لابد وأن نعلم أن فنون الشعر كما اصطلح عليها النقاد سبعة هي ( الشعر – الموشح – الدوبيت – الزجل – الكان كان – القوما – المواليا )
وقد قسمها علماء الفن الشعري ثلاثة أقسام :
الأول فنون شعرية معربة : وهي ثلاثة أنواع [ الشعر – الموشح – الدوبيت ] وسميت بالشعر المعرب لأنها تلتزم جميعها بأصول وقواعد اللغة العربية ولا تخرج عن ضوابطها الإعرابية
الثاني فنون شعرية غير معربة : وهي التي لا تلتزم قواعد اللغة من ضبط إعرابي أو صرفي وهي ثلاثة [ الزجل – الكان كان – القوما ]
الثالث فنون شعرية بين المعرب وغير المعرب : وهي [ المواليا ] والمواليا هي حلقة الوصل بين الشعر المعرب وغير المعرب وإن كان النظم فيه بالعامية أليق وأحسن وهو الذي تطور حين جاء مصر وسمي بالموال
وفي الحلقة الأولى سوف نتحدث عن فن المواليا الذي هو أكثر هذه الفنون انتشاراً في الأوساط المصرية الشعرية فللمصريين فضل كبير عليه كما سنعلم من خلال تعرضنا لرحلة هذا الفن وإن كان الفضل في نشأته يرجع إلى أهل بغداد من أهل واسط الذين لطفوه ونقحوه ورققوا ودققوا وحذفوا الإعراب منه واعتمدوا على سهولة اللفظ ورشاقة المعنى حتى عرف بهم دون مخترعيه ونسب إليهم وليسوا بمبتدعيه ...
نشأة فن المواليا :
اختلف المؤرخون في نشأة المواليا .. فمنهم من نسبها إلى أهل ( واسط ) وهي المدينة التي أنشأها " الحجاج بن يوسف الثقفي " الحاكم من قِبَل بني أمية على العراق سنة 82 هـ ومن هؤلاء " صفي الدين الحلي " في كتابه { العاطل الحالي والمرخص الغالي } فهو يقول في هذا الفن " وإنما سمي بهذا الاسم لأن الواسطيين إما اخترعوه وكان سهل التناول لقصره تعلمه عبيدهم القائمون على عمارة بساتينهم فكانوا يغنون به في رؤوس النخيل وعلى سقي المياه ويقولون في آخر كل صوت مع الترنم " يا مواليّا " إشارة إلى سادتهم فغلب عليه ذلك الاسم وعرف به "
ويرى فريق آخر من مؤرخي الأدب أن اختراع المواليا يرجع إلى عصر هارون الرشيد بعد نكبة البرامكة سنة 187هـ فقد أمر بعد صلب " جعفر البرمكي " أن لا يرثي البرامكة أحدٌ بشعر معرب – والرثاء معروف في الشعر العربي بالبكاء على المتوفى وتعديد مآثره - وإلا سيتعرض للصلب مثل جعفر البرمكي وكان يقصد بالشعر المعرب " الشعر العربي الرصين المنضبط وفق أصول الإعراب " فأتت جارية من جواري جعفر البرمكي ورثته بهذا النوع من الشعر الذي يدخل فيه اللحن – واللحن هو الخطأ في النطق والإعراب – وجعلت تقول بعد كل شطر " يا مواليّا .. يا مواليَّا " فعرف بهذا الاسم وأول ما نظمت الجارية كان على البحسر البسيط الذي هو " مستفعلن .. فاعلن .. مستفعلن .. فاعلن " فأصبح من أهم الأسس الفنية أن يكون الموال بعد ذلك على نفس البحر وكان الذي نظمته هو :
يا دارَ أينَ ملوك الأرض أينْ الفرسْ
أين الذين حمَوها بالقنا والترسْ
قالت : تَرَاهم رِمَمْ تحت الأراضي الدُّرسْ
سكوت بعد الفصحاة َ ألْسِنَتْهُمْ خُرْسْ
وعلى هذا فالمواليا من الفنون التي لا يلزم فيها مراعاة قوانين العربية لدرجة دفعت " جلال الدين السيوطي " إلى القول : " بأنه يجب فيه اللحن فيجوز فيه استخدام الألفاظ الجارية في تخاطب العوام من الناس لفظا وخطا معا "
والقول خطا أن يكتب كيفما نطق فنقول مثلا " ألقى حبيبي لكين مش قادر أوصل له " فكتبت " لكن = لكين " وهذا جائز تماما وقد جاء في كتاب "تاريخ الأدب في إيران " للمستشرق " أدور جرانفيل براون " فيما يتعلق بالمواليا فقال : " وابن الفارض أنشأ بالإضافة إلى الأشعار الأدبية جملة من الأشعار العامية التي تعرف باسم المواليا وقد نسب براون المواليا لابن الفارض أنه قال :
قُلْتُو لجَزَّارٍ عِشِقْتوكُمْ تُشَرِّحْنِي
ذَبَحْتَنِي قالَ : دا شُغْلي .. تُوَبِّخني
ومالْ إليَّ وَبَاسْ رِجْلِي يُرَنِّخْنِي
يريدُ ذَبْحِي .. فَيَنْفُخْنِي لَيُصْلُخْنِي (1)
(1)هناك عادة عند الجزارين عندما يذبح الشاة يضع السكين بين أسنانه وشفتيه ينتظر موت الذبيح ليبدأ في سلخه
وتتداخل المواليا مع ( الشعر النبطي ) فهناك من المؤرخين من أرجع المواليا إلى " النَّبَط " الذين كانوا يشكلون الأكثرية في المنطقة الجنوبية من العراق قبل الفتح الإسلامي وهم عرب مستعربة يتكلمون اللغة العربية ويكتبون الكتابة الآرامية ويؤيد ذلك إجماع المؤرخين اليونانيين والشعر غير المعرب ( العامي ) لدى أهل الحجاز ونجد وإمارات الخليج العربي يسمى بـ "الشعر النبطي" حتى الوقت الحاضر على أنه قد أتاهم من جنوب العراق أو من مشارف الشام حيث يسكنها الأنباط قبل الفتح الإسلامي فهم ينعتونه بالشعر النبطي أو شعر النبط حتى الوقت الحاضر .
