السُنَة والإصلاح

تأليف: د. عبد الله العروي

من منشورات: المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء
حجم الكتاب: 222 صفحة.
عرضه في مجلة إضافات: الكاتب المغربي: إبراهيم أعراب

استهلال

في كتابه الأخير (السنة والإصلاح) [ الكتاب بالأصل وضع بالفرنسية، فالسنة عند المؤلف تعني التقليد]، وكوسيلة لعرض أفكاره، ولمقاربة عدد من القضايا تهم الإسلام وتجربة الوحي والقرآن الكريم كنَص مؤسس، والسنة والإصلاح الخ، اختار المؤلف د. عبد الله العروي أسلوب المراسلة بين (سائلة ومسئول)، السائلة، كما حدد هويتها في الفصل الأول من الكتاب، امرأة من والدة أجنبية، تلقت تعليماً صرفاً وبلغة إنجليزية. هي متخصصة بالبيولوجيا البحرية، ذات ذهنية علمية، تعيش في مجتمع غير إسلامي، مطلقة من رجل شرقي، لها منه ولد يقارب التاسعة.

أما المسئول، فهو المؤلف نفسه، د. عبد الله العروي، الذي أنيطت به مهمة الإجابة عن أسئلتها القلقة التي تخص أساساً الموقف من الدين (الإسلام) وكيفية قراءتها القرآن الكريم، وشكها في ما يوفره العلم من إمكانات في هذا المجال.

فما هي هذه الإجابات التي قدمها العروي للمرأة السائلة القلقة بخصوص الهوية والإسلام وقرآنه وسنته؟ وما المقاربة التي اعتمدها؟ وما الأطروحة أو الفرضية الأساس التي سعى العروي الى إبرازها في كتابه (السنة والإصلاح)، وحاول أن يقنع بها، ليس سائلته فقط، ولكن أيضاً متلقي خطابه وقرائه؟ ثم أين يكمن موقع هذا الكتاب ضمن المشروع النقدي للعروي؟

إن المنهج التاريخي الذي عُرف به العروي، ضمن ما يؤكد، وعلى حد قوله في كتابه، أنه لا سبيل الى العلم الموضوعي دون طرق باب (التاريخانية) ص 159. فالعروي إذن، ومن أجل الوصول الى معرفة موضوعية علمية بتاريخ الإسلام وبتجربة الوحي فيه، وبكتابه المؤسس (القرآن الكريم)، وبالسنة كما تشكلت في إطاره، لا يرى إلا اعتماد التاريخانية والتاريخ النقدي، وتجنب ما سماه ب (الأجوبة الجاهزة) ص 128 التي توارثها المسلمون جيلاً عن جيل، لأنها ـ كما يقول ـ تمثل الرواية الرسمية (ودواعي الشك فيها كثيرة وملحة).

فكيف شغل العروي إذن منهجه التاريخي النقدي في دراسته لظاهرة الوحي في الإسلام، بل لظاهرة الوحي في الديانات الكتابية (اليهودية، المسيحية، الإسلام) كظاهرة حدثت في التاريخ؟

إن العروي المؤرخ النقدي لا يقبل بتاتاً معالجة أية ظاهرة، دون انغماسها في دوامة التاريخ وتطوراته ومكره. ومن هذا المنطلق، يخضع الإسلام بالنسبة إليه لهذا الشرط وهذه القاعدة.

من هنا سيكون خطابه عن الإسلام والوحي والقرآن الكريم والسنة الخ من منطلق تاريخي نقدي.

(1)

وعليه، وبناءً على هذه الرؤية والمنهج التاريخاني النقدي، خلص العروي الى القول بالفرضيات التالية:ـ

ـ إن الإسلام لم ينشأ في صحراء أو جاهلية ثقافية، فهو كان متصلاً بعامله ومحيطه المتوسطي والهللينستي (Hellenistique) الشرقي، بما عُرف من امتزاج للثقافات والديانات وتوافقها واحتوائها على فكرة التوحيد.

وترى الفرضية أنه، في سياق هذا العالم المتوسطي والثقافة الهللينسية، تشكلت لحظة إبراهيم الخليل عليه السلام وتجربته كمقياس ومرجع وذاكرة، وكنقطة بداية ستتكرر لاحقاً في اليهودية والمسيحية والإسلام.

وضمنياً، هناك تأثير هللينستي في هذه الديانات (الهللينسية: تعني امتزاج الفكر اليوناني ـ الغرب، مع التدين الشرقي ـ الشرق).

ـ إن تجربة إبراهيم الخليل عليه السلام التوحيدية ومحنته وتساؤلاته شكلت الأصل والمنبع الروحي.

