دراسة عن اليورانيوم المنضب وتاثيراته على الانسان والبيئة في العراق

تنويه / نشر الدراسة موقع مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية تحت عنوان ( عقاب دائم ) وجدير بالذكر ان اللواء عبدالوهاب محمد الجبوري ( المشار اليه في الدراسة كان قد نشر مع مجموعة من الباحثين والمتخصصين العراقيين )عدة دراسات عن نفس الموضوع للفترة بين 1994 ولغاية 2003 بالاضافة الى حصوله مع هؤلاء الباحثين والمتخصصين على وثائق امريكية وغربية مهمة تم الحصول عليها من الوفود الغربية والصحفية التي كانت تزور العراق في تلك الفترة للكشف عن اسلحة اليورانيوم المستخدمة ضد المدنيين والعسكريين العراقيين والتي اكدت تاثيراتها الخطيرة على الصحة العامة والبيئة والمياه في العراق وللاطلاع ميدانيا على المواقع التي تعرضت الى الضرب بهذه الاسلحة في جنوب العراق في حرب العام 1991 ، وقد تم ترجمة ونشر تلك الوثائق في حينه وتوزيعها على الصحفيين والمتابعين لتوسيع مجالات المعرفة والاطلاع على اخطر حرب نووية استخدمتها الولايات المتحدة ضد العراق بعد قنبلتي هيروشيما وناغازاكي ضد اليابان .. لذلك اقتضى هذا التنويه .. مع الشكر لمركز الفرات على هذه الجهود ..


******
"يرغب المؤتمر في أن يؤكد أمام جميع الشعوب، انه لما كانت الأهداف الإنسانية هي رائده الوحيد في عمله فان احـب ما يتمناه، أن لاتضطر الحكومات في المستقبل إلـى تطبيق اتفاقيات [جنيف] لحمايـة ضحايا الحرب وان آخـر رغباته هو أن تتوصل الدول دائما كبيرها وصغيرها الـى فض خلافاتها بتسويات ودية بالتعاون والتفاهم بين الشعوب حتى يسود السلام على الأرض إلى الأبد" القرار الرقم(8) من مقررات مؤتمر جنيف الدبلوماسي لسنة 1949([129] )

ان يقتل الجندي في ميدان المعركة، فذاك شأنه، وهو أمر طبيعي جدا، شريطة ان يكون ذاك القتل بطريقة اعتيادية لا تنجم عن استهداف تعذيبه والاستمتاع بمعاناته، ولا ان يكون قتله مما لا ضرورة له. ومن هذا المنطق الإنساني، فقد عُدَّ استعمال أي من الخصمين المتحاربين لأسلحة غير اعتيادية لقتل الجنود من قوات الخصم كالنابالم أو رصاص دمدم، أو أي من أسلحة الدمار الشامل (الكيمياوي والاحيائي والنووي) عملا محرما يترتب عليه سوق مرتكبه إلى المحاكم المختصة لمحاكمته كمجرم حرب. ناهيك عن إساءة استخدام البيئة لأغراض حربية، وتلك جريمة اخرى بحق الانسانية.

وتخفيفا عن وقع الحقائق الكارثوية التي خطط لتحقيقها مسؤولو الإدارة الأمريكية، فقد غذّوا الأعلام المسخّر بجملة افتراءات منها فرية(الحرب النظيفة). ويفسر (المتحضرون) هذه التسمية بأنها تعني كونها حربا (لا يموت فيها الأبرياء). ولا أظن إن حربا (خارج نطاق الحربين العالميتين) مات فيها أبرياء بصورة انتقامية بشعة (ومازالوا يموتون بتأثير الاستخدام السادي للأسلحة الممنوعة) بالقدر الذي مات في هذه (الحرب النظيفة) فالعالم لم يكن يفهم ما انطوت عليه بعض التصريحات التي أطلقها المسؤولون الأمريكان.وعموما فلم يكن ثمة من يرغب في إجراء نقاش مع من لبسهم الشر ولبسوه، فقد كان احد تلك التصريحات التي لم ينتبه إلى خطورتها احد في حينه، تصريح الجنرال (ميرال مكبيك) قائد القوة الجوية الأمريكية قبل أسابيع من بدأ العمليات ضد (العراق) عام 1991 (نحن نقترب من الحرب مع دولة من دول العالم الثالث، ولكننا نضع خططنا وكأنها ستكون الحرب العالمية الثالثة)([130]) فما أعقب ذلك؟

لقد كانت الحالة الصحية في (العراق) قبل العام1991حالة جيدة، وربما عدت في مقدمة ما هي عليه الأحوال الصحية في بلدان العالم الثالث. وان كثيرا من الأمراض غادرت البلاد ولم يعتقد إنها ستعود إليها ثانية، وتقلصت الكثير من الظواهر والإمراض التي مازالت متفشية حتى في بعض الدول المتقدمة، ولكن بصورة مفاجئة، عقب انتهاء العمليات الحربية، لاحظ الأطباء العراقيون ظهور أمراض غير معروفة من قبلهم، وحالات نادرة وخاصة لدى الأطفال لم ينجحوا في إيجاد تفسير لها وتعليل لظهورها، وتفشت اللوكيميا، بينما ارتفعت بشكل يدعو إلى الريبة نسبة التشوهات الخلقية من 8%-28%في فترة ما بعد الحرب.

وفي ظرف شحت فيه الأدوية والمستلزمات الطبية، ارتفعت بشكل ملموس نسبة أمراض الكلى والكبد وخاصة لدى الأطفال الذين مات عدد كبير منهم بهذه الأمراض([131])، وعدد اكبر بأمراض اخرى. فلقد قُدِّر عدد الأطفال الذين توفوا بسبب التلوث خلال عام 1991وحده حوالي (50) ألف طفل([132]). ويشير تقرير وزارة الصحة العراقية إلى إن عدد الوفيات للفترة (1990-1999) بلغ (1190089) حالة، منها(714، 414) طفل بعمر أقل من خمس سنوات([133]).

كان تدهور الحالة الصحية في (العراق) والذي كان من بين أهم مسبباته تفاقم حالات الأمراض الغامضة الناجمة عن استخدام اعتدة اليورانيوم المنضب مع تعمد حرمانه من الأدوية والمستلزمات الطبية الدافع الأكبر لتقديم (دينيس هوليداي) مساعد الأمين العام للأمم المتحدة والمكلف بتنسيق الشؤون الإنسانية في (العراق) استقالته، فهو يتحدث عن (الزيادة المأساوية للتشوهات الخلقية والسرطانات عند الأطفال وعند الشعب الذي يعيش في المناطق التي تضررت في الحرب) والتي نسبها (هوليداي) إلى استخدام قوات التحالف لقذائف مصنوعة من اليورانيوم المنضب في حربها ضد (العراق)([134]).

ولقد تجاوز الرقم الإجمالي ما أعلن عنه بكثير خلال شهر أيار/مايو2002، إذ أعلن (ناجي صبري) وزير خارجية (العراق) في (نيويورك) يوم30نيسان/ ابريل2002 لدى حضوره هناك لإجراء حوار مع الأمين العام للأمم المتحدة، إن المجموع العام للوفيات بلغ (1660000) حالة خلال عقد من الحصار0واذا ما رجعنا إلى تفاصيل وفيات الأطفال فسنجد إن الوفيات الناتجة عن أمراض الكلى والكبد لديهم شكلتا رابع وخامس أسباب الموت لمن هم فوق سن الخامسة([135]).

وكان لبروز حالات عديدة بشكل ملفت للنظر من سرطان الغدة الدرقية دور في اهتمام الباحثين بهذا الأمر، وكانت النتيجة إنهم توصلوا إلى أن التلوث الإشعاعي الحق ضررا بالغا بخلايا هذه الغدة عند الكثيرين مما نجم عن إصابتها بالسرطان. وفي غير حالات الغدد فان مرضا غامضا ظهر معلنا العصيان على التجاوب مع جهود الأطباء الذين حاروا به فعجزوا عن تشخيصه على وفق ما يملكون من مواصفات ومعلومات. وكانت أعراض هذا المرض تشمل تشوه الرؤية في إحدى العينين، مع نوبات صداع شديد وخدر في اليدين([136]).

لقد تصدر قائمة الباحثين المنصفين الدكتور (ميلر) وهو طبيب ألماني زار (العراق) عام 1992وقام بتشخيص إصابات بأورام خبيثة. فقد شاهد الرجل ونقل مشاهداته لحالات مرضية غريبة وغامضة في المعدة والجهاز الهضمي لدى الأطفال([137]).ويقول اللواء (عبد الوهاب محمد الجبوري)([138]) في مقال سبق وان اشرنا إليه، وهو يستعرض نتائج مشاركته مع مجموعة البحث العسكري لإيجاد علاقة بين الأمراض السرطانية والغامضة والعامل المسبب (اليورانيوم المنضب) انه (بلغ عدد الحالات التي تم فحصها 1425 حالة سرطانية للعسكريين، حيث أظهرت هذه النتائج وجود زيادة في الأمراض السرطانية عدة أضعاف عما كان عليه الواقع الصحي في العراق قبل العدوان، وهذه الأمراض هي:الغدد الليمفاوية- الدم- الرئة- الجهاز الهضمي – الخصية- العظام- البنكرياس- الغدد اللعابية – الكبد، مع ظهور حالات مرضية غريبة كالتشوهات الخلقية للأجنة بوجود أعضاء إضافية، أو ظمور بعض الأعضاء وولادات حية برأس منتفخ ومتورم مع إصابات في العين وظهور حالات من التوائم المنغولية غير الطبيعية إضافة إلى تشوهات العظام وحالات الصداع الشديد وأمراض العقم غير المفسرة لكلا الجنسين وزيادة حالات الإسقاط والولادات الميتة والمبكرة وعسر الولادة([139]).


