كتب مصطفى بونيف

موستافا ( محامي الشيطان !)


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


كان موكلي الشرير ينظر إلي والرعب يسكن أحداقه بعد أن أسمعنا المدعي العام مرافعته مطالبا بتوقيع أقصى العقوبة على المتهم بعد ثبت بأنه أصدر شيكا بدون رصيد ..وهي جريمة تؤدي إلى ستين داهية في ظل الاقتصاد المفتوح والأزمة الاقتصادية العالمية .
وما إن أعطاني القاضي المجال للترافع عن موكلي زكريا ..ووقفت على المنصة ، كبس علي السعال .. حتى قدم لي أحد الجالسين كوبا من الماء وهو يقول ( صحة وعافية يا أستاذ ).

شربت الماء وأنا أقول ( أية صحة وأنفلونزا الخنازير تنتشر في البلاد ؟).
وما إن استمع القاضي إلى كلامي حتى وضع يده على أنفه وفمه ..وتكلم بصوت مكتوم ..( تفضل يا أستاذ ماهي أوجه دفاعك وخلصنا؟ ) .
وفجأة ارتفع صوتي مجلجلا ليهز أركان قاعة الجلسات :
" سيادة القاضي ، يجب أن يكون سيف العدالة صارما ليقطع يد كل من تمتد يده إلى أموال الناس بغير حق ، وبأن لا نكتفي بأقصى العقوبات التي ينص عليها القانون الوضعي التي أصبحت لا تخيف المجرمين ، هذا القانون الوضعي الذي تمت صياغته في برلمان يتشكل أساسا من ..."
قاطعني القاضي بصوته المكتوم بيده (وما دخلك أنت في البرلمان ؟، تكلم في صلب الموضوع وإلا حبستك بتهمة القذف في سلطة رسمية ) .
تنحنحت بعد أن لفت انتباهي وعيد القاضي ...وواصلت مرافعتي ( بلا شك فإنني أشاطر النيابة في طلبها لتوقيع أقصى العقوبة على كل من تسول له أصابع يده توقيع شيك بدون رصيد لأكل أموال الناس بالباطل ) .
صرخ موكلي خلف القفص ( الله يخرب بيتك ، كان يوما أسودا عندما اخترتك محاميا لشركاتي ) ..
دنوت من قفصه وهمست له ( لقد ذهبت إلى البنك لسحب أتعابي عن طريق الشيك الذي أعطاه لي مدير مكتبك ، ولم أجد في رصيدك دينارا واحدا ، تريد أن تستغفلني ، سوف أقدم لهم الشيك إذا لم تخرس وتتركني أكمل مرافعتي ) .
وبصوت غاضب مكتوم صرخ القاضي ( ماذا تقول للمتهم يا أستاذ ؟، قسما بالله لو اقتربت منه مرة أخرى لوضعتك معه ) .
تأسفت للقاضي وواصلت مرافعتي ( لو لاحظنا الشيك المقدم إلى عدالتكم سوف نجده أنه مستحق الدفع بعد ثلاثة أشهر ، وهذا ما نسميه بالائتمان الذي تقوم عليه التجارة والأعمال ) .
قاطعني المدعي العام قائلا ( الشيك أداة للوفاء وليس للائتمان يا سيدي وعليه فلا قيمة لأي تاريخ يوضع عليه ) .
نظر إلى القاضي مبتسما ولسان حاله يقول ( وقعت يا جميل ، لماذا لا تذاكر دروسك جيدا قبل أن تأتي إلى المحكمة؟ ).
صرخ موكلي خلف قفصه مرة أخرى ( الله يخرب بيتك ، الله يخرب بيتك ضيعتني ) .
ولم يسكته سوى أن رآني أخرج من جيبي الشيك الذي هددته به ..عاد وجلس في مكانه كمن تلقى ضربة على فمه .
تقدمت بالشيك إلى القاضي ..قائلا ( هذا الشيك كتبه لي موكلي بأتعابي في قضيته ، وبطبيعة الحال لن أذهب إلى البنك لأقبض أتعابي قبل أن أطمئن إلى براءة موكلي الذي يثق ثقة مطلقة بأنني سوف أبذل قصارى جهدي لأثبت لعادلتكم طهارة يده ...أتمنى أن تنظر سيدي القاضي جيدا في الشيك الذي أضعه بين يدي عدالتكم ..مستحق الدفع بعد ثلاثة أشهر ، لاحظ معي القيمة المالية الموضوعة على الشيك هي نفسها التي هي في الشيك محل الدعوى ، وهذا إن دل على شيئ إنما يدل على الثقة المتبادلة بيني وبين هذا الرجل ، رغم أنني لست تاجرا مثله وليس لنا مصالح مشتركة ، فكيف سيكون الحال مع زملائه التجار ، إذن كيف نقول بأن الشيك ليس وسيلة للائتمان والثقة ؟ ،والعرف بين التجار هو الثقة وعلى هذا الأساس أصدر موكلي الشيك ، لكن خصومه افترضوا سوء النية ، واشتكوه إلى عدالتكم ) .
قاطعني المدعي العام : ( إن النص أولى من العرف يا أستاذ ) .
وقف موكلي من مقعده خلف القفص وهو يبلع ريقه ، بينما أجبت المدعي العام ( المعروف عرفا كالمشروط شرطا ، ومع ذلك ليس هذا الوجه الوحيد الذي أستند فيه للدفاع عن موكلي ..لو تأملت عدالتكم الشيك محل الدعوى ، ستجد أنه حرر بخطين مختلفين ، وبقلمين مختلفين أيضا ، خط بالأزرق القاتم ، والمبلغ كتب بالأزرق الباهت ..وهذا يدفعني إلى التشكيك في صحة هذا الشيك أساسا ، وأطلب من عدالتكم إحالته إلى المخبر للكشف عن صحته ..إذ كيف يكتب شيكا واحد بقلمين مختلفين ، خاصة أن موكلي لا يكتب شيكاته إلا بقلم الحبر الأسود ..) .
صرخ موكلي فرحا ( الله ينصرك ، ويحفظك ..يا أستاذ ) .
دنوت من قفصه وهمست ( حتى تعرف بأنني شهم ولست مثلك نذل يا لص يا سارق يا آكل البلد في بطنك ، قسما بالله لو خرجت من المحكمة قبل أن يعطيني مدير مكتبك أتعابي كاش سوف أشتكيك في محكمة مختصة أخرى وأقدم لهم الشيك المضروب الذي أعطيته لي ..) .
نطق القاضي بحكم يقضي بإعادة فحص الشيك ، مما يعني مبدئيا براءة موكلي ..اللص !.
وفي جلسة أخرى ...