فهو كما يقول د. العروي، أبو الأنبياء جميعاً، وبالتالي (فلا دين إلا هو إبراهيمي المنحى ص 63)، وكل الديانات التي جاءت بعده هي ورثة له، مع تنوع في العبارات والألفاظ والمجازات، بما فيها الديانة الإسلامية، (التي ليست سوى تجديد لتجربة إبراهيم عليه السلام ص70) في براءتها الأولى وفي دعوتها للتوحيد، وفي الخوف من خطر التجسيم وعبادة الأصنام والشرك، وفي اتصاف النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالأمية، لأن إبراهيم عليه السلام كان خارج عالم الكتابة وقبلها..

ـ وكنتيجة للقول بوحدة الأصل والمنبع بين الديانات (المنبع الإبراهيمي)، فإن هذه الديانات تتضمن بعضها بعضاً، ويحتوي كل منها على جوانب من الديانات الأخرى قبولاً أو رفضاً، وكما يقول العروي ( فاليهودية التاريخية تحمل في لبها نصرانية افتراضية وإسلاماً محتملاً ص 71)، كما أن النصرانية تحمل يهودية شكلية مثلما حمل الإسلام يهودية صورية ونصرانية شكلية. وهذا الاحتواء والتبادل اعترف به الإسلام نفسه من خلال قبوله بأنبياء هذه الديانات عليهم السلام. وكتبها مع تنصيصه على وجود انحرافات فيها، وأن الإسلام جاء لتصحيحها، خاصة في مسألة التوحيد.

وإجمالاً، فإن تجربة إبراهيم الخليل عليه السلام، تجددت وتكررت مع التجربة النبوية في الإسلام وأن (الرؤية التوحيدية الإبراهيمية انكشفت لفتى عربي ـ كما يقول العروي ـ سكن مكة وحمل اسما يؤدي معنى الحمد ص 88)

ـ إن نبي الإسلام محمد صلوات الله عليه كفاعلٍ تاريخي، عاش في العالم المتوسطي، الذي انعكست فيه ـ على درجات متفاوتة ـ الثقافة الهللينستية، بعد أن اتجاها لا رجعة فيه نحو التوحيد في مجال العقيدة، والتعميم والقطع في مجال الفكر، والإطلاق والاستبداد في مجال السياسة. ففي فترة ظهور دعوة النبي صلوات الله عليه، كانت الديمقراطية اليونانية قد انهارت منذ عهد طويل، وبات الطابع الشرقي يغلب على الثقافتين اليونانية و الهللينستية.

ـ في القرآن الكريم، تجسدت تجربة النبوة أو الوحي كما تأصلت مع تجربة إبراهيم الخليل عليه السلام. والقرآن الكريم لا يمكن قراءته وفهمه إلا بالتعرف الى تجربة النبي صلوات الله عليه (سيرته) وقبلها التعرف الى العرب المخاطبين بالرسالة وقبل هذا وذاك، العالم الذي أحاط بهم وشاركوا بقدر ما في أحداثه (ص89)، والعالم المقصود هو حوض المتوسط الشرقي، أو العالم المتوسطي والعهد الهللينستي الذي أصبح أكثر ميلاً للشرق .

ـ ليس الإسلام سوى قراءة يقوم بها شعب بعينه (العرب)، قبل أن تدون تلك القراءة الخاصة في نص مضبوط وبلغته.

وهذا النص لا يعني عند العروي كتابة جامدة، بل كتابة مقروءة تجسد الكلمة أو العهد الإبراهيمي، وتجدده من خلال التلاوة والذكر والاستظهار (ص 73).

ـ الى جانب هذا النص المدون (القرآن الكريم)، وهو النص المؤسس والمرتل والمرتب ترتيباً غير زمني، هناك السنة والحديث الذي يُروى عن أقوال وأفعال النبي صلوات الله عليه طوال القرون الأولى.

وهناك تساؤلات ينبغي طرحها في نظر العروي بصدد السنة، بعيداً عن الأجوبة الجاهزة والمتوارثة، من قبيل: كيف تكونت السنة؟ من قام بذلك ولأي هدف؟ وكيف تتم إعادتها عبر التاريخ كنَسقٍ وتقليد؟

لأنه بحسب رأيه، فسيرة النبي صلوات الله عليه المعتمدة اليوم، لم تحرر إلا بعد مرور قرن على تاريخ جمع القرآن الكريم، والأحاديث المتعلقة بأقوال وأعمال النبي صلوات الله عليه ولم تُصنف بكيفية تجعلها في متناول القضاة والوعاظ والمفتين، إلا بعد مرور قرن آخر على تأليف السيرة (ص 128).

يتبع