النقطة المهمة في مجال الفحص والتشخيص والمعالجة بالنسبة للعراقيين المصابين أو المحتمل إصابتهم بأمراض ناجمة عن التلوث باليورانيوم المنضب([140])، هي إن تفاصيل الأعراض المرضية التي تسببها تلك الأمراض غير معروفة بما فيه الكفاية، ولم يكن أمر استخدام هذه الاعتدة من قبل دولة (متحضرة) كالولايات المتحدة يفترض إنها تحترم القانون الدولي وأعراف الحروب والشرف العسكري، أمرا متوقعا، ناهيك عن متطلبات فحص وتشخيص ومعالجة أمراض كهذه وحاجتها إلى أجهزة وتجهيزات ومواد خاصة جدا، مع التذكير بان الممرضة الأمريكية (العريف:كارول بيكو) التي عانت من نتائج هذا المرض، اعترفت (إن الفحص مرتفع الكلفة، ثم يتعين أن أجد مختبرا خارج امريكا…الخ)([141]) .فكيف يمكن إجراء الفحص بموارد محدودة في بلد منع عنه حتى الدواء ولا يجد فيه المريض حفنة حبوب يكافح بها الأنفلونزا؟

ولعل الاحاطة بحجم الكارثة أمر غير يسير، فان مئات الأطنان من دقائق اليورانيوم المنضب التي غطت مساحات شاسعة من صحارى الجنوب والغرب العراقي كفيلة بإشباع أجواء (العراق) بتلك الدقائق على مدى سنوات، إذ ان الرياح (الجنوبية الغربية) تهب عادة من اتجاه تلك الصحراء وهي رياح شديدة تحمل معها كميات هائلة من الأتربة والرمال وقد تصل ذرات الرمال القادمة من البادية الجنوبية إلى المدن في أقصى الشمال، وتوزع حمولتها الملوثة يمينا وشمالا، فتصل المدن التركية والإيرانية، مع الأخذ بنظر الاعتبار ان الأهداف التي ضربت باعتدة اليورانيوم المنضب ليست كلها في جبهات القتال، وإنما في العمق أيضا كما حصل مع قضاء(السلمان) وناحية (النخيب)([142])، بل حتى الاحياء السكنية في المدن الاخرى. مع ان الريح السائدة في منطقة العمليات هي الشمالية الغربية التي تنقل تلك الذرات إلى دول عديدة جنوب مسرح الحرب الملوث.

وإذا ما رغبنا بالوقوف على خطورة الدقائق الملوثة المحملة بواسطة الرياح، فان مذكرة رسمية أصدرها (مركز التسليح والبحوث والتطوير) التابع للجيش الأمريكي في8آذار/ مارس1991عقب دراسة تأثير انفجار اعتدة اليورانيوم المنضب، تسمي تلك الدقائق (هباء اوكسيد اليورانيوم المنضب)([143])، ويتألف الهباء من نسبة عالية من الجسيمات القابلة للاستنشاق (50-96%) وان قطر هذه الجسيمات اقل من (5) مايكرون ستمتزج مع سوائل الرئة (أي 0004، 0من الانج) فإنها اكبر 100مرة من معظم جسيمات غبار اليورانيوم مما يسهل حملها مع الريح ودخولها الجسم عن طريق الاستنشاق. ومن سياق تلك المذكرة الأمريكية يتبين إن الجسم لا يتخلص بسهولة من هذه الجسيمات كليا، إذ إنها تجري مجرى الدم ويطرح قسم منها مع البول والغائط ويستقر الباقي في الكليتين بشكل رئيس، وكذلك في الكبد والعظام.وقد تمر مركباته من الأم المتعرضة للتلوث إلى الجنين من خلال المشيمة والى الطفل الرضيع من خلال حليب أمه([144]). هذا في حالة ثبات الجنين في بطن أمه وانه لم يسقط، أو استطاعت ألام ان تلده بدون عسر يقتله أو يقتل ألام، إذ لوحظت زيادة كبيرة في نسبة الإجهاض وعسر الولادة وكذلك الولادات الميتة مع تسجيل نسبة عالية من حالات العقم التي لا تجد تفسيرا بين الجنسين([145]). وقد يكون الجنين، حصيلة تلقيح حيمن ذي خلايا تحمل جينات مخربة بسبب التعرض للإشعاع، فقد سجلت ولادات غريبة اشرنا إليها في موضع سابق من هذا الفصل. فاليورانيوم المنضب قادر على إطلاق طاقة تبلغ (4، 2) مليون فولت الكتروني من كل جزئ منه، وهذا مقدار هائل إذ إن (10) فولتات الكترونية فقط كافية لكسر جزيئة DNA الوراثية والجزيئات الحيوية الأخرى في الجسم([146]).

ولعل هذا الأمر وما ينطوي عليه من خطورة بالغة كان الدافع الاساس لعدد من المحافل العلمية لإخضاعه للدراسة المستفيضة والبحث الموسع، ولعل جهود(المؤتمر الدولي الرابع للجمعية الأفريقية للطفرات الوراثية)الذي عقدته الجمعية بالتعاون والتنسيق مع (مركز بحوث الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية التابع لجامعة عين شمس)الذي خرج بان(التأثير الوراثي الناتج عن تلوث البيئة والتعرض للمواد الكيمياوية والبيولوجية والمشعة لا ينحصر في الأجيال الحالية، محدثا التشوهات والسرطان والعقم ، وغير ذلك ، بل يمتد إلى الأجيال المقبلة بما يترتب عليه من أمراض وراثية وخيمة ، وتشوهات خلقية، وتخلف عقلي)([147])، ليست الأخيرة في هذا المجال.

ولما كان نمو الأطفال ناشئا عن النمو الطبيعي لعظامهم، فان قدرة جسيمات اليورانيوم المنضب على اقتحام العظام والاستقرار داخلها قوية، وبفعل الفعالية الكيمياوية لهذا العنصر، فانه يستطيع إزاحة الكالسيوم من العظام والحلول محله. وسيكون ذلك سببا لإعاقة النمو الطبيعي للطفل بسبب الخلل الحاصل في عظامه.

لقد كان من المخاطر الجانبية عند حصول انفجار نووي، نشوء الغيمة النووية المرتفعة التي تسير باتجاه الريح حاملة كميات هائلة من الأتربة والعوالق الأخرى الملوثة، مما يعرف باسم (الغبار الذري). وتتساقط تلك الحمولة الخطيرة على خط مسار الغيمة المشؤومة التي قد تسافر لعدة آلاف من الكيلومترات قبل أن تضمحل وتتلاشى.

وقد سخر (برتراند راسل)([148]) من اسم سفينة صيد يابانية اسماها مالكوها (التنيـن السعيد) فقد كانت تلك السفينة في رحلة صيد في (المحيط الهادي) عندما ظللتها غيمة (هيروشيما) فغمرتها بالمتساقطات النووية وما لبث أفراد طاقمها ان مرضوا جراء ذلك وماتوا جميعا، وهو الأمر الذي جعل الفيلسوف (راسل) يتوصل إلى خطل اسم السفينة، فذاك التنين لم يكن سعيدا بحق. لقد كان موقع السفينة (التنين السعيد) ساعة أمطرتها الغيمة القاتلة بالموت (خارج ما اعتبرته السلطات الأمريكية منطقة خطر)([149]).

فإذا ما تصورنا ان كل مدينة عراقية (وربما مدن الدول المجاورة) تحولت إلى (تنين سعيد)، فان جو (العراق) المشبع بالغبار والعواصف الرملية، سيجلب له وباستمرار كميات هائلة من الغبار الملوث، فبم سنخرج؟.

ان ثمة اختلافا واحدا بين الحالتين (سكان المدن العراقية وطاقم السفينة اليابانية)هو ان الغبار الذي يلف المدن العراقية اقل نشاطا إشعاعيا ومع ذلك فان التلوث الواسع حاصل في عموم تلك المدن، وان ما يمكن ان نورده هنا كدليل لابراز حجم الخطورة هو تلوث سلسلة الغذاء ومصادر مياه الاستخدام البشري والحيواني الذي من شأنه ان ينقل كميات مضاعفة ومركّزة من السموم إلى أجسام المواطنين، إذ يتحد ايونه مع ايون البيكاربونات الذي في الجسم، فترتفع بذلك نسبة يوريا الدم من خلال التأثير المباشر على الكليتين([150])اللتين سيستقر فيهما، إضافة إلى أماكن أخرى كالعظام التي سيترسب فيها 20%من مجموع كميته و10%في الكبد. ونظرا لخاصّية الامتصاص التي يتمتع بها جلد الانسان فانه قادر على امتصاص ما يتساقط عليه من ذرات عندما (تترسب فوقه وتكون على شكل نترات اليورانيوم المنضب)([151]).

وإذا ماكان الغبار الذري الذي انطلق جراء تفجيري (هيروشيما وناﮔﺍزاكي) قد انتشر مرة واحدة، فانه في حالة (العراق) يختلف عن ذلك تماما، فهو هنا مستمر باستمرار الرياح الجنوبية والعواصف الرملية التي تهب من منطقة (تلوثت بتراكيز عالية جدا عقب انفجار مئات الآلاف من قذائف اليورانيوم الذي ينحل إلى توريوم 234 وراديوم 226 حيث يعتبر الراديوم من اخطر الملوثات المشعة)([152])، هذا كله مضاف إلى ما أوردنا في الفصل السابق من رأي للدكتور (بهاء الدين حسين معروف) المتخصص بقضايا الطاقة الذرية، بخصوص اتجاهات الرياح السائدة على مدار السنة وتأثيرها على عموم مناطق (العراق) وجيرانه في عموم الاتجاهات التي تهب نحوها الرياح المحملة بالغبار الملوث.

ان ذلك الأذى الشديد الذي تعرض له السكان في عموم (العراق) بات من الأمور التي حاول القيمون على العدالة الدولية منعه، فقد اعتبرت تلك الأسلحة محرمة دوليا لتسببها في الأذى والهلاك لحياة المدنيين والبيئة الحية لآلاف السنين)([153]).

