شاعر يكتب القصة
قراءة في مجموعة مذكرات رجل حاف
للشاعر الدكتور / عزت سراج
بقلم أ. د / حلمي القاعود
أستاذ الأدب والنقد، ورئيس قسم اللغة العربية السابق بكلية الآداب جامعة طنطا
************
كاتب هذه المجموعة الدكتور /عزت سراج ، شاعر وناقد متخصص ، ولكونه كذلك فان لغته قوية طيعة ، يسيطر عليها لتهبه تميزا يفتقده كثيرون من كتاب القصة القصيرة ، أضف إلى ذلك حسه الشعري الذي يتبدى وراء الصور والتراكيب والبناء اللغوي بصفة عامة . والحس الشعري لا ينفصل عن الحس الإنساني في التقاط اللفظة المعبرة واللحظة المؤثرة في حياة البشر لذا جاءت معظم القصص مركزة ومكثفة ، وبعضها لا يتجاوز سطرا أو بعض سطر ، ولكن اقتناص اللفظة واللحظة يمكن الكاتب من تقديم أقصوصة ذات أثر ما ، مع قصدها واكتنازها ، لتشبه في بعض جوانبها فيوضات الصوفية :
( ناداه بصوت عال ، تلاشى في الضياء ، وحين رأى نور وجهه انكشفت لنفسه سوءاتها فمات ).
والتركيز والتكثيف في القصة يخلص الكاتب من ترهلات وزيادات وفضلات كثيرة ، فضلا عن اختفاء الصوت العالي أو الجهارة ، ليهمس بما يريد دون ضجيج ، وتبدو المفارقة سيدة الموقف في هذه الحال ، فهي وسيلة الكاتب الأولى أو المقدمة التي يستخدمها للكشف وإظهار حقائق الواقع وتناقضاته 0
اقرأ مثلا أقصوصة ( واقع ) ، وهي مكررة الموضوع ، وألح عليها كثير من الكتاب ، الكبار والشبان ، شخص يحب امرأة ، وكانت القرائن والأحوال تقول إنهما سيتوجان حبهما بالزواج ، ولكن الظروف تأخذ كلا منهما إلى طريق ، ولكنه بعد زمان يفاجأ بها تسير في الشارع ومعها أولادها .
( لم يكن قد رآها منذ عشر سنوات . كانت كل شيء في حياته . كان يعيش على أمل أن يراها ثانية . وحين رأها ذات يوم في الطريق ـ صدفة ـ مع أطفالها تسمر في مكانه لحظات ، ثم ابتسم غير مصدق عينيه . لكنها لم تعرفه ومشت ) 0
لقد لخص في هذه القصة كلاما كثيرا يمكن أن يقال في مثل هذه الحالات ، وكان القدر صاحب إرادة تختلف عن إرادات البشر ، والواقع ينزل عن هذه الإرادة ويتكيف معها بطريقة ما .
في أقصوصة ( ذئب ) تتجلى المفارقة وتكتمل بالسخرية المدهشة أو غير المدهشة في حقيقة الأمر :
( كل الأطفال تقذف النخلة بالحجارة إلا هو ، يجلس بعيدا عنهم بثيابه الممزقة . وحين يسقط البلح يجري لينقض على أول واحدة ، ويزاحم الأطفال . حين اشتد عوده – أخذ يرمي النخلة هو الآخر . وحين تزاحم الأطفال معه تحت النخلة – لم يجدوا إلا النوى ) 0
ويبدو أن التركيز أثر في بناء الأقصوصة وذلك باختفاء الحوار اختفاء يكاد يكون تاما ، فقد كان صوت السارد هو الحاضر في كل الأوقات تقريبا ، حيث يحكي غالبا بصوت الماضي ، كان ، صار ، أصبح ، ... حتى عندما يستخدم المضارع ، فإن صوت الماضي يهيمن في نهاية المطاف . فلو قال : يجلس ، يسقط ، يجري ، ينقض ، يتزاحم ، نجد الماضي يظهر ليكون صاحب القول الفصل : اشتد أخذ ، وهكذا ، فالتركيز في كل الأحوال داخل المجموعة يرتبط بما كان ، أو بما أصبح كائنا ....