ومن الجدير بالذكر أن من عاشوا في المنطقة الجنوبية من العراق كانوا يطلقون اسم الأنباط على فلاحي سواد العراق وبدو مشارف الشام وفلاحيه لأن التحريف لحق اللغة العربية هناك قبل الجزيرة لكونها أعجمية الأصل وسرعان ما اندمج الفاتحون العرب بالسكان فدخلت العُجْمَة على الألسنة .. وقد استدل أصحاب هذا الرأي على ما جاء في " جامع ديوان عبد الله الفرج " الشاعر النبطي حيث نظم مواليا سباعي - وهو كالنعماني والزهيري كما سيأتي في توضيح أنواع المواليا وأشكاله في محاضرات تالية – الذي يتكون من سبعة أغصان يقول في مواليا نبطي :
يا قلب ياللي بنيران التجافي ذاكْ
وبسيف هجرٍ قطعْ منُّه الوريدْ أو ذاكْ
عاشر مُهَذَّبْ وَفِي .. صاحبْ حليب أو ذاك
هناك يذكر مليحك ع اللسان وَفَّا
ما زال ثوب المروة فوك راسك وفي
إن صح في دنيتك واحد من اهل الوفا
ذاك ال تريده بلا شك .. وين يحصل ذاك
وله أيضا مواليا يشكو دهره الذي جعل طعامه الحنظل والصبر .. وفي هذا المواليا يظهر نوع العمل الذي كان الكويتيون يزاولونه قبل ظهور النفط في بلادهم حيث كانوا يزاولون الغوص في البحار بحثا وراء الدُّر يقول :
ما لوم دهري وعالج بالصبر والماي (الماء)
غداي حنظل ومديوت ( معجون ) الصبر بالماي
العزم فاتر وعرض طار شي بالماي
إيش النداري من الأنذال إيش النغص
حنا على الدر ببحور الأماني نغص
نسعى على المأ وحتى في غذنا نغص
إش بصرتك لي دهتنا غصة بالماي
على أنه كان للأنباط دولة متحضرة قامت في فلسطين ومنها هاجروا إلى العراق حيث سكنوا المنطقة الجنوبية منه ولما فتح العرب الحيرة سنة 14 هـ أمر الخليفة عمر بن الخطاب بتأسيس مدينة البصرة سنة 15هـ فصارت بعد تأسيسها عاصمة العراق وتوطنت فيها قبائل عربية مختلفة الأصول والأنساب فقامت بينهم علاقات مع السكان الأصليين من الفرس والنبط والآراميين وانتشر الإسلام في هذه المنطقة إلا أنه لم يدخل في قلوبهم ولما كانت مصالحهم مرتبطة بالعرب المسلمين اضطروا إلى التقرب منهم عن طريق خدمتهم وتولي أمر العمارة العربية وزرع أراضيهم وكان العرب في بداية الدولة الأموية حريصين جدا على قوميتهم ولغتهم والحفاظ عليها من تسرب اللحن – الخطأ في النطق – إليها بأي شكل من الأشكال مما جعل الحكام العرب آنذاك يبعدون الأنباط عن ديارهم خوفا من تفاقم خطرهم على اللغة و القومية ومثل على ذلك ما فعله الحجاج بن يوسف الثقفي الحاكم من قبل بني أمية على العراق عندما نزل " واسطا " نفى النبط عنه وكتب إلى عامله بالبصرة وهو ( الحكم بن أيوب ) بقوله "إذا أتاك كتابي فأنف من قبلك من النبط فإنهم مفسدة للدين والدنيا " فكتب إليه الحكم : " قد نفيت النبط إلا من قرأ القرآن وتفقه في الدين " فكتب إليه الحجاج : " إذا قرأت كتابي فادع من قبلك من الأطباء ونَمْ بين أيديهم ليقفوا عروقك فإن وجدوا فيك عرقا نبطيا فاقطعه والسلام "
وهنا فالأرجح أن فن المواليا من أغاني الأنباط القديمة التي كانوا يغنون فيها والعرب بدورهم نسبوها إلى مواليهم لأنهم كانوا يغنون بها أما قولهم " يا مواليّا " مع الترنم في آخر كل صوت فهو التقرب من أسيادهم العرب ومدحهم به .
ثم وصل المواليا إلى أهل بغداد وكان فصيحا وغير ملحون فرققوه ولطفوه وحذفوا الإعراب منه واعتمدوا سهولة اللفظ ورشاقة المعنى ونظموا فيه الجد والهزل والرقيق والجزل حتى عرف بهم دون مخترعيه ونسب إليهم وليسوا بمبتدعيه ثم شاع في الأمصار وتداوله الناس في الأسفار ... ولنا وقفات في حلقات قادمة نتحدث عن دور المصريين في هذا الفن الشعري