ويبقى شبح خطير ماثلا في الأفق مع احتمالات (ان يكون ظهور بعض الأمراض الناجمة عن التلوث باليورانيوم المنضب مؤجل حتى العام 2025)([154]). فلقد قدر (مكتب السكان الأمريكي) في تقرير له عام 1992 ان عمر الانسان العراقي قد هبط ما مقداره (20) سنة للرجال و(11) سنة للنساء، وان المسؤول عن هذا الهبوط في معدل الأعمار هو التلوث الإشعاعي([155])الذي تعرض له (العراق)([156])0

وان الأطفال الذين ولدوا عقب إيقاف العمليات يشبهون الناجين من انفجار (هيروشيما)، فهم يتصفون بالخمول ويفتقرون إلى الإحساس([157]).

يفيد هنا التذكير بان النساء الحوامل في المناطق التي طالها تلوث حادث مفاعل (تشرنوبيل)عام 1986نصحن (سرا) بان يجهضن حتى ولو كان قد مضى على الحمل ستة اشهر. ولك ان تتصور حجم مأساة العراقيين، فالحمل والولادة تجري في ظروف متخمة بالتلوث وبنسب عالية جداً.

وقد كشفت جهود (مركز العمل الدولي في نيويورك) عن حقائق مثيرة في هذا المجال منها ما قرره المركز المذكور من ان (120) ألف حالة مرضية مسجلة في (امريكا) تتراوح بين أنواع السرطانات وفقدان الذاكرة والآلام اليومية والإعياء والتشوهات الخلقية لدى الأطفال، كل ذلك سببه استخدام (أمريكا) لاعتدة اليورانيوم المنضب([158]). لقد أصبحت حياة الكثير من الجنود الأمريكان المصابين بأمراض اليورانيوم المنضب تثير الشفقة لدى الرحماء، وربما يضحك من امرهم البعض، فهذه سيدة امريكية تشكو من ان زوجها لا يستطيع العودة إلى البيت لأنه لا يتذكر الطريق اليه وانها فوجئت به يعبث بمحتويات حقيبتها، وعندما سألته عن مطلبه اجاب (كنت نسيت اسمك وأود مراجعة إجازة السياقة لأتذكره)([159]).

ولان شرائح واسعة من العراقيين حصل لهم نفس التأثير الذي تعرض لها لجنود الأمريكان (سنطلع عليه لاحقا ضمن هذا الفصل ان شاء الله تعالى)، فان اطفال هؤلاء اصيبوا بامراض وتشوهات ولادية كالتي ظهرت في (امريكا)كما لاحظ ذلك (مارتن ميسيونير) الذي زار (العراق) ودرس عن كثب ما حظي به استخدام (امريكا) لعتاد اليورانيوم المنضب هنا وفي (البلقان) بقوله (اذا كان ذلك بالعدد القليل من قذائف اليورانيوم المنضب المستخدم في الحرب اليوغسلافية قد احدث كل تلك الاصابات فكيف بالعدد الضخم من هذا العتاد الذي استخدم في الحرب ضد العراق؟).

فالضرر الذي اصاب البيئة والمجتمع في (العراق) لم يكن محصورا بمجتمعه فقط، وانما طال ضحايا اجانب ممن جازفوا بالقدوم اليه لاسباب اعلامية او بحثية تتطلب السياحة في مناطق مختلفة من ربوعه، اضافة إلى دول الجوار التي تطرقنا اليها، ولعل الصحفي البلجيكي (ميشيل كولون) ليس سوى واحد من هؤلاء فهو وعلى الرغم من كونه ليس جنديا في قوات الحلفاء أو مواطنا عراقيا ممن حكمت عليهم (الإدارة الأمريكية) بالتسمم باليورانيوم المنضب، إلا انه وبسبب التلوث الذي يضرب اطنابه في عموم (العراق) لحق به ضرر خطير عندما جاء لينقل بعض الوقائع عن حالة الشعب التي سببها الحصار، وقام بوصف حالته تلك ونقل انطباعاته الشخصية إلى وسائل الإعلام التي يراسلها ، فبسبب الضرر الذي لحقه صارت قضية (العراق) قضيته الشخصية.

فعقب شعورهذا الرجل باختلالات صحية هددت حياته واقعدته عن العمل، راجع المؤسسات الصحية المعنية التي عزت تلك الاختلالات إلى إصابته بسرطان الكلية. وعقب إنجاز التحليلات المختبرية التي طلب الاطباء المعنيون أجراءها له تبين ان سبب السرطان الذي يعشش وينمو في كليته انما هو ناجم عن تجرعه لثلاثة نظائر مستخلصة من اليورانيوم مستقرة في جسده، وبعد ان استفحلت حالته الصحية واعيت الفريق الطبي المعالج ، تبين ان من اللازم اجراء عملية جراحية له تهدف إلى استئصال الورم الخبيث من كليته, وفعلا اجريت العملية الجراحية التي لم يجد الاطباء اثناء اجرائها بدا من استئصال الكلية بكاملها، وبذا ضحى بكليته برمتها من اجل وقف نمو الورم الخبيث([160]).

ولم تسلم الصحفية (ماري كلودوبين) من الاضرار الناجمة عن استخدام اسلحة اليورانيوم المنضب، عقب زيارتها لبعض المواقع المستهدفة بهذا العتاد خلال عمليات 1991.لقد خلق لها التسمم بغباره المنتشر في الاماكن التي زارتها متاعب ومشاكل خطيرة، منها اضطرابات معوية وعصبية وتقلصات عضلية، وهي عموما لا تختلف عن حالة الجنود من قوات الحلفاء الذين ظهرت عليهم اعراض المرض من حيث المعاناة ما دعاها إلى توجيه اشد الاتهامات للادارة الامريكية (بالكذب بشأن الاخطار الصحية التي يسببها استخدام اليورانيوم المنضب) مشيرةالى الاعراض التي ظهرت عليها وعلى الجنود المشاركين في العمليات، وقد ساهمت وكالة الانباء الالمانية بتوسيع دائرة انتشار افكار (كلودوبين) بنشر مقالاتها وتقاريرها([161]).

أما الجنود الأوروبيون من ضحايا اليورانيوم المنضب الذين عانوا من إصابات بأمراض مختلفة جراء تعرضهم لأضراره خلال مشاركتهم بالحرب ضد (العراق) فان منهم من اخذ يشعر بعقدة الذنب لتورطه في تسبب مأساة لشعب بأكمله. فنشط بعضهم للنضال في هذا المجال. فبعد (العريف كارلو بيكو) الأمريكية ، أسس العسكري الفرنسي السابق (اورفيه دوسبلا) جمعية للدفاع عن الجنود المصابين، وأعلن عن رغبته في زيارة (العراق) بهدف تقديم اعتذار شخصي لشعبه، وانه سيطلب الصفح ويعلن عن استعداده لتقديم كل ما بوسعه تقديمه لمساعدة المتضررين بإشعاعات وسموم اعتدة اليورانيوم المنضب([162]).

وكان من بين نشاطات (دوسبلا) المتطورة في هذا المضمار تأسيس فريق لاستقطاب الناشطين في مكافحة استخدام اليورانيوم المنضب، وان الصحفي البلجيكي (ميشيل كولون) الذي اشرنا إليه آنفا هو احد أعضاء هذا الفريق (نشط كولون في مهمة تبصير العالم إلى خطورة استخدام اعتدة اليورانيوم المنضب في مجالات عديدة وكان اخرها إسهاماته الملحوظة في[منظمة راصد اليورانيوم المنضب دي يو ووتش] التي تنشر تقارير مفصلة عن اليورانيوم المنضب عبر موقع خاص بها على شبكة الانترنيت وانه ألف كتابا بعنوان[احذروا العنوان] فضح فيه وسائل التضليل والتشويه في الإعلام الغربي)([163]).

عموما فان أي وصف للوضع الكارثي الذي حل بالبيئة والمجتمع في (العراق) والناجم عن الاستخدام التعسفي لاعتدة اليورانيوم المنضب المحرمة، لايمكن ان يصل الغاية الحقيقية في إظهار واقع هذا الوضع. وان الحقائق المتيسرة تقود المتتبع إلى ان الإدارة الأمريكية كانت تهدف إلى حصول هذا الوضع الكارثي، فثمة تقرير للبنتاﮔﻭن كشفت عنه منظمة(انترناشيونال اكشن سنتر)الأمريكية يسمح للقوات الأمريكية باستخدام أسلحة صنعت بتقنية نووية ودخل اليورانيوم المنضب في صناعتها، ضد (العراق)([164]) ، مع وجود شرط احترازي لاحتمالات المستقبل يقول(شريطة الابتعاد عن المدنيين)([165]).

فاذا ما كانت (الإدارة الأمريكية) تحاول ان تضع وسيلة للدفاع ضد أي اتهام مستقبلي من قبل اية جهة قضائية دولية، فهذا أمر غير مجدي، فاستخدام أسلحة فتاكة لا يجوز حتى ضد الجنود أثناء اشتباك حربي، ثم ان انفلات الضرر الناجم عن هذا الاستخدام غير قابل للسيطرة والحصر في ساحة المعركة إطلاقا، وهذه أمور يعرفها (البنتاﮔﻭن) والإدارة الأمريكية جيدا، فان التأثيرات الضارة ، بل الخطيرة لهذا العتاد مشخصة ومعروفة من قبل مؤسسات (الإدارة الأمريكية) و(البنتاﮔﻭن) ومن تلك المؤسسات والجهات مايلي([166]):

* قسم الصحة والخدمات البشرية في الوكالةالأمريكية للمواد السامة وتسجيل الأمراض.

* المدرسة الكيمياوية التابعة للجيش الامريكي.

* معهد القوات المسلحة الأمريكية لبحوث بجيولوجيا الاشعاع.