كانت موكلتي تقف خلف القفص ، وهي شابة في منتصف العشرينات من العمر ، حسناء ..فمها مرسوم كالعنقود ، ضحكتها أنغام وورود ، وشعرها غجري مجنون ...ياويلي يا ويلي !!...لكن للأسف تم ضبطها في قضية إخلال بالآداب العامة .
قرأ وكيل النيابة مرافعته ( إن هذه الماثلة أمام العدالة لهي واحدة ممن يخربن المجتمع بالفسق والانحلال ، وإن سلوكها المشين سيعود بالوبال على البلاد والعباد ، فلقد تم ضبطها في شقة مشبوهة يمارس فيها المنحرفون كل ألوان الرذيلة ..).
أعطى القاضي الكلمة للدفاع وما إن رآني أتقدم إلى المنصة حتى عاد ووضع يده على أنفه وفمه خوفا من أنفلونزا ....!
فورا وعلى غير العادة انطلقت في مرافعتي ( سيادة القاضي ، إني أستسمحكم أن تنظروا معي إلى هذا الوجه الملائكي..إنه وجه قال عنه الشاعر يوما وجه مثل الصبح مبيض ..وشعر مثل الليل مسود
ضدان لما اجتمعا حسنا ..والضد يظهر حسنه الضد
أستسمح عدالتكم أن تنظروا إلى هذا القوام الممشوق كأنه ذلك القوام الذي قال عنه العندليب قدك المياس يا عمري ...
لا يجب أن نخجل من النظر إليها ، ونحن نرى كل يوم ألوان الدعارة في بيوتنا ..هل يستطيع النائب العام أن ينكر بأنه شاهد يوما كليبات ميلودي ومزيكا وروتانا ، هل تنكر يا سيادة القاضي بأنك شاهدت ولو على سبيل الفضول كليب الفنانة روبي وهي تركب البسكتله وتقول ليه بيداري كده وكده ..محركة أجزاء حساسة من جسمها تجعل من الديك حمارا ؟ ) .
زمجر القاضي وقال بصوته المكتوم : "احترم نفسك وإلا قسما بالله وضعتك في السجن بتهمة قلة الأدب مع المحكمة ! ".
واصلت مرافعتي : ( إن الشرع يقول لا تعاقب الزانية إلا بحضور أربعة شهود عدول ، فأين هم الشهود العدول ؟ ).
زمجر القاضي مرة أخرى ( هذا إذا كنا سنعاقبها بالجلد مئة جلدة ، قل كلاما عدلا وإلا جلدتك بحزامي مئة جلدة ) .
اعتذرت من القاضي وواصلت مرافعتي قائلا ( سيدي القاضي إن القانون الذي وضعه نواب شرفاء في برلماننا الشريف تحت إشراف حكومة شريفة عفيفة طاهرة ..إنه ذلك البرلمان الذي يضم أكثر الناس عفة وشرفا قد أصدر قانونا يقول بأن التلبس بجريمة الزنا لا يكون إلا إذا وجد المتهم في مكان عام أو مقهى أو ملهى ..وموكلتي تم القبض عليها في شقة خاصة ) .
قاطعني وكيل النيابة قائلا ( لكنها كانت تمارس نشاط الفحش في شقتها الخاصة ..) .
دنوت من قفص المتهمة ..ورميت بها قصاصة صغيرة من الورق كتبت عليها هذا رقم هاتفي ، عندما يحكم لك بالبراءة كلميني أو أرسلي رنة وسأتصل بك فورا ) .
وواصلت مرافعتي : ( إن تقارير شرطة الآداب تقول بأنها ضبطت في غرفة مغلقة ، بينما كان الزبون المحترم ينتظر في الصالون ، وهذا يعني بأن التلبس بالجريمة غير موجود ، أستطيع أن أدفع بأن الرجل جاء ليأخذ حقنة في عضلة مؤخرته ..).
نطق القاضي خلف يده : ( تأدب !) .
واصلت قائلا : ( إن القانون يمنع تفتيش البيوت بعد الساعة الثامنة مساءا إلى الخامسة صباحا ، والشرطة اقتحمت المسكن على الساعة التاسعة ليلا ، أي في توقيت غير قانوني بما يعني انتهاك حق أساسي من حقوق المواطن وهو حق الراحة ...فأين حقوق الإنسان ؟ )
ورحت أصرخ .. "أين حقوق الإنسان؟ ، أين حق المواطن في الراحة ؟..لك الله يا بلدي ..لك الله يا بلد ! ".
أسكتني القاضي ..وحكم للمتهمة بالبراءة ...
ثم حكم علي بالسجن لمدة خمسة عشر يوما بتهمة الإساءة لهيئة المحكمة ! .

ولك الله يا بلد !!.


كان معكم الأستاذ مصطفى بونيف من سجن الليالي السوداء