كإزالة بعض الحواجز وإعطاء الأجهزة الأمنية (شرف) الإشراف على مناطق جديدة على الأرض الفلسطينية المحتلة.
- دولة الإدارة المحلية المرتبطة عضوياً بـ"إسرائيل"، لا يتسنى الشروع في تطبيقها، إلا برفع الحصار عن القطاع، وإطلاق سراح أسرى، والمصالحة لتشكيل حكومة واحدة في أراضٍ فلسطينية.
إن توفرت تلك العناصر، تكون الرباعية والسلطة و"إسرائيل" وعرب التطبيع، قد اجتازوا معضلة تعيق تلك الدولة، ليُستكمل لاحقاً انضمام الأردن إلى الدولة المغلفة بغلاف (كونفدرالية الأراضي المقدسة)، وهو ما ترجحه الإدارة الأمريكية وتعطي ما يُسمى بالنخب الفلسطينية- الأردنية و"الإسرائيلية" الدفع والدعم لهذا الحل. لذلك التحضير لها جارٍ، دون أي عوائق تُذكر، خاصة أن سحب الجنسية الأردنية من الفلسطينيين بالتدريج قد بدأ فعلاً، وتثبيت فك الارتباط مع الضفة، يعطي مؤشراً واضحاً، على ترجيح الدولة الإدارية للفلسطينيين في الضفة والقطاع، المنزوعة السيادة والقرار، والضلعان الفلسطيني والأردني تلتقي مصالحهما مع رأس المثلث وصناع القرار في "تل أبيب".
- الاعتراف الرسمي عربياً ودولياً بسلطة رام الله ورئيسها، وأجهزتها الأمنية التابعة لقيادة دايتون، وعباس كرئيس المنظمة، الذي اُنتخب بالتزكية في مؤتمر بيت لحم الأخير، المخولين بتقرير مصير الشعب الفلسطيني كله.
- فلسطين الداخل، حُسمت لصالح "دولة إسرائيل"، ومساعي عربية رسمية ودولية، لإيجاد (حل عادل) للاجئين فيما بعد، فلم يعد المطروح احتلال وسرقة أرض وطرد أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، بل الموضوع على الطاولة ما سبق ذكره، تأكيداً على إحدى مقولات نتينياهو السابقة وما يروج له كل قادتهم بلا استثناء، بأن (الشعب الفلسطيني خُلق فجأة بعد حرب 1967)، على اعتبار أن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب!.
- استمرار عملية تضليل وخداع الشعب الفلسطيني، بأن تلك المفاوضات غير المباشرة، ستفضي إلى أخرى مباشرة وصولاً إلى اتفاق نهائي، ولكن حول ماذا، وإلى أين؟

عند قراءة الاتفاقيات والتفاهمات (الفلسطينية- الإسرائيلية) بشكل عام، نجد أن أهم الملفات العالقة جرى تأجيلها عن عمد بهدف إسقاطها لاحقاً، لنخلص إلى ما نراه على أرض الواقع. فلا وضع القدس مدمج بالاتفاقيات، ولا حق العودة ولا حدود (الدولتين)، وصلاحيات دولة إدارة شؤون الناس اليومية، مقيدة بسلاسل التوسل والتسول من الدول المناحة، والتحكم "الإسرائيلي" المطلق، أقصى ما تستطيع السلطة الحصول عليه. يزيدهم العشم بوعد أوباما المؤجل، الذي لا يختلف عن سلفه بوش، بمنحهم امتيازات محلية أخرى في غضون سنتين أو أكثر. معنى ذلك إعطاء الاحتلال والإدارة الأمريكية مهلة تهدئة مريحة لهما، حتى يتخلصوا من ملفات أكثر تعقيداً من تلك التسوية مع رهط أبى إلا أن يشارك في تصفية القضية الفلسطينية. فضلاً عن مراهنة السلطة بإسقاط حكومة نيتنياهو (المتطرفة)، وكأن ما سبقها أو ما سيليها، سيكون أكثر رأفة وتعاطفاً وقبولاً للسلام مع الفلسطينيين، ليعم الاستقرار والأمن وفق برنامج الانتحار على عتبات الإنعاش الاقتصادي.

إن التهويد المستعر لاغتيال فلسطين العربية وهدم الأقصى المبارك على مرأى من العالم، يسمح لـ"إسرائيل" الزحف نحو استباحة المزيد من بلاد ودماء الشعب في الوطن العربي، ويتيح فرصة تعبيد طرق التفافية مشوهة تنزع فلسطين من محيطها العربي، لتصبح مشاعاً لمن هبّ ودبّ، وسنغافورا الثانية بلا هوية ولا ثقافة معرّفة، محمولة بشعار الديمقراطية.. فلتذهب هذه الديمقراطية إلى الجحيم، لأن التحرير قبل هيكلة دولة، ومن لا يحسن استرجاع حقه وأرضه وطرد الغزاة، فلن يفلح بخوض تجارب تخريبية، تزيدنا تيهاً وضياع بوصلة التحرير لعقدين آخرين.

يقابل خطة المشروع الإداري للضفة والقطاع والدولة الكونفدرالية، إرهاصات انتفاضة في الضفة والقدس ضد الاحتلال، فإن تصاعدت بشكل ممنهج قابل للاستمرارية، ستشمل الهبّة السلطة وأجهزة دايتون، وستعطي دفعاً قوياً لتحركات وطنية خارج الأرض المحتلة، لاستعادة المنظمة وإعادة بنائها على أسس وقواعد التحرير، أو إعلان موتها، خاصة أن العالم لم يعد العالم يعترف بها وما هي إلا شماعة لتمرير مزيد من التنازلات، فلماذا علينا الإمساك بها وهي على هذا النحو؟!، وإن استشعرت الدولة الأردنية الخطر المحدق بها، فإن أقل ما يمكن فعله، دعم المقاومة بلا إعلان.

إن حروب الإنابة عن "إسرائيل" وأمريكا، يجب أن تنتهي واستخدام الأنظمة العربية مطية لأطماعهم، ينبغي أن يتوقف، وأن تلتفت الرؤوس العربية الحاكمة إلى مواجهة، حفاظاً على ما تبقى من السيادة والأمن الوطني لبلدانهم، فكلما مدوا أياديهم للسلام المزعوم، بترها العدو، وكلما منحت "الشرعية الدولية" السلطة الحياة بعملية تنفس اصطناعي، تأتي صفعة أخرى من حيث لا يحتسبون.
هذه السلطة لا خيار لها إلا "الشراكة" حتى النهاية، وقد باتت خطرة على الجوار العربي كما كانت وما زالت بالغة الخطورة على الشعب والقضية الفلسطينية، ولا حل إلا بسحب المبادرة العربية، وإسقاط السلطة، وتشكيل حكومة بلديات وطنية، تسير الأمور الحياتية اليومية، واستلام قيادة المقاومة المسلحة زمام الأمور حتى تحرير كل الأرض الفلسطينية.
وسيبقى القطاع محرراً بصمود الشعب والمقاومة، ولا بد أن يأتي يوم قريب يُكسر فيه الحصار بوسائل وطرق عدة، وتستمر المقاومة وصولاً إلى التحرير الشامل.