* مكتب القيادة الطبية للجيش الامريكي.

* موسوعة الصحة والسلامة المهنية الأمريكية التي وثَّقت مضار العتاد كما ان التقريرالصادر عام 1974 (تطرقنا إليه في الفصل الأول والفصل الثاني) كان قد جسد حجم المخاطر التي ينطوي عليها استخدام اعتدة اليورانيوم المنضب على الانسان والبيئة.

كل هذا الكم الضخم من المعرفة المسبقة بمخاطر هذا العتاد، والإدارة الأمريكية تعمد إلى استخدامه في الحرب من دون مبرر سوى الرغبة في خلق أجواء تدميرية بقصد إرهاب الاخرين.

لقد أرسلت الإدارة الأمريكية (كلود ايذرلي) في آب/ اوغسطس1945 لإلقاء القنبلة النووية الأولى على مدينة (هيروشيما) اليابانية من دون أن تخبره بطبيعة السلاح الذي سيلقي به هناك. وعندما شاهد نتيجة عمله، أصيب بمنتهى الرعب، وتحول إلى ناشط قوي ضد استخدام الأسلحة النووية لشعوره بعقدة الذنب، وان عليه ان يكفّر عن هذا الذنب، ولما كان (ايذرلي) يختلف عن غيره من الجنود الأمريكان، فقد قررت الإدارة الأمريكية إيقاف نشاطاته بأية وسيلة متاحة، لذا أدعت انه أصبح مجنونا، واستحصلت الشهادات الطبية التي تعترف بجنون الرجل، وهكذا صارت آراؤه غير ذات قيمة.

هنا في حالة العدوان على (العراق) الأمر يختلف، حقا إن الجنود الذين أطلقوا اعتدة اليورانيوم المنضب لم يكونوا على دراية مسبقة بتأثيره وطبيعته القتالية، ولكنهم بعد ان نفذوا عملهم صاروا وعوائلهم من بين ضحاياه وإصابتهم أضراره الفادحة، ثم عاقبتهم الإدارة التي عاقبت سلفهم (ايذرلي) من قبل وان اختلفت طريقة العقاب.

فالغاية المسلّم بها من استخدام اليورانيوم المنضب من قبل القوات الأمريكية في أي صراع تتمثل بإلحاق اكبر قدر ممكن من الأذى بالخصم انطلاقا من الروح الاستعلائية والعدوانية المفرطة التي تعمر دواخل قادة (أمريكا) وان اختلفت الإدارات بمرور الزمن.ولقد حجبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة المعلومات الخاصة بهذا العتاد عن مستخدميه من جنودها كما فعلت مع (ايذرلي) ولكن إخفاء وحجب المعلومات لم يجعلهم يشعرون فيما بعد بالإثم لأنهم الحقوا بالآخرين ضررا لا تجيزه مرجعيات القانون الدولي فحسب (حضر بعضهم إلى العراق ليعلن عن أسفه)، ولكنهم وهذا هو الأهم، صاروا كما بينا من ضحاياه، سواء مالحق بهم من ضرر بدني، أو ما ظهر على مواليدهم الجدد، وهو ماسيكون مادتنا التي قررناها لما تبقى من حيز خصص لهذا الفصل.

لقد حصل قبل انتهاء الأعمال الحربية ضد (العراق) ما اثبت سعة حجم الخطر الذي ينطوي عليه هذا العتاد.فقد احترقت عجلتان محملتان بهذا العتاد اصطدمتا شمال (السعودية) فانفجرت حمولتهما وانتشرت الجزيئات السامة ضمن حيّز واسع لتلحق ضرارا كبيراً بجنود طرفي القتال، وفي الحقيقة فان إطلاق القوات الأمريكية قرابة مليون قذيفة من هذا العتاد، تسبب في تسرب إشعاعات وغبار وأبخرة ضارة بمقادير كبيرة جدا إلى اجواف الجنود الأمريكان، وعندما حصل حريق في معسكر (الدوحة) شمال مدينة (الكويت) 12كم، يوم 11تموز/ يوليو1991واستمر حتى اليوم التالي، فقد تعرض الكثير من هؤلاء الجنود للخطر الكبير، مع إن بيئة (الكويت ذاتها كانت ضمن مدى انتشار دقائق الغبار السام الناجم عن تأكسد اليورانيوم المنضب.

كان في ذلك المعسكر الذي تطلق عليه القوات الأمريكية اسم (قاعدة الحصان الأسود) عناصر اللواء المدرع/11 الأمريكي وتعدادهم ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي، إضافة إلى سرية من الجنود الاﻨﮕﻠﻴﺯ وعناصر عسكرية ومدنية من دول اخرى، كما بينا في موضع سابق.

وسواء كانت الإصابات التي برزت بين أعداد غفيرة من الجنود الأمريكان (تقلل الإدارة الأمريكية عددهم إلى بضع عشرات كما مر بنا لأسباب معروفة) ناجمة عن حوادث اصطدام و إصابة بنيران صديقة (كما تدعى) فقد لجأ بعضهم إلى (الكوﻨﮕﺭس) للشكوى ضد إدارة بلادهم، ولقد كلف (الكوﻨﮕﺭس) إحدى مؤسساته (مكتب المحاسبة العامGAO) ليتحرى الموضوع باعتداده أعلى جهاز تدقيق ورقابة في (الولايات المتحدة) غير خاضع للسلطة التنفيذية فيها.

وما أن أنهى المكتب تحرياته حتى قرر إن (البنتاﮔﻭن) مسؤول عن عدم اتخاذ الإجراءات المناسبة لحماية القطعات المساهمة في الحرب على (العراق) إلا إن أي إجراء عقابي لم يتخذ، كما لم تصدر أية توصية بإجراء كهذا، فما جدوى تحريات (مكتب المحاسبة العام ) إذن، وما جدوى لجوء المواطنين الأمريكيين المتضررين من أفعال السلطة التنفيذية إلى أعلى سلطة دستورية في بلادهم؟.

ولتوضيح نقطة مهمة استهدفناها تخدم منهج البحث وغايته المتوخاة، وهي إن تركيزنا على حادث حريق قاعدة (الحصان الأسود) كونه وقع عقب وقف إطلاق النار بأربعة اشهر ونصف (توقف إطلاق النار يوم 28 شباط/ فبراير، والحريق حصل يوم 11تموز/يوليو)، فعلى الرغم من مرور كل تلك الفترة، وان المباغتة المتوخاة من استخدام اعتدة اليورانيوم المنضب قد تحققت، ولم يعد التكتم ضروريا (مع قناعتنا بخطل الرأي الرابط بينهما) إلا إن تبصير الجنود الأمريكان بنتائج التعرض لليورانيوم المنضب لم يتم حتى ذلك التاريخ وربما استمر حتى الان، وما حصول إصابات عديدة في معارك (البلقان) إلا دليل أكيد على ذلك.

ثمة حقيقة منطقية نحصل عليها استنتاجا وهي ان مسؤولي (البنتاﮔﻭن) كانوا يراهنون طيلة تلك الاشهر على ان الاضرار التي تكبدها جنودهم خلال المعارك في جنوب (العراق) حتى لو ظهرت باجل قصير، فسوف لن يتوصل احد إلى معرفة او تخمين ان العتاد الذي كانوا يطلقونه ويتداولونه عبر عشرات الالاف من الكيلومترات، وكذلك الدروع التي كانوا يحتمون بها ويحافظون على حياتهم بفضل صلابتها، هي سبب (الموت المؤجل والبطئ) الذي يعانون منه. بيد ان خبايا المشكلة كانت قد بدأت تتلامع حتى قبل مغادرة القسم الاكبر من القوات الامريكية المشاركة في العمليات مسرح الحرب وعودتها إلى قواعدها الدائمة في (الولايات المتحدة الأمريكية). فالممرضة الأمريكية (العريف:كارول بيكو) التي سلف ذكرها في موضع سابق من هذا الكتاب تقول (بدأت أشاهد ظهور بقع سوداء على أنحاء جسدي منذ كنت في العراق، ورفعت تقريرا بذلك حيث بدأت صحتي بالتدهور، وسرعان ما شعرت بالمرض، إذ فقدت التحكم بامعائي والحجاب الحاجز، وبعد أن انسحبنا من العراق استعدادا للعودة إلى أمريكا كنت في غاية المرض)([167]).

العجيب في قضية (العريف: بيكو) إنها بدلا من حصولها على مساعدة القيادات العسكرية المختصة، فإنها أخذت تتلقى من مراجعها العسكرية تهديدات سافرة تتضمن طردها من الخدمة إن استمرت في إثارة الأسئلة (للمزيد راجع بحثها الموسوم:العيش مع أعراض مرض حرب الخليج، المنشور ضمن بحوث خبراء مركز العمل الدولي في نيويورك بكتاب: اليورانيوم المنضب- معدن العار ص ص54-62). وهكذا فقد كوفئت على خدماتها الحثيثة في الحرب التي شنتها بلادها على (العراق) بطردها من الخدمة العسكرية وتحولت إلى ناشطة في الحملة المناوئة ضد أسلحة اليورانيوم المنضب. لاحظت تلك السيدة إن (40) من زملائها (من اصل 150 قاموا بفتح وإدارة مستشفى ميدان في جنوب العراق خلال معارك شتاء1991) أصيبوا بأمراض مختلفة، مات ستة منهم حتى كتابتها تقريرها الذي نشر ضمن الكتاب المشار اليه.

ولان الحالة الصحية لهذه الممرضة التي عانت طويلا من المرض وتحامل القيادات العسكرية عليها تستحق التوقف لغرض التمعن والتدبر، فلننظر ماذا حل بها، فيما بعد.لقد كانت معاناتها التي وصفتها مفصلا في بحثها آنفا، إضافة إلى الأعراض التي عرجنا عليها هي:

1-دوران وغثيان وفقدان ذاكرة طويل وقصير الامد.

