المحور الثاني: إدراك القدماء لمقاييس نقد العاطفة وكيف قاسوها؟
==========================
تعريف ومقدمة :
العاطفة هي ذلك الانفعال المتكرر في النص الأدبي حيث يكون الأديب فيه
قد تأثرت نفسه بأمر من الأمور وصار يلح عليه حتى يثبت في وجدانه بقوة
تنبع من داخله فيتلقاها السامع أو القاريء شفافة واضحة من خلال نصه
ولنضرب لها مثلا عمليا أنك قد ترى إنسانا فتعجب به إعجابا قويا وهو شعور قلبي يسمى عند القدماء الانفعال الذي يصدر عنه كثير من الأدب .
لأن الإنسان يعجب فيثور فينفعل فيصدر عنه إبداعه الأدبي كالشعر أو النثر
وإذا تكرر هذا الإنفعال أصبح عاطفة ثابتة في النفس كما يتكررإعجابك
بإنسان فيصير لديك عاطفة حب له , فحينما تكون طفلا تسر برؤية والدتك فإذا
استمر هذا السرور وجد في قلبك عاطفة الحب لأمك , فالعاطفة انفعال
يتكرر حتى يثبت . والأدب يصدر عن هذين العنصرين ؛ الانفعال والعاطفة
بل لايسمى أدبا إلا إذا اشتمل عليهما , والأدب يصدر عن الشعور بالجمال
كذلك ويختصر بعض النقاد معناه : أنه التعبير عن العاطفة والجمال وهذا ما يفرق بين الأدب والعلم فالعلم تعبير عن الفكرة .
أما الأدب إذا خلا من التعبير عن العاطفة كان أدبا ضعيفا وسماه بعض النقاد
الأدب الميت أو الذي لاروح فيه مما يدل على قوة عنصر العاطفة في النص الأدبي
فأخذ النقاد يفكرون فيها وكيف يقيسونها ؟!
1- فقالوا : إنها لابد أن تكون ناشئة عن سبب حقيقي لا مصطنع وقالوا إن شعر المدح لاينبع عن سبب حقيقي بل مصطنع أحيانا لأن السبب هو الإعجاب حقيقة , فإذا مدحت إنسانا لأنه يعطي المال فهذا ليس بسبب الإعجاب بالممدوح
وأطلقوا على المقياس ( صدق العاطفة ). وقد يكون الشاعر حاملا لعاطفة صادقة نحو الممدوح كما فعل أبو تمام في مدحه المعتصم عندما غزا عمورية
لاستخلاص امرأة مسلمة استنجدت به .
2- وبحث النقاد عن العاطفة في النص الأدبي وطالبوا بأن تكون قوية وطيدة الأركان في نفس الشاعر راسخة في قلبه , يتذوقها السامع ويحسها وإن كان ذلك المقياس فيه صعوبة لمعرفته والوقوف عليه , وإذا كانت سطحية عابرة
عابها النقاد وقالوا : عاطفة الأديب ليست عميقة في وجدانه وأطلقوا على المقياس ( عمق العاطفة ) . فمدح النقاد قول : قيس ببنى
نهاري نهار الناس حتى إذا دجى = لي الليل هزتني إليك المضاجع
فقد قاسوا عمق عاطفة التألم والحنين لمفارقته لمحبوبته رغما عنه ووصفوها بأنها استقرت في قلبه استقرارا عنيفا .
3- قاسوا العاطفة أيضا بالمقارنة بين رفعتها عند أديب ونقص سموها وضعتها عند آخر , فذكر النقاد أن الشريف الرضي كانت عاطفته شريفة سامية في قوله
فلا هطلت عليّ ولا بأرضي = سحائب ليس تنتظم البلادا
فهو لا يطلب أن تخصه الطبيعة بالخير وحده , فكان أفضل من نظيره
الذي قال :
إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر ..( أبو فراس الحمداني )
لأن هذا الشاعر أثرة وعاطفته ليست إنسانية . فالشعر الذي يتحدث عن العواطف الإنسانية الرفيعة أحسن من ذلك الذي يتحدث عن الغرائز مثلا .
ويسمى هذا المقياس :( سمو العاطفة أو ضعتها .)
