كلام جرائد

تعود الناس في البلدة على رؤيته منكباً على قراءة جريدة من على كرسي قديم وراء منضدة أصبحت مرافقة للصورة التي يتذكره بها من يحاول تذكره، واضعاً يديه في جيبيه، ولا يخرج أحدهما إلا لكي يبلل إصبعه ليقلب الصفحة.

منذ أكثر من خمسين عاماً، وهو يسجل المركز الأول في التبكير في فتح محله التجاري قبل الآخرين، فهو يصلي الفجر، ويلوذ قليلاً في بيته ليتناول لقمة سريعة مع كوبٍ من (شاي) ويعيد تسخين القهوة (السادة) ليضعها في سخانٍ يحمله معه للمحل.

كان (يوظب) هيئة فتحه للمحل، فقد ثبت مجموعة من المسامير بمحاذاة طرفي باب المحل، فيعلق عليها بعض الملابس التي لا تلفت الانتباه مثل مجموعة من (عُقل الرأس) و (أُبطيات) من فرو الغنم، وبعض أغطية الرأس. كان الناس ينظرون الى تلك النماذج المعلقة كجزء من معالم المحل، أو بالأحرى من معالم السوق.

قليلون الذين كانوا يعرفون سر تبكيره في فتح محله، فمنهم من كان يُرجعها الى نومه المبكر، فبالتالي ستكون صحوته مبكرة، ومنهم من قال أنه لا يُطيق وجوده بالبيت بسبب زوجته، ومنهم من قال غير ذلك.

ولم يتساءل أي من كان يصادفه وهو يقرأ بجريدته على مهل وبتلك المواظبة الحثيثة التي لم يتخل عنها ولو ليوم واحد، فهو ليس بسياسي نشط، ولا هو من الكتاب المعروفين، فلم يحاول بحياته كلها كتابة سطر يثبت ثقافته، ولم يسمعه أحدٌ أنه يوظف ما قرأه في حديثه مع الآخرين.

... (طائرات إسرائيلية تشن غارات على قطاع غزة) .. (غرق عبارة إندونيسية تقل أكثر من 200شخص) .. (مبارك: مصر لن تتهاون مع من يسئ لكرامة أبنائها) .. ( مواطن يقتل وافداً في الكرك) .. (تدني أسعار الباذنجان يجبر المزارعين في الأغوار على إلقائه للمواشي) يقلب الصفحة

يقلب صفحاته حتى يصل الى صفحة الوفيات.. يُخرج يديه من جيبيه، ويُعدل جلسته، ويطوي الجريدة، ويتناول المقص وينزل ثوباً من قماش أبيض، ويعده كما هي العادة، فهو يعرف الميت، ويعرف طوله ووزنه وكم يحتاج من قماش.

ـ صباح الخير أبو ثابت..
ـ صباح الخير، ما لي أرى عينيك دامعتين؟
ـ الوالد توفى رحمة الله عليه..
ـ البقية في حياتكم... لم يسأله عن سبب الوفاة، ولم يسأله عن سبب دخوله للمحل فهو يعرف السبب أو يخمنه، ويعرف مدى ارتباك أهل الميت، فناوله (الزهبة: وهي الكفن الذي قصه للميت منذ وقعت عيناه على الخبر) بعد كلام اعتيادي يُقال في مثل تلك الحالات..

كان هذا هو المهم والباقي كلام جرائد