2-مرض في الدماغ (شخص فيما بعد بصفته خللا مزمنا).

3-خلل في الغدة الدرقية.

4-التهاب الرحم السرطاني.

5-تلف العضلات.

6-ضرر كبير في الأمعاء والطحال.

7-نضح لا إرادي للبول من المثانة قد يستمر مدى الحياة.

8-جهاز المناعة غير طبيعي.

واذا كانت (العريف: كارلو بيكو) قد وقفت جراء ما اصابها من اذى خطير على حقيقة مواقف ادارة بلادها من الجنود الذين تستخدمهم لخدمة اغراضها والذين يضحون بحياتهم في سبيل تلك الاغراض عندما يتطلب الامر ذلك، فتحولت للنضال ضد تلك المواقف والتوجهات فان مزيدا من التبصير سيحصل لجنود آخرين كثر، مما يجعل هذه الشرائح التي تفقد حياتها بدون سبب وجيه، تفكر الف مرة وتعيد حساباتها ثانية بعد ذلك قبل ان تقبل بالمشاركة في أي حرب عدوانية مستقبلا.

فالسيدة (بيكو) اتيح لها الوقوف على ما اصابها بوقت مبكر كون الاعراض داهمتها مبكرا وانها عنصر متخصص في الطبابة العسكرية، ولكن المشكلة اكثر تعقيدا لدى الاخرين، حيث ان الاعراض التي لديهم نائمة، ولاتظهر عليهم الا عقب مرور سنين عديدة، إنها في فترة كمون المرض داخل اجساد الضحايا، وقد تظهر بعد جيل من الزمن عند البعض منهم، مما يجعلهم ضحايا القلق والهواجس من احتمالات كون المرض يفتك بهم سرا وحتى إشعار آخر، لا يعلم احد غير الله مداه.

عموما فان تأثيرات التلوث باليورانيوم المنضب لدى مستخدميه من الجنود، سواء حصلت بواسطة الإشعاع أو امتصاص دقائقه عن طريق الجلد او ابتلاعها عن طريق الجهاز الهضمي أو استنشاقها بالتنفس، ستسبب مشاكل صحية مؤكدة، وإنهم الشريحة الأكثر تضررا من سواهم من هؤلاء بسبب كثرة تعرضهم واحتمال دخوله أجسامهم بأكثر من طريق وبوسائل متعددة (إشعاع، غبار) مع إن ذلك لا يقلل من المخاطر التي يتعرض لها المدنيون سواء الذين تتأين أجواؤهم أو الذين يستنشقون أو يبتلعون ذرات الغبار الملوث، ولان البحوث المختبرية استخلصت ثروة من المعلومات عن طريق الفحوصات التي نفذت على الجنود المصابين، فإننا سنركز هنا على هذا الجانب مع ما وفق الأطباء بالتوصل إليه من تأثيرات ونهتم بالتركيز على حالة أطفال (العراق).

لقد صار شائعا العلم بان اعتدة اليورانيوم المنضب عندما تصطدم بالهدف، فان جزءا كبيرا من طاقتها يتحول إلى حرارة شديدة، ولان اليورانيوم المنضب يلتهب بسرعة فسوف يتأكسد فورا ويحترق بشكل غير معهود.

إن هذه العملية سريعة جدا وتسبب تطاير جزيئات اليورانيوم المنضب المتأكسدة التي ستنتشر لمسافة تزيد على (50) مترا حول الهدف المصاب، وستحمل الريح الجزيئات حيثما اتجهت كما علمنا سابقا، وان تناهي صغرها يسهل رحيلها مع الهواء وكذلك التصاقها بالجلد وامتصاصه لها أو دخولها الجسم عن طريق الفم والأنف لتجد طريقها نحو الرئة أو المعدة كمرحلة اولى.ولما كانت هذه الجزيئات شديدة السمية، فإنها ستعمل على تسميم أنسجة وأجهزة الجسم، ولكن بصورة بطيئة مع تهديدها بحدوث خلل في خلايا العديد من الأنسجة تسبب سرطانات متنوعة حسب طبيعة واستعداد النسيج المعني على التأثر.

وعندما تدخل تلك الجزيئات الجسم عن طريق التنفس، فإنها ستجد في الرئة وسطا ملائما ، حيث لا مجال لمغادرتها المكان فتمكث هناك سنين طوال تسرّطن خلالها الرئة، وتظهر فيما بعد أثار فعلها التدميري الخبيث، اذ إن حلولها الدائمي في الرئة سيعمل على بعث طاقة مستمرة جراء استمرار قدرتها على الإشعاع هناك مما يؤدي إلى تكوين بقعة ساخنة مشعة دائمية داخل الرئة([168]).

إن هذا التخريب النسيجي والخلوي يعود إلى أشعة (ألفا) التي تجلب مخاطر فائقة على الجسم لتسببها في تأين جزيئات الخلايا المحيطة بها مما يحدث تلفا بليغا لتلك الخلايا([169]).

اما في حالة ابتلاعها، فاتها ستتجول في أنحاء الجسم بحريّة تامة مع سريان الدورة الدموية، وبذا فان قسما كبيرا منها سيستقر في الكلية التي هي أكثر أعضاء الجسم تحسسا لسميتها. ومع إن أي كمية من اليورانيوم المنضب تستقر في الكلية ستسبب سرطانا هناك، إلا إن الأمر سريع الحدوث هو العجز الكلوي.

وقد تظهر أعراض سريعة لأمراض غير مألوفة في الجهاز التنفسي أو الكبد، والكلى، مع ضعف في الذاكرة، وإرهاق غير معروف السبب وصداع لاتعرف دواعيه، وحمى يتعذر تشخيص أسبابها، وانخفاض في ضغط الدم. ويؤكد(دوماسيو لوبيز) ان احفاد الاساتذة العاملين في مركز اختبارات اليورانيوم المنضب اصيبوا باستسقاء([170])في الرأس([171]).

ثمة تأكيدات تفيد إن تأثيرات الإشعاع قد تفوق ما يسببه التسمم الكيماوي من مخاطر حيث إن إشعاعا مكثفا على هيئة جسيمات (بيتا) وأشعة (ﮔﺍما) يمكن تحسس وجودها بعد ستة اشهر من اختراقها الجسم. ان هذه الإشعاعات لا تتولد من اليورانيوم المنضب مباشرة ولكنها نتاج تحلل نظير اليورانيوم238الذي يدخل في تركيب اليورانيوم المنضب وان ملغراما واحدا من اليورانيوم المنضب قادر على توليد وإنتاج مليار جسيمة (ﮔﺍما وألفا)([172]).

وبهدف الوقوف على ما يخلّفه اختراق أشعة (ﮔﺍما) لبشرة الإنسان نقول:إن هذا النوع من الأشعة يدمر مالا يقل عن (500) خلية حية، وهي تشترك مع أشعتي (ألفا وبيتا) في تهديد الجسم البشري بالإصابة بالأمراض السرطانية إذا ما تعرض لها، إذ إنها ستسبب تلفا لبعض أنسجة الجسم، وستعمل على تدمير الكروموسومات مما يخلّف خللا وراثيا سرعان ما تظهر عواقبه المدمرة على المواليد الجدد.

وكشهادة ذات قيمة علمية، نقتبس بعضا من تقرير الدكتور(روزالي بيرثل) رئيس (المعهد الدولي لصحة المجتمع) الموجود في مدينة (تورنتو) الكندية يقول فيه (إن الإشعاع المنبعث من مصدر كاليورانيوم المنضب يؤثر على نشوء كريات الدم في العظام فيحدث فقر دم جرّاء نقص الحديد وخلل في نظام المناعة الخلوي في الوسط المعرض للإشعاع) وقد اشرنا بشكل عابر لهذا الأمر في الفصل الاول.

لقد جاءت الشهادة الميدانية العلمية المبكرة من قبل فريق علمي بحثي كندي برئاسة (هاري شارما) الذي فحص عينات من إدرار المحاربين القدماء العائدين من مسرح الحرب بعد توقف العمليات الحربية ضد (العراق) وكذلك عينات من إدرار المدنيين العراقيين في (البصرة) وفوجئ بوجود المواد الخطرة في العينات أزيد ألف مرة عن الحدود الطبيعية([173]).

وتأيدت تلك النتائج بقيام فريق اﻨﮕﻴﺯي مماثل عماده أساتذة جامعة (لندن) الذين قاموا بقياس كمية الإشعاع التي تعرض لها المصابون، وبذا تم التوصل إلى قياس نسبة السرطانات المتوقع حصولها بين المدنيين والمشاركين في الحرب([174]).

إن السيدة (كارول بيكو) التي تكرر ذكرها في أكثر من موضع من هذا الكتاب، كانت من الضحايا المتميزين لهذا العتاد، وتحولت من مجرد (مضمدة تحمل رتبة عريف في صنف الطبابة العسكرية في الجيش الأمريكي تمتلئ حماسة لعملها العسكري الميداني) إلى مصدر شديد الإزعاج للسلطات العسكرية الأمريكية، ولم يكن طردها من الخدمة العسكرية وسيلة كافية لإسكات صوتها، وإنما أخذت تلقي المحاضرات وتعد البحوث حول هذه الكارثة، ونجحت في استقطاب عدد من الأنصار خصوصا من ضحايا اليورانيوم المنضب، وساهمت في إحداث هزة عنيفة أدت إلى يقظة زملائها الجنود الذين تسمموا بذات السموم، وهي تقول: (إني معكم للنضال معا من اجل أبنائكم وآبائكم وأمهاتكم، وكذلك من اجل شعب العراق الذي يعاني من الملوثات التي تعبث في رمال بلادهم وآمل أن تتعاونوا معنا في هذه الحملة).