4- وهناك أيضا مقياس التنوع )
فالأديب الذي تتنوع عاطفته بين الرضا والغضب والحب والبغض والطموح والقناعة يكون أرفع شأنا من الذي يتحدث عن عاطفة واحدة لا يخلص منها
كمثال الآلة الموسيقية ترتفع قيمتها إذا كانت تصدر أنغاما متنوعة مختلفة
بخلاف الآلة التي تصدر نغما واحدا .
5- كما قاس النقاد العاطفة بمقياس : ( الاستمرار )
بأن يظل الأديب محتفظا بقوة عاطفته في النص الأدبي كله متأججة الإحساس
فإن فترت في بعضها ينشأ الضعف في الجزء من القصيدة الذي ضعفت فيه العاطفة عند الشاعر .
وهذه المقاييس الحديثة عن العاطفة أدركها القدماء بمعناها اللغوي من عطف الشيء على الشيء أي جاء بجانبه , كما لم يعرفوا النقد الأدبي بمعناه الاصطلاحيّ الحديث
وإن أدركوا حقيقته ومعناه وعالجوه معالجة فعلية في حدود أدبهم الغنائي الذي أدركوا فيه معنى العاطفة . وكان تعبيرهم في النقد قولهم :
أن الشعر له قواعد يصدر عنها فهو إما يصدر عن رغبة أو رهبة أو حب أو بغض أو أسف , وقالوا ينشأ عن المحبة شعر المدح وعن الرهبة شعر الاعتذار والعتاب وحددوا الانفعالات بحدود أدبهم وأدركوا أن الشعر لابد أن
ينشأ عن هذه القواعد فيسأل بعض الشعراء عن عدم قول الشعر فكان يقول:
كيف لا وأنا لا أغضب ةلا أرهب ولا أطرب ...وعرفوا أن هذه الانفعالات
قد يأتي بعضها أقوى من بعض فتقوى عاطفة الوفاء عن عاطفة الرجاء فيترتب
على ذلك أن يقوى شعر الرثاء مثلا على شعر المدح وهكذا .
وقال النقاد القدامي كابن قتيبة وقدامة بن جعفر وغيرهم :
أقوى الشعراء من خلال مقاييسهم للانفعالات لديهم :
امرؤ القيس إذا غضب
والأعشى إذا طرب
والنابغة إذا رهب
وزهير إذا رغب
ونأخذ عليهم أنهم لم يذكروا للرثاء باعثا يدفع إليه وهو فن من فنونهم .
وجعلوا الشعر الذي يخلو من هذه الانفعالات ضعيفا وسموه ( شعرا قليل الماء)
لأن الماء كان عندهم مصدر الحياة فعابوا قول الشاعر لبيد :
ما عاتب الحر الكريم كنفسه = والمرء يصلحه الجليس الصالح
لعدم تحدثه عن عاطفة قوية لأنه جاء بالقواعد العلمية والحقائق التي تدرك بالعقل أكثر من الإحساس والصلة بين الشطرين ضعيفة غير واضحة وجاء خاليا من الحيوية والانفعال .
ومما يؤكد إدراك القدماء لمقياس صدق العاطفة مثلا عندما كانوا يرون شعر الغزل فيقولون ( والله إن هذا الشاعر ما أحب صاحبته قط )
وأدركوا مقياس ( العمق ) عندما نستمع موازنة نقادهم وهم يفضلون شاعرا
على ابن أبي ربيعة فيقول الناقد هون عليك فشعر عمر له نوطة في القلب وعلوق بالنفس ) .
وأدركوا كذلك مقياس التنوع في العاطفة لتفضيلهم الشاعر ذي الألوان الكثيرة
ففضلوا جريرا على عمر بن أبي ربيعة لتنوع عواطف الأول عن الثاني .
كما تحدثوا عن اختلاف النسيج في القصيدة الواحدة وأسبابه لكنهم لم يتحدثوا عن مقياس الاستمرار ولعل خوفهم من طول القصيدة راجع إلى عدم استمرار
قوة العاطفة حتى لا تفتر العواطف وإطالة الغزل الذي يبدأ به المدح . لأن الشاعرتضعف قوته في المدح .
وأخلص من ذلك أن العرب قد أدركوا معنى العاطفة دون لفظها الاصطلاحي
وإن لم يكن إدراكا واضحا قويا من خلال المقاييس التي نعرفها لقياس العاطفة
في النصوص الأدبية اليوم .