الثقافة العربية: الضرورة والوظيفة

كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن عزوف العرب عن القراءة، وأخذ هذا الحديث طابعاً متندراً بالحالة التي آلت إليه تلك الحالة، ومقارنتها مع ما يحدث في بقاع كثيرة من دول العالم.


ولم يقتصر الحديث على مقدمي البرامج التلفزيونية ومن يستقدمون من محللين تربويين يغوصون في الأسباب الكامنة وراء ذلك العزوف، بل تعداه الى دور النشر والمطبوعات التي تشكو من قلة مبيعاتها، وكذلك من المؤلفين الذين لا يخفون خيبة آمالهم من ضياع جهدهم في الوصول برسالاتهم الفكرية الى شرائح واسعة من القراء العرب.

هل تلك الخصلة مقترنة بالتكوين العقلي للعرب؟

إذا كنا سنستعير استعمال لفظ العقل كونه وعاء للمعرفة أو أداة لها، فإن تلك الخصلة أي العزوف عن القراءة لم تلازم العرب في تاريخهم القديم، قبل الإسلام عندما كانوا يستخدمون الأسواق التجارية (عكاظ وغيرها) للتجارة وتبادل المعارف من خلال وسائل مختلفة أهمها الشعر.

وقد عزز الإسلام الشعور بالحاجة للمعرفة والحكمة والقراءة، وقامت الدولة الإسلامية في مراحلها وأماكنها المختلفة في صيانة التراث العالمي والتطوير عليه من خلال حركات الترجمة والبحث في كل صنوف العلوم. وقد ازدهرت مهنة الوراقين في كل الحواضر العربية، ولا ننسى الملكات التي يتحلى بها العربي في الحفظ وسرعته.

واليوم تجد في بعض البلدان العربية أعدادا تصل المليون في البلد الواحد ممن يحفظون القرآن الكريم ويقرءونه قراءة مضبوطة.

إذن فرمي العرب بأنهم أمة لا تقرأ أو لا تحب القراءة هي فرية لا أساس لها من الصحة.

لماذا إذن لا يقرأ العرب المواد التي يشكو أصحابها من قلة قراءها؟

لم يُشر من يرموا العرب بعدم القراءة للقرآن الكريم، ولم يشيروا الى عدم قراءة المناهج التعليمية في المدارس والجامعات، فالبلدان العربية تعج بالمدارس والجامعات ويتخرج من تلك خريجون يكون لهم شأن في بلدانهم أو البلدان التي يهاجرون إليها، سواء في الطب أو الهندسة أو في مختلف العلوم التطبيقية والفكرية.

لكن الإشارة أو العتب يذهب الى ما يًُكتب في مجالات بعينها، كالتي تتناول السياسة والفكر والاقتصاد والآداب وغيرها، ويُلاحظ هذا الشأن في عدم بروز من يؤشر عليه جماهيريا بأنه سياسي فذ أو اقتصادي فذ أو حتى شاعر فذ، ففي الوقت الذي يتذكر الكثير من المثقفين شعراء مثل زهير بن أبي سلمى وامرؤ القيس والمتنبي وابن الرومي، فإن ذاكرة معظمهم تتوقف عند شعراء النصف الأول من القرن العشرين عند أحمد شوقي وحافظ ابراهيم وأبو القاسم الشابي، وقليلون هم من يحفظون شعراً لمحدثين غيرهم وإن حفظوا لهم وذكروهم سيجدون هناك من يرمي أولئك الشعراء بصفات : مارق، مُلحد، مُسف الخ.

ما هي الموازين التي يعتمدها القارئ في القراءة؟

لم تعد وظائف الثقافة محصورة في اتجاه واحد، كما كانت عليه في بداية القرن العشرين، ففي تلك الفترة كانت معظم الأعمال الفكرية والثقافية تتوجه لإثارة الهمم الطيبة للتخلص من المستعمر وتطالب بالوحدة، وكان القراء يقبلون على قراءات متنوعة فيقرأون للكواكبي ومحمد عبده ورشيد رضا وزكي الأرسوزي وساطع الحصري وقسطنطين زريق وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وينهلون من الكتب لا يتوقفون عند ديانة أو مذهب سياسي.

أما اليوم، فإن معظم الأعمال الفكرية والكتابية تتوجه لنقد آخرين كان يُهيأ للقارئ العربي أنهم كانوا يصطفون في جبهة واحدة، ولكنهم اليوم أصبحوا جثثاً تحت مقصات غيرهم ليتم تشريحهم ونقدهم وتسفيههم وبالتالي للمطالبة بإقصائهم.

هذه الحالة دفعت القارئ بعد أن تم تشويشه لدرجة كبيرة، أن يبتعد عن القراءة لأنه لا يريد أن يصدق ما يُقال عن موضوع أو شخص مفكر وكاتب ما يغير تلك الصورة ويقلبها، وبنفس الوقت فإنه يبادر للامتناع عن قراءة ما يكتبه من كان يحبه!

لماذا أقرأ؟

سؤالٌ أصبح يطرحه علناً أو سراً الكثير من المثقفين..
فالأمور بنظر الكثير من المثقفين واضحة، الذل واضح والفساد واضح، والاتجاه نحو الهاوية واضح، ولم تفعل كل الأعمال الكتابية فعلها طوال القرن السابق، وهناك من يتناوله بأساليب أكثر راحة من القراءة وأقل كلفة منها، كالندوات التلفزيونية والأعمال الدرامية وغيرها.
ومن ناحية أخرى، فإن المثاقفة وهي العملية التي كانت تحدث بالجلسات السياسية والثقافية لتبادل الآراء وإثراء النقاش، قد قلت هي الأخرى، لانشغال الناس بقضاياهم اليومية والتي لم تترك الظروف القاسية مجالا ليبقى من الوقت والرغبة لتنظيم مثل تلك الجلسات، فلماذا أقرأ إن لم أجد من أتبادل معه الآراء فيما قرأته؟

ومن هم في بحبوحة عيش وظروف تسمح لهم بفراغ يمكن من خلاله أن يتثاقفوا، فهم لا يريدون تغيير الوضع الراهن ويكرهون الثقافة والمثقفين الذين يحرضون على تغيير الوضع الراهن!