كانت جهود تلك السيدة الضحية قد استقطبت أنظار (مكتب التحقيقات الفدرالي FBI)الذي شرع بتنفيذ حملة إرهاب وابتزاز ضدها، أسوة بالضحايا الآخرين من ذوي النشاطات المؤثرة، وكانت النتيجة مزيدا من المضايقات، فأحرقت سيارتها ضمن مسلسل من المضايقات كما رأينا في موضع سابق، ولكنها ازدادت صلابة وأصرت على الحضور إلى (العراق) حيث ساهمت في الندوة العلمية ضد جريمة استخدام اعتدة اليورانيوم المنضب المنعقدة في (بغداد) من 2-3كانون الأول/ ديسمبر1998([175]).

وبانطلاق الحملة التي بدأت منذ العام 1991ضد استخدام اعتدة اليورانيوم المنضب في الحرب، فقد احتج الجنود الأمريكان المتضررون بتأثيرات تلك الاعتدة موجهين أصابع الاتهام بالتقصير نحو قياداتهم العسكرية بسبب (عدم إخبارهم مطلقا حول استخدام قذائف اليورانيوم المنضب، أو حتى وجود تلوث ناجم عن ذلك الاستخدام)([176]) وكانت احتجاجاتهم تتزايد يوما عن يوم.

لقد ساعد على تصعيد الحملة تجديد منظمةSwords to Plowshares التي أسست عام 1974 نشاطاتها الاحتجاجية التي كانت تنافح عن الجنود الأمريكان العائدين من (فيتنام)، وأخذت تنادي بحقوق الجنود المتضررين باليورانيوم المنضب، لقد ساهم ذلك وغيره في خلق وعي جماهيري أمريكي ضد هذه الاعتدة إضافة إلى المطالبة بإيجاد طرق مشروعة للمطالبة بحقوق الضحايا، الأمر الذي تسبب في ما لايقل عن بروز(80) جمعية ومنظمة([177]) مسجّلة ومعترف بها تهدف إلى المطالبة بحقوق الضحايا ومحاسبة المسؤولين عن معاناتهم ومآسيهم.

ولما لم يعد ممكنا تجاهل المطاليب الملحة لعشرات الآلاف من الناشطين من جنود الحملة الأمريكية ضد (العراق) وخاصة متضرري استخدام اليورانيوم المنضب، فقد اضطر(البنتاﮔﻭن) للاعتراف (إن بضعة عشرات من الأفراد فقط تعرضوا إلى اليورانيوم المنضب في حوادث إطلاق نار صديقة أو استرجاع عجلات ملوثة)([178]). أما سبب تحديد الإصابات بواسطة نيران صديقة، فهو أمر يحمل تبريره معه، فان حدوث إصابات مثل هذه أمر مسلم به، بينما الإصابات الناجمة عن ملامسة عجلات ملوثة أمر طبيعي يحصل عادة ولا مبرر للإعلان عن وجود مشكلة خطيرة، وبهذا المسار كانت الإدارة الأمريكية تدفع بالأمور للسيطرة عليها وإنهاء المطاليب الملحة على وفق تبريرات منطقية ظاهرا ولكنها تنطوي على خداع وتضليل كبيرين.

وبعيدا عن المواقف الرسمية والتضليل الواسع الذي مارسته الإدارة الأمريكية، فقد كتب مسؤولو مستشفى (والتر ريد) وهو أهم مستشفى عسكري في العالم ويقع في (واشنطن)، كتابا إلى وزارة الدفاع البريطانية، وبسبب خطورة مضمونه فقد تسربت فقرات محددة منه إلى المجلة الطبية البريطانية BMG([179]) فيما بعد، وقد لوحظ من خلال تلك الفقرات المتسربة إن الأطباء الأمريكان اعترفوا بوجود(236)عسكريا أصيب خطأ بشظايا اليورانيوم المنضب خلال المعارك جنوب (العراق)، اخضعوا لعمليات جراحية فمات منهم (12) والباقون تحت المراقبة، وان ثمة (55) ألف جندي من اصل (660) ألف مشارك في تلك الحرب ظهرت عليهم أعراض ما أسموه لاحقا (مرض الخليج)([180])، (تباينت الإحصاءات بحسب تباين مصادرها، فثمة من يشير إلى اصابة130 ألف جندي من اصل 679 الف جندي مشارك في عمليات 1991 بينما يقول عاصم راكوفيتش إن عدد الجنود الأمريكان المصابين من مجموع المشاركين في حرب الخليج كانوا ثمانين ألفا على مدى 12 سنة هلك منهم ستة وعشرون الفا ([181])في الوقت الذي ترفع الممرضة العسكرية الأمريكية دنيز نيكولز العدد إلى مائتي ألف مريض([182])ولا نرى في الأمر أية غرابة).

ولان الأمر لم يعد حبيس الأروقة، وصار الإعلام الذي كان بالامس جنديا مطيعا أمينا بيد الإدارة الأمريكية، وسيلة لنشر ما تحمله الأصوات الغاضبة، فقد عاد (مكتب المحاسبة العام) لمواصلة تحرياته التي استمرت هذه المرة سنة كاملة، قرر في نهايتها (أواخر كانون الثاني/يناير1993) بان الجيش (لم يكن مؤهلا بصورة تامة للتعامل مع التلوث باليورانيوم المنضب) وقاد ذلك الاستنتاج إلى توصيات تطالب الجيش بتحديد سقف زمني لوضع وتطبيق سياقات (مقترحة) لفحص اليورانيوم المنضب تتضمن فحص أفراد وطواقم العجلات الذين كانوا داخلها عند الإصابة باعتدة اليورانيوم المنضب.

كان التقرير بائساً، فالجيش ليس المؤسسة الوحيدة التي استخدمت اعتدة اليورانيوم المنضب وكان يفترض أن يوجه لوما شديدا للإدارة الأمريكية كلها، ولكن المكتب كان موافقا ضمنا على هذه الجريمة التي تطال البيئة وشعوب الدول المستهدفة بالعدوانات الأمريكية، إضافة إلى جنود الدول التي يدفعها قادتها المنتفعون إلى خدمة الأهداف الأمريكية تحت باب (التحالف) فيصاب أولئك الجنود بالضرر باليورانيوم المنضب والأورانج وغيرهما بينما تكسب (الولايات المتحدة) ثمار الحروب. وبدلا من ان يقرر المكتب منع استخدام العتاد الذي ثبت ضرره على البيئة والإنسان، فانه يوصي بتأمين حماية لجنود الدبابات التي قد تتعرض للإصابة بأضراره فقط. ومع إن تضليلا قد نفذ من قبل المؤسسة العسكرية، الا ان المكتب كان يعمل بوحي من التوجيهات العامة للإدارة، وكأنه احد مؤسساتها، مما يدل على طبيعة التركيبة الأساسية للنظام في تلك الدولة.

واستكمالا للتضليل الذي مورس بشكل واسع في هذه القضية الحيوية، فان (الجرّاح العام للجيش) افاد امام لجنة تحري المكتب المذكور والتي ورد فيها بان (12) جنديا من اصل (27) من جنود سرية الانقاذ 144 انجز فحصهم ولم يعثر على زيادة مريبة في جُرع اليورانيوم المنضب في اجسام بعضهم، وان البعض الاخر لم يعثر على اليورانيوم المنضب في اجسامهم، ثم عمدت القيادات العسكرية إلى تضليل خطير آخر في شهرآذار/ مارس 1993عندما صنّفت بعض جنود سرية الانقاذ 144بانهم ملوثون باليورانيوم المنضب وتم تأشير سجلات الخدمة التابعة لهم، وسلموا شهادات رسمية تثبت ذلك التلوث وسط اندهاش اولئك الجنود وتعجبهم كونهم على ثقة تامة إنهم غير مصابين بالأمراض التي يسببها التعرض لليورانيوم المنضب وانهم لم يشكوا من أية اختلالات صحية!!.

ولابد هنا من ذكر الطريقة المريبة التي عمل بها (البنتاﮔﻭن) من اجل تحديد طبيعة عمل الاشخاص الذين يقبل احتمال اصابتهم بأمراض اليورانيوم المنضب والذي يستحقون العناية والرعاية الطبية بهذا المجال اضافة إلى المصابين باطلاقات او شظايا نتيجة لخطأ (نيران صديقة)، وهم:

1-الاشخاص الذين لفهم دخان حرائق نجمت عن اشتعال اعتدة اليورانيوم المنضب التي اخترقت عربات او حرائق مستودعات فيها اعتدة يورانيوم منضب.

2-الاشخاص الذين تطلب عملهم التواجد في اماكم تحوي غبارا او رماد حرائق نجمت عن اشتعال اليورانيوم المنضب.

3-الاشخاص الذين كانوا متواجدين في هياكل العربات المتضررة باعتدة اليورانيوم المنضب([183]).

لا نستبعد إن ذلك الإجراء (الإنساني!) انطوى على خديعة تتضمن استمرار إخضاع هؤلاء (الأصحاء) الذين تم ادراجهم في قوائم المصابين، إلى الفحوصات والاختبارات الطبية المعتادة في حالات الاصابة بسموم واشعاعات اليورانيوم المنضب حيث ستقوم الجهات الطبية المختصة بالإعلان لاحقا إن اليورانيوم المنضب لا ينطوي على أي خطر على الإطلاق، وان تعرض هؤلاء لأشعته وغباره، وعدم تأثرهم به على الرغم من وجوده في أجسامهم، الدليل الأكيد على صحة هذا الادعاء، فتصور حجم الكذب والتضليل الذي تمارسه (الإدارة الأمريكية) حتى في اشد المسائل الإنسانية حساسية وخطورة على صحة مواطنيها.

قد يبدو للوهلة الأولى إن (الكوﻨﮕﺭس) لم ينجح في حماية نفسه من الكذب والتضليل الذي تمارسه الإدارة الأمريكية على الرغم من انه بدا وكأنه حقق تلك الحماية بإيجاد (مكتب المحاسبة العام) الذي لاشك انه خضع للتضليل من قبل مكتب الجّراح العام للجيش وعناصر متنفذة أخرى في (البنتاﮔﻭن) كما يُرجّح (دان فاهي)([184]) دون إن نستبعد إن مكتب المحاسبة المذكور تعمد قبول هذا التضليل (لمتطلبات الأمن القومي الأمريكي!!) خصوصا وان المكتب لم يهتم بتدقيق صحة المعلومات التي تغيرت لاحقا عندما أصدر (مركز سلامة البيئة العسكري) تقريرا رسميا في حزيران/ يونيو1995تضمن أسماء (50) جنديا أصيبوا باليورانيوم المنضب من مصادر نيران صديقة، ثم ثبت للمكتب إن جنود الفرقة (24) التي هي من نظام معركة الفيلق السابع والتي كانت قد منيت بأكبر قدر من الخسائر لم يتم إخضاعهم للفحص المطلوب. وبذا يكون (الكوﻨﮕﺭس)، اما فاشلا في تحقيق غايته من إنشاء (مكتب المحاسبة العام)، وأما انه نفسه ضالع في تضليل الأمريكيين والكذب عليهم، إضافة إلى المشاركة في تخريب البئية والضلوع في جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية والخروج اللامبرر على القانون الدولي.

لم يعد السكوت الرسمي، وحتى التضليل المتعمد قادرين على طمس الحقائق وإخفاء معالم الجريمة، فهناك جنود من جنسيات مختلفة شاركوا في الحرب ضمن قوات التحالف الذي قادته (أمريكا) ضد (العراق) ممن ظهرت عليهم أعراض مماثلة لتلك التي ظهرت على عشرات الآلاف من الجنود الأمريكان، وحتى إن الصحف الاﻨﮕﻠﻴﺯية وحدها نشرت مئات التقارير الصحفية عن الموضوع([185]). بينما ظهرت في دول أوروبية اخرى انتقادات متفاوتة الشدة وحسب قدرة وتأثير الجنود المتضررين على الرأي العام هناك.إلا إن الدكتور (عبد الكاظم العبودي) يطرح ملاحظة ذكية عندما يقول (لم نسمع شيئا بعد الحرب عن أمراض أصابت بعض الجنود العرب الآخرين ممن شاركوا في الحرب أو عن ولاداتهم)([186]) فهل ثمة من يصدق، إن إصابات عربية سواء بين المقاتلين الذين شاركوا في تلك الحرب أو ولاداتهم أو المواطنين المدنيين في المناطق القريبة على مسرح العمليات، لم تحصل؟!.

المهم إن النشاط الإعلامي المتصاعد والهادف إلى فضح الاستخدام التعسفي لليورانيوم المنضب، داخل وخارج (الولايات المتحدة) دفع الإدارة الأمريكية لعقد مؤتمر علمي حول الموضوع يكرّس لمناقشة الأعراض والظواهر المشخّصة لدى مرضى التلوث باليورانيوم المنضب، وأمرت بإجراء بعض الدراسات ذات العلاقة حيث رصدت لهذا الغرض (المخطط له جيدا) مبلغ (82) مليون دولار.وتضمنت المعالجة الإعلامية كذبا وتضليلا من نوع جديد، وكان من بين الأهداف المتوخاة صرف الأنظار بعيدا عن الاستخدام الفعلي الأول لليورانيوم المنضب وتوجيهها نحو (احتمال إطلاق العراقيين بعض المواد الكيماوية على الجنود الأمريكان)([187]). ومع إن كذبا كهذا لا يستأهل رداً، ولكن مع ذلك نتساءل :هل ان الجيش الأمريكي على مستوى من التخلف يمنعه من اكتشاف استهدافه بالأسلحة الكيمياوية على الرغم من الحذر الشديد الذي كان يسود كل أوساطه من مثل تلك الاحتمالات وقتذاك، لما تركته الدعاية الرسمية الزائفة حول امتلاك (العراق) لأسلحة الدمار الشامل واستعداده لاستخدامها؟ أم إن الإدارة الأمريكية تفترض سذاجة المتلقي دائما لتقول ما تشاء؟. لقد طلعت مؤسسة (راند) الخاصة بالأبحاث باحتمال آخر لمشاكل اؤلئك الجنود الصحية عندما ادعت إن (البيريدوستيجمين) الذي أعطي للجنود قبيل المعارك لأغراض وقائية هو سبب تلك المعاناة، واخذ (البنتاﮔﻭن)([188]) بذلك ردحا من الزمن، إلا إن إصابة أشخاص لم يتناولوا ذلك العقار ولم يكونوا على تماس مباشر مع سير العمليات بنفس الأمراض الغامضة افرغ تلك النظرية من دواعي الاحترام، ولا غرابة في الامر فالعالمة التي انتدبتها مؤسسة (راند) لصياغة التقريرالمتساهل والمريح (ناعومي هارلي) تعد من عشاق اليورانيوم المنضب ويكفي ان نعرف ان شعارها في العمل هو القول المنسوب إلى (باريسلز- الطبيب السويسري الذي عاش في القرون الوسطى) والذي يقول فيه: (ماهو الشئ الذي لايُعَدُّ سماً؟) فهي تريد ان تقول ان اليورانيوم المنضب عنصر يعيش معنا في كل ذرات التربة وقطرات الماء فعلام الخوف منه؟!! انها تشكك بكل تقرير او معلومة تنسب اضرارا لليورانيوم المنضب!.

ولما لم تكن المعالجة الإعلامية بما حظيت به من دعم مالي طائل، كفيلة بتكميم الأفواه المطالبة بحقوق جرّاء الضرر الذي تعرض له أصحابها، او تلك التي تطالب بإيقاف جريمة استخدام اليورانيوم المنضب، لذا لجأت الإدارة الأمريكية إلى صيغة أخرى، فقد تظاهرت (وزارة شؤون المحاربين القدماء) بسعيها إلى طلب المشورة من جهات عديدة بخصوص الموضوع، خصوصا وإنها تتعكز على كذب (البنتاﮔﻭن) المتعمد (حول عدد المحاربين الذين تعرضوا لليورانيوم المنضب في الحرب)([189])، وعلى ذات النهج التضليلي سار (مكتب الجّراح العام للجيش) الذي أعطى أرقاماً مبالغاً في قلتها عن المصابين الذين يتطلب وضعهم الصحي رعاية صحية خاصة لإصابتهم (في حوادث إطلاق نار صديقة)([190])، وصادف أن أطلق (معهد بحوث بايولوجيا الإشعاع) التابع للقوات المسلحة الأمريكية تقريره في آذار/مارس1993عن عدد الجنود الذين يحملون شظايا اليورانيوم المنضب المشعة. فقد عمدت الوزارة المذكورة إلى تأليف برنامج خاص يتولى متابعة هؤلاء أطلق عليه اسم (برنامج اليورانيوم المنضب) وأنيط بالمركز الطبي التابع للوزارة والموجود في مدينة (بالتيمور) برعايته، إذ سبق لهذا المركز ان احتضن المؤتمر العلمي (التضليلي) الذي اشرنا إليه آنفا، ووقعت الوزارة المذكورة عقدا مع (البنتاﮔﻭن) لشروع البرنامج بعمله في آذار/مارس1993، واعتبر تقرير(معهد بحوث بايولوجيا الإشعاع) الذي تطرقنا إليه آنفا، القاعدة التي ينطلق منها البرنامج، وكلفت الدكتورة (مليسا مكديرمد) برئاسته.

ترى هل كانت المؤسسات الحكومية الأمريكية وفي مقدمتها (البنتاﮔﻭن) عاجزة عن معرفة العدد الحقيقي (او على الأقل التقريبي) للجنود المصابين بالأعراض؟الجواب:كلا بالتأكيد، فان (البنتاﮔﻭن) كلف المؤسسات البحثية للتحقق بطرق غير مباشرة عن هذا الأمر ، وبوقت مبكر جدا (حال عودة القطعات المشاركة بالحرب إلى أمريكا) فالبروفيسور(ديور كوفيك) خبير الطب النووي السابق في (البنتاﮔﻭن) يؤكد ان (الاكتشاف الأول لآثار اليورانيوم المنضب ظهر في إدرار الجنود الأمريكيين عام 1991) ويعترف انه(توصل إلى تشخيص وتحديد أنواع النظائر المشعة 238، 235، 234، 236 حيث وجدت هذه النظائر في أجسام المقاتلين)([191]) وهذا مشابه لما كنا قد لاحظناه على نتائج الفحص والتحليل التي تمت في (افغانستان) بعد غزوها من قبل (امريكا) في خريف العام 2001.

ولغرض معرفة معنى اجتماع هذه النظائر المشعة الأربعة في الجسم نرجع إلى رأي عالمة الفيزياء الفرنسية (مونيكا سنيه) التي أعدت تقريرا خلاصته (إن اجتماع هذه العناصر في جسم الانسان يؤكد وجود اليورانيوم المنضب في جسمه، اذ لايمكن تواجدها مجتمعة إلا في هذا العنصر)، مما يدلل ببساطة شديدة على ان كل الجنود الذين جرى تشخص وجود تلك العناصر في اجسامهم كانوا ضحايا اعتدة اليورانيوم المنضب.

وعلى الرغم من ذلك كله، فان البيانات والقاعدة المعلوماتية التي جرى تهيئتها للبرنامج كانت شديدة التفاؤل حيث ان مستحقي الرعاية لم تقدم أسماؤهم للبرنامج المذكور.

وكما بينّا في موضع سابق، فان الإعلام المسخر، خرج على طوع (الإدارة الأمريكية) في هذه القضية، وكانت أعداد المصابين تتصاعد باضطراد، والأكف التي تقرع كل الأبواب تتزايد، فتحركت بعض الجهات للإدلاء بدلوها في هذه القضية، وسارعت (لجنة الإصلاح الحكومي والمراقبة) التابعة لمجلس النواب لدراسة الأمر، وقررت اللجنة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1997، انه (يجب توضيح المسؤولية عن مرض الخليج من قبل مركز للأبحاث أو وكالة أكثر استجابة على إن تكون مستقلة عن وزارة الدفاع ووزارة شؤون المحاربين القدماء) وهذا اعتراف كامل وصريح بان هاتين الوزارتين كانتا تكذبان ولا يمكن الوثوق يهما، وعقب شهرين (أي في كانون الثاني/يناير 1998) اعترف (البنتاﮔﻭن) بان (التعرض لليورانيوم المنضب وهو مادة سامة كيمياويا ومشعة، كان منتشرا بصورة واسعة خلال حرب الخليج)، وهذا تغيير جذري في المواقف على الرغم من عدم ترتب أية منافع للمتضررين به يمكن أن يحصلوا عليها جراء ذلك التغيير، ولكن بدا ذلك كله مجرد عملية لامتصاص النقمة الشعبية واحتواء الغليان الجماهيري الذي بلغ حدودا قصوى شملت الجنود المتضررين وافراد عوائلهم واخرين ممن تدفعهم دوافع انسانية ضد جرائم الادارة الامريكية، وقد أصرت (الإدارة الأمريكية)، وهناك في (أوروبا) الحكومة الاﻨﮕﻠﻴﺯية ايضا بسبب تماثل المصالح والتماهي السياسي على انه (لا يوجد مرضى بسبب تعرضهم لليورانيوم المنضب)([192]).

ومن حيث الواقع العلمي، فان (البنتاﮔﻭن) لا يحبذ، بل يرفض بشدة قيام جهة مستقلة ببحث موضوع اليورانيوم المنضب كما ترغب (لجنة الإصلاح الحكومي والمراقبة) وكدليل، نشير إلى الطلب الذي تقدم به الدكتور (ستيفن شلتون) من جامعة (نيومكسيكو) عقب انفجارات قاعدة (الحصان الاسود) في 11تموز/ يوليو1991في (الكويت) والذي رجا فيها ايفاده صحبة فريق متخصص لدراسة مكان الانفجارات موضعيا، اضافة إلى تحري حال ميدان الرمي شمال (السعودية) حيث رمت الدبابات الامريكية سبعة آلاف قذيفة رميا تدريبيا في نهاية عام 1990تمهيدا للهجوم على الأهداف العراقية.ولكن طلبه جوبه بالرفض وأرسل الجيش فريقا من موظفيه عوضا عن الفريق الذي رغب (شلتون) قيادته، إذ لا يخفى السبب في تشبث (البنتاﮔﻭن) بارسال عناصر عسكرية متخصصة في قضايا اليورانيوم المنضب واصراره على ذلك، ان هؤلاء وبضمنهم الاطباء هم فريق من القتلة كما صور لنا الفريق الصحفي الفرنسي الذي حرر كتاب(اليورانيوم المنضب –الحرب الخقية)حيث يصف احدهم وهو الطبيب (دوك روك) بانه (محارب ويحب قتل اعدائه0وهو قوي بطبيعته، انفعالي، بشرته سميكة وحمراء، يتنقل بسرعة ويتكلم بسرعة اكبر وكلامه ينم عن قوة وبأس)([193]). فتلكم هي مواصفات الاشخاص الذين يريد (البنتاﮔﻭن) قيامهم باللازم بهذا الصدد، وليس المتطوعين لاسباب انسانية كما يرغب (شلتون) وغيره.

ولان انفلات نشاط الضحايا المناهضين لليورانيوم المنضب يهدد ببروز ظاهرة عامة تخشاها الإدارة الأمريكية والقيادات العسكرية ، فقد وجد (الأمن القومي) ضرورة للتدخل، وشكل لجنة لدراسة موضوع اليورانيوم المنضب، ولا نستبعد أن تكون مهام اللجنة التجسس على الناشطين ومثيري المتاعب والذين قد يؤثّرون على البرامج المخطط لها من قبل تلك الإدارة، ومما يدلل على صحة ذلك، فان وكالة المخابرات المركزية CIA ومكتب التحقيقات الفدراليFBI أخذوا يتعقبون ويطاردون الناشطين والمطالبين بحقوقهم ممن تعرض للإصابة أو أخضعوهم للتحقيق والمساءلة القانونية)([194])0

فبعد المضايقات التي تعرضت لها (العريف:كارول بيكو) توسع نشاط الأجهزة المخابراتية لغرض إرهاب الناشطين الآخرين، وفي مقدمتهم الرائد المتقاعد البروفيسور (دوك روك) الذي انقلب فيما بعد على (البنتاﮔﻭن) بسبب ما اصابه من ضرر باليورانيوم المنضب فصار هدفا لتلك الأجهزة بما يصفه انه (إرهاب دولة على أيدي عصابة الدولة)، فقد تلقى تهديدات مباشرة (من مسؤولين عسكريين أمريكيين لوقف أنشطتي ومطالبتي بالحصول على رعاية طبية)([195]). ولما لم يستجب لذلك الابتزاز فقد تعرض لإطلاق نار (من عناصر مجهولة) وتعذر على الشرطة معرفة تلك العناصر، ثم داهمت جماعة (مجهولة) منزله خلال غيابه، وقامت بتفتيشه بأسلوب تخريبي.

إن سبب ذلك الاهتمام المخابراتي المحموم بهذا الرجل ينبع من كونه شغل منصب (رئيس برنامج تنظيف اليورانيوم المنضب بعد الحروب) وكانت وظيفته تلك حتمت عليه المكوث في (السعودية) لأغراض ذلك الواجب أسبوعا واحدا فقط، تشبع جسمه في تلك الفترة بما لا يقل عن (5)ألاف مرة أعلى من أي مستوى إشعاعي مسموح بالتعر ض له من قبل الفرد، الأمر الذي تسبب في إخضاعه لخمسة عشر عملية جراحية في الكبد([196])، لذا صار من أكثر مناهضي اليورانيوم المنضب جرأة وحدّة0

ولعل الاغرب في هذا المسلسل (الارهابي) هو ما حصل مع الطبيب العقيد (آساف ديوراكوفيتش) المتخصص بالطب الفيزياوي والذي كان في العام 1991 مسؤولا عن قسم الطب النووي في مستشفى للمحاربين في (ويلمنكتون/ ديلاوير) بعد ان عاد من حرب الخليج التي شارك فيها حيث قَدِم إلى مسرح العمليات في تشرين الأول/اوكتوبر1990 (وقد مر بنا ذكره في موضع سابق)، فقد اشرف بحكم وظيفته على معالجة اربعة وعشرين من الجنود الامريكان جرحى شظايا اليورانيوم المنضب، ولكنه لاحظ ان طلباته واقتراحاته ذات العلاقة بالجرحى اهملت، وفوجئ بامر يصله (اذا واصلت اصرارك هذا فلن يتم تمويل اعمالك وانه لمصلحتك الشخصية ومصلحة حياتك العلمية يتوجب عليك التوقف عما بدأت به فورا) وعندما رفض ذلك الامر اللاانساني وتابع عمله لاحظ ان احد المختبرات المشهورة التي ارسل اليها عينات للفحص، انكرت استلامها تلك العينات وعندما عرض عليها ايصال الاعتراف بالاستلام المعطى له، استسلمت ولكنها اخبرته ان نتائج التحليل كانت سلبية، بينماادعى المختبر الذي في (ابردين) ان (ديوراكوفيتش) حضر واستلم العينات ونتائج التحاليل في وقت يصر فيه الرجل ان رجله لم تطأ تلك المنطقة، ما دعاه إلى عد تحليل عينات الإدرار تلك من اخطر أسرار حرب الخليج.

لقد كثرت النداءات الهاتفية التي طلب فيها أشخاص محددون من وزارة الدفاع الأمريكية ومن القيادة العامة في (فرجينيا) ومن مقرات عليا غيرهما من (ديوراكوفيتش) التوقف عن معالجة هؤلاء الجرحى مع انه متأكد ان (البنتاﮔﻭن) مقتنع بوجود ثمانين الف من جنود الحملة مصابين بامراض سببها التعرض لليورانيوم المنضب (يصحح اساف ديوراكوفيتش الرقم الى مائة الف مصاب)([197]).

لقد نصح الرجل مرضاه بمراجعة مختبر وطني لاجراء الفحوص بعد ان وصل إلى طريق مسدود، ولاشك انهم سوف لن يجدوا باب الختبر مفتوحا بوجه أي منهم، فقد اكد العديد من هؤلاء المرض ان وثائقا مهمة سرقت من اضابيرهم المرضية في المستسشفيات التي كانوا يراجعونها([198]).

لقد ضحى الجيش الامريكي بخدمات اطباء من الدرجة الاولى بسبب اصرارهم على متابعة فحص مرضى اليورانيوم المنضب ومن بين هؤلاء وفي طليعتهم الدكتور (بيلتون بوروس) الذي كان يدير مستشفيي المحاربين في كل من (بوسطن) و(ماساشوست) وكان الفريق الذي شاركه المصير ذاته فريقا محترما من ناحية العدد والخبرة والمكانة العلمية. وزيادة على ذلك وافراطا في ملاحقة ذوي الاهتمامات الانسانية، فان (البنتاﮔﻭن) هدد مرات عديدة بملاحقة رؤساء الجمعيات الانسانية التي تتولى متابعة قضايا المحاربين القدماء قضائياً بتهمة نشر معلومات كاذبة، فهو (البنتاﮔﻭن) عديم الشفقة كما يصفه (بول سوليفان) مدير (المركز القومي لتوثيق حرب الخليج)([199]).

وعندما وجد الرئيس السابق (كلنتون) نفسه مضطرا للتجاوب مع القضية التي اقتحمت عليه مكتبه ولم يعد تجاهلها امرا ممكنا، فقد لجأ الى تشكيل لجنة رئاسية، هنا بدا وكأن الأمور أخذت تسير في الطريق الصحيح طالما تبنى رئيس الولايات المتحدة الموضوