(17)

كانت شمس ذلك اليوم تضع خطاً مرحلياً لسباق أمطار الأيام السابقة، فهُرع المشيعون من البلدة لتشييع جثمان الشيخ عليان، الذي عاجلته المنية بعد مرض عدة أيام.


لم يُنه الحفارون قبر الشيخ بسهولة، فتجمع الناس حولهم، وأحدهم يراقب الخط الناشف من التربة مع ما فوقه من تربة رطبة طينية بفعل الأمطار السابقة، ويعلن بصوت عالٍ: ما شاء الله لقد ارتوت الأرض، فالتربة المبلولة أكثر من شبرين. ويردد آخر: أي شبرين؟ قل ذراعاً أو أكثر، فتطوع أحدهم لقياس التربة المبلولة ليضع حداً لهذا الخلاف.

وارى المشيعون جثمان الشيخ عليان، ولقنه شيخٌ: (إذا أتاك الملكان الشفيعان يسألانك من ربك، فقل ربي الله، وإن سألاك عن نبيك فقل نبيي محمد صلى الله عليه وسلم.. الخ)

ظهر صوت محمود ابن عليان، يا أهل البلدة: لا تتحملوا مشقة التعازي هنا، فالبرد قارص رغم سطوع الشمس، ومن أراد أن يقدم تعازيه، فبيت العزاء في (مضافة الشيخ عليان).

(18)

تقاطرت النسوة الى بيت العزاء المخصص للنساء، وكن يمشين ببطء تحمل كل منهن بعض أقراص الخبز المدهونة بالزيت وتغطيها بقطعة من القماش، ويدخلن بيت العزاء يجلسن بغير نظام، فعندما تكتمل الحلقة التي تجلس فيها النسوة مستندة الى جدران الغرفة، تجلس الحلقة الأخرى أمامهن، وهكذا.

يصدر صوت نحيب من أرملة الشيخ عليان، يكون خافتاً في البداية، ثم يعلو شيئاً فشيئاً، تعدد في نواحها مناقب زوجها الراحل، لترد عليها النسوة بالبكاء تضامناً وكأنهن فرقة (كورال) لم يُحسن تدريبها.

وبعد أن انتهت أرملة عليان من نمرتها، تناوبت النسوة في النواح على أشخاص لم يذكرن أسماءهم، كما يُتَبع في بطاقات محلات بيع الزهور، لتكون وكأنها مساهمة ومشاركة في المصاب، ولكن في الحقيقة كل واحدة تندب مصابها هي وتبكي على فقيد لها دون ذكر اسمه.

لم تنشغل الحاجة حليمة بشكل جدي بالمشاركة في النواح، بل كانت ترقب دخول وخروج الابنة الكبرى للشيخ عليان وهي توزع بعض الأطعمة على المشاركات.

(19)

جلس صابر بجانب مدرس التاريخ، في بيت العزاء للرجال، وكانا يستمعان الى موعظة من الشيخ مبارك عن العذاب الذي سيتعرض إليه الظالمين، وكان الشيخ يصف الموكلين بتعذيب أمثال هؤلاء، فمن بين ما قاله: أن أصبع قدم أحدهم يزيد حجماً عن جبل أُحد.

اختلس صابر نظرة جانبية تجاه مدرس التاريخ، فبادله بنظرة في طياتها ابتسامة غير مرئية، لا يفهمها سواهما، حملت في طياتها تساؤلات عن مصادر معلومات هؤلاء الشيوخ والواعظين، وعن الكيفية التي صاغ بها من وضع مثل تلك الصور لتخويف من يعظهم، وهل كان من الضروري أن يُضخم هيئة الموكل بتعذيب المجرمين لذلك الحد، حتى يرتدع من يسمع مثل تلك المواعظ؟

أنهى الشيخ مبارك موعظته بدعاء للميت راجياً من رب العالم أن يرحمه ويتجاوز عن ذنوبه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته ويعوض على أهله عوض الصابرين. ولم ينس أن يشكر الله على الأمطار التي أنعم بها على أهل البلدة، فأمن الحاضرون وراءه عن كل دعوة، وقرءوا الفاتحة ومسحوا وجوههم.

دار من يسكب القهوة السادة في فنجانٍ أو فنجانين على جميع الحضور، ونهض من نهض مغادراً وبقي من بقي من أقارب وأهل الشيخ عليان.