مما كتبت أيديهم ... مما يكسبون

قال الله تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } سورة البقرة: 79.


ذكر محمد جمال الدين القاسمي في تفسيره المسمى ( محاسن التأويل ) :

" { فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : فشدة العذاب لهم مما غيرت أيديهم : { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } يصيبون من الحرام والسحت .

قال الراغب : إن قيل : لِمَ ذكر : { يكسبون } بلفظ المستقبل و : { كتبت } بلفظ الماضي ؟
قيل : تنبيهاً على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "
فنبه بالآية أن ما أضّلوه وأثبتوه من التأويلات الفاسدة، التي يعتمدها الجهلة، هو اكتساب وزر يكتسبونه حالاً فحالاً.

وإن قيل : لم ذكر الكتابة دون القول ؟
قيل : لمّا كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه؛ إذ هو كذب باللسان واليد، صار أبلغ؛ لأن كلام اليد يبقى رسمه والقول يضمحل أثره" . انتهى تفسير القاسمي.

وفائدة ذكر ( أيديهم ) للتأكيد؛ لأن الكتابة لا تكون إلا باليد،؛ وهذا التأكيد يرفع توهم المجاز، لأن قولك: زيد يكتب، ظاهره أنه يباشر الكتابة، ويحتمل أن ينسب إليه على طريقة المجاز، ويكون آمراً بذلك، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب، وإنما المعنى: أمر بالكتابة، لأن الله تعالى قد أخبر أنه النبي الأمي، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب. وقد قال تعالى:{ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمنك إذاً لارتاب المبطلون } [العنكبوت: 48].

وهناك أمثلة من القرآن الكريم على هذا التأكيد كقوله تعالى:{ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38]، وقوله: { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [آل عمران: 167].

وكذلك كما تقول لمن ينكر معرفة ما كتبه: يا هذا كتبته بيمينك هذه، ومثل: نَظَرْتُه بعيني.

فهذه كلها أتى بها لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ، ولرفع المجاز الذي كان يحتمله، وأنهم في ذلك عامدون قاصدون.

وقيل: فائدة { بِأَيْدِيهِمْ } بيان لجُرْمهم وإثبات لمجاهرتهم، وتقبيح لفعلهم، إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير، حتى كانوا هم الذين تعاطوا ذلك بأنفسهم، واجترحوه بأيديهم، ونحن نعلم أن مَن تولّى الفعل أشدّ مواقعة ممن لم يتوَلّه وإن كان رأياً له.

فالله سبحانه وتعالى يريد هنا أن يبين لنا مدى تعمد هؤلاء للإثم.. فهم لا يكتفون مثلا بأن يقولوا لغيرهم أكتبوا، ولكن لاهتمامهم بتزييف كلام الله سبحانه وتزويره يقومون بذلك بأيديهم ليتأكدوا بأن الأمر قد تم كما يريدون تماماً، فليس المسألة نزوة عابرة، ولكنها مع سبق الإصرار والترصد.

{ فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } المراد أن ما كتبوه ذنب عظيم بانفراده فكيف إذا أضيف إليه أخذ المال عليه ، لذلك أعاد ذكر الويل، مرة مع الكتابة، ومرة مع الكسب، فكتابتهم مقدمة، نتيجتها كسب المال الحرام، فلذلك كرر الويل في كل واحد منهما.

ولو لم يعد ذكر( الويل ) فلربما قال قائل: إن مجموعهما يقتضي الوعيد العظيم دون كل واحد منهما، فأزال الله تعالى هذه الشبهة وأعاد ذكر الويل مرة أخرى.

من ناحية أخرى إذا لم يعد ذكر ( الويل ) لوقع هناك إشكال آخر، لأن الكسب يكون في الحلال والحرام، لذلك كان لا بد من التقييد بأن هذا الكسب من الحرام الذي يستحق صاحبه الويل.

وقيل: فائدة تكرار الويل أن اليهود جنوا ثلاث جنايات:
1 ـ تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
2 ـ الافتراء على الله تعالى.
3 ـ وأخذ الرشوة.
فهددوا بكل جناية ـ بالويل ـ تغليظاً عليهم، وتعظيماً لفعلهم، وهتكاً لأستارهم.
فساعة الكتابة لها ويل وعذاب، وساعة بيع الصفقة لها ويل وعذاب، والذي يكسبونه هو ويل وعذاب.

( مما يكسبون ) الكسب هو ما يشمل الفعل والقول والعمل والآثار، وجرد الفعل لوضوح دلالته على الخبث بقرينة ما تقدم وإذا كان المجرد كذلك كان غيره أولى.

وكلمة كسب تدل على عمل، فهناك كسب وهناك اكتسب.. كسب تأتي بالشيء النافع، واكتسب تأتي بالشيء الضار.. ولكن في هذه الآية الكريمة الحق سبحانه وتعالى قال: { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }.. وفي آية ثانية قال: { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً }.

فلماذا تم هذا الإستخدام؟

والجواب على ذلك: إن هذا ليس كسباً طبيعياً، إنما هو افتعال في الكسب أي اكتساب، فالإنسان إذا استخدم جوارحه استخداماً سليماً بفعل ما هو صالح له فقد كسب، أما إذا انتقل إلى ما هو غير صالح ويغضب الله فإن جوارحه لا تفعل ولكنها تفتعل وتكتسب، وكل من يكسب شيئاً حراماً افتعله، ولذلك يقال عنه اكتسب؛ إلا إذا مارسه كثيراً وأصبح الحرام لا يهزه، أو ممن نقول عنهم معتادو الإجرام، ففي هذه الحالة يفعل الشيء بلا افتعال لأنه اعتاد عليه، هؤلاء الذين وصلوا إلى الحد الذي يكتبون فيه بأيديهم ويقولون هو من عند الله؛ أصبح الإثم لا يهزهم، ولذلك توعدهم الله بالعذاب والويل مرتين في آية واحدة.