الخروج
كنت واقفا أمام سيارتي الجديدة، انظر إليها بإعجاب وتباه؛ فلا يوجد في الحي من يملك مثلها، سواء من ناحية ثمنها أو لكونها أحدث طراز في فئتها.لاحت مني التفاتة إلى مرآة السيارة الكهربائية، التي تظل شامخة من جانب سيارتي.نظرت إلى وجهي في المرآة، هالني ما رأيت؛ أ هذا أنا ، ما هذا السواد، حتى الكريمات الحديثة عجزت عن أن تعيد لوجهي ما كان عليه من ضياء.
سرحت بخاطري وأنا أنظر في عيني في المرآة..لم تمض سوى سنوات قليلة على حياتي في حي الأغنياء المغلق علينا، حتى أصدقائي لا يستطيعون الوصول إلى بيتي إلا بعد أن يتصل بي الأمن لأحضر لاستلامهم على البوابة ليزورني؛ فالحي تحيط به أسوار عالية، حتى لا يرى الفقراء الحاسدون ما نحن فيه من نعمة.
شعرت أن عينيّ تكلماني في المرآة، تقول: أنت لم تتجاوز الأربعين، وكأن وجهك في الثمانين..ألا تعرف لماذا؟..كنت تؤدي الصلاة ساعة الآذان، وكنت تصوم رمضان، وكان قلبك يرق لأي فقير، ومسكين، وتتمنى لو كان مرتبك ضعفين حتى تساعدهم فيه..اليوم لا صلاة، ولا صيام، حتى رمضان اكتفيت بمائدة الرحمن التي تقيمها أمام مصانعك وتقول لنفسك أنك تفوق الصائمين لأنك تطعم أكثر من مسكين في اليوم الواحد.
شعرت بقشعريرة في جسدي..ما هذا؟، ماذا جرى لي؟...أهي الحياة الأوروبية الأمريكية التي أحياها وأراها أمامي أم بدايتي؟..كنت موظفا جامعيا أيام كانت الحكومة تعطف على خريجي الجامعة وتعينهم، وكان مرتبي يكفي بالكاد ولم أكن أملك ترف التفكير في شقة وزوجة، وكنت أعيش راضيا في بيت والدتي رحمها الله أنا وباقي أخوتي..ومن خلال وظيفتي تعرفت على تاجر خردة أعجبه في شخصي أني رفضت رشوة عرضها عليّ، وصارت صداقة وثيقة، كل ليلة لابد من السهر معه.في البداية كان السهر بريئا ثم تعلمت شرب المكيفات..أمضيت معه قرابة العامين صداقة متينة فلولا أنه علمني شرب المحرمات والممنوعات لكانت أجمل صداقة..لم أسمعه يوما يتكلم عن زوجته إلا باسم الحريم.. محرم على أي من كان الاقتراب أو الحديث.في يوم من أيام الصيف التي يطول فيها السهر ويغدو الاستيقاظ مبكرا بمثابة عقوبة..أيقظني رنين هاتفي المحمول الذي يصر على أن استيقظ.قمت متكاسلا، أجابني الصوت من الناحية الأخرى..صوت يبكي، صوت لم أسمع أجمل منه، يخبرني بوفاة صديقي المعلم عزوز، وعندما وصلت إلى فيلا المعلم عزوز والتي أدخلها لأول مرة حيث كانت لفاءاتنا تتم في مبنى لزوم السهر، وسط شونة الخردة.طالعتي وجهها الباكي..يا الهي ما هذا الجمال؟..أهي ابنته؟..لقد أذهلتني عندما أخبرتني أنها زوجته..خرجت من لساني كلمات تقال في مثل تلك المناسبات..تناولت القهوة واستأذنت في الانصراف، وفي داخلي شيء يتمنى عدم الانصراف من أمامها رغم كآبة الموقف، وتحقق غرضي، فقد نظرت إليّ نظرة كلها رجاء:
- "أرجوك..لا تنصرف..فأنت الوحيد الذي كان يثق فيه المعلم عزوز، فقد رفضت الرشوة منه في زمن صارت الغالبية تعتبرها إكرامية أو عمولة مقابل أداء الخدمة.."
ظللت صامتا، وكنت أشعر بداخلي بالفخر والإعزاز، فالطيب لا يضيع مع الزمن مهما طال..لم تضيع وقتها فهي سيدة أعمال كزوجها رحمه الله..عرضت علي الموقف بكامله، وطلبت مني تولي الأمور كلها، وأن التوكيل باسمي سيكون جاهزا في الغد..خمسة أشهر أتردد عليها وكنت أمينا بطبعي فحققت لها ماليا ما لم يكن يحققه المعلم نفسه..عرفت منها أنها تملك كل شيء، فلقد كان هذا هو شرطها لموافقة على الزواج من المعلم عزوز، كما عرفت أنه لم ينجب منها.
صار اليوم الذي لا أراها فيه يوما مملا ثقيلا..ما هذا؟..هل تعودت عليها أم أحببتها؟..وأين أنا منها؟..فلا أملك غير راتبي..فلأصرف هذا الخاطر عني فإنني لا أتلقى منها مرتبا أو حتى عمولة..
***
رنت إليّ بعينيها وقالت:
- "لمَ لم تتزوج حتى الآن؟"
اندهشت للسؤال لكني فهمت عرضها، فعرضت عليها الزواج..وافقت على الفور..لابد أنها كانت تشعر بنفس الميل..خمس سنوات مرت، أنجبنا فيها ولدين وبنت..ثم صارت الفيلا بمكانها لا تصلح لنا..لماذا؟..لأن رجال المال يعيشون في أحياء خاصة بهم..وأنا صرت منهم..وها أنا اليوم أعيش في حي الأغنياء..ضحكت في داخلي، عندما تذكرت حادثة المهندس الذي يحاكم لأنه أسس جمعية تبادل الزوجات..هنا في هذا الحي، نحن متقدمون جدا ومتحضرون، تبادل الزوجات هنا ليس بحاجة إلى جمعية..سرت الغيرة في صدري، وصحت في داخلي، ولكن زوجتي..ثم اطمئن بالي محدثا نفسي..طالما أنني لم أفعل فزوجتي لم تفعل..تذكرت قصة تاجر السقا وتاجر الذهب؛ دقة بدقة، ولو زدنا لزاد السقا.
من جديد نظرت في عيني في المرآة، هل أعود كما كنت إلى سابق عهدي؟..وشعرت بنفور غريب من سيارتي التي أتباهى بها أمام سكان الحي..أريد الالتجاء إلى غرفتي؛ إنها مكاني الذي أعيش فيه داخل نفسي.في طريقي حمام السباحة..ها هي زوجتي ترتدي المايوه وكذلك صديقاتها، رفعن أيديهن لتحيتي ، لم أجد في نفسي الرغبة في رد التحية؛ وفي النظر إليهن..أهذه حقا زوجتي؟..قبل سنوات خارج هذا المستنقع عفوا أقصد الحي الذي أعيش فيه..كانت زوجتي تبكي لو سقطت الطرحة منسابة من على شعرها الناعم؛ فهي تبكي لأن غيري رأى شعرها، اليوم ترتدي المايوه وكأنها ترتدي عباءة فلا حياء ولا خشية..
في حجرتي دار صراع، نفسي تصارع نفسي..هل أستطيع الخروج من ذلك الوحل؟..ما موقف زوجتي؟..ما موقف أولادي؟..سيقولون فقري ومتخلف، وغير متحضر..وماذا عن حسد الفقراء؟..هذا أمر سهل يمكنني التغلب عليه بمساعدة المحتاجين، ولكني لا يمكنني التغلب على نفسي وزوجتي وأولادي..يا رب ساعدني، اهدني إلى الطريق المستقيم..أنت الهادي..أمد يدي إليك..ادعوا لي جميعا بالهداية ،فمازلت أعيش في هذا الحي إلى اليوم وحتى متى لا اعلم..الله وحده عليم..

تمت بعون الله