ولعل هذا يقودنا إلى الموضوع القصصي في المجموعة ، وارتباطه بفترة متقدمة في عمر الكاتب ، فمعظم الأقاصيص تدور في مرحلة الشباب المراهق أو الذي تخطاها إلى شرخ الشباب كما يقال، ومن ثم نجد المعالجة الأثيرة للعلاقات بين الرجل والمرأة أو الذكر والأنثى، ومع أن البطل يبدو غالبا من الذين يملكون حسا دينيا أو ضميرا تؤرقه قضية الحلال والحرام ، فإنه غالبا ما يصحو هذا الضمير عقب العلاقة المحرمة أو قبلها .
لقد ترتب على ما سبق اندفاع الكاتب إلى ما يمكن تسميته بالمعجم الجنسي ، الذي بدأ في بعض الأحيان مجرد تعبير عن شهوة عارمة عارية لا تعرف الاحتشام ، بل بدت بعض الألفاظ فجة أو قريبة إلى الفجاجة ، وأتصور أن قدرة الكاتب التعبيرية تؤهله للصياغة التي تحقق غاياته الفنية والجمالية في آن .... لغتنا العربية غنية وثرية بالمعجم المباشر أو المعجم المجازي الذي يساعد الكاتب – أي كاتب – على مواجهة أصعب المواقف وأعقد المشاعر بالتعبير العذب الجيد الجميل ، دون تقصير أو افتعال أو تزيد 0
ثمة ظاهرة أخرى تحكم بعض الأقاصيص ، وهي الأداء السيريالي أو الحلمي ...نسبة إلى الحلم – وتنبع قيمة هذا الأداء في تخطي بعض الصعوبات الفنية لتوصيل الفكرة وترسيخها في ذهن المتلقي ، وهو ما نراه على سبيل المثال في أقصوصة (مسافات)، فبطل الأقصوصة يدخل إلى الصلاة ولكنه مشتت القلب ، يركع بينما المصلون خلف الإمام يسجدون ، ويسجد وهم راكعون ، الآيات تختلط عليه ، لا يستطيع أن يكمل سورة الإخلاص ، تقفز أمامه الذكريات في عشوائية ، وينعكس حاله على سلوكه بصفة عامة ، ، يدخل المسجد بقدمه اليسرى ، ويخرج باليمنى ، ولكنه يجد المصلين بعد انتهاء الصلاة في حشد كبير ملطخين بالدماء ، ممزقة ثيابهم ...إنه عالم كابوسي يصنعه التعب والإرهاق والجدب الروحي والأحلام الموءودة والآمال المحبطة ،ولكنه في كل الأحوال يتغلب على محنته ، ويفيق ويستيقظ في حركة غير إرادية عنيفة ، فيقفز بقدمه اليسرى إلى خارج المسجد ، وفي يده اليسرى مسبحته ذات الألف حصاة ، بينما في اليمنى ، خنجره ينز دما ، والناس أمامه يهرولون في فزع وهم يصرخون دون جدوى 0
الإحباط يفرض نفسه في كثير من الأقاصيص ، والأحلام المجهضة تبدو حاضرة بقوة في العديد من المواقف القصصية " انظر أقصوصة (الشيخ طه )على سبيل المثال " ، ولكن صدمة الواقع ، أو انتباهته تعيد الشخصية القصصية ـ وغالبا ما تكون السارد ـ إلى صوابها أو وعيها الحاد بما يجرى 0
هذه المجموعة تمتلئ بالقدرة على التعبير الشعري الفائق ، الذي يطيح بكثير من النماذج التي تدعي " الشعرية " ، وذلك لأن كاتبها ـ كما قلت ـ شاعر ، اتجه إلى السرد ، فكان الشعر أداته التي تركز المعنى والوصف والموقف والشخصية ، وتقطر كل ذلك في نسيج متميز ، وهو ما يشي بقدوم كاتب قصة – بل رواية – يملك طاقات فنية غير محدودة . وينبئ عن أدب جيد لو أتيح له الاستمرار والدأب .
ـــــــــــــــــــــــــ
أ . د / حلمي القاعود
أستاذ الأدب والنقد
ورئيس قسم اللغة العربية السابق
بكلية الآداب جامعة طنطا
( المجد في 3/ 8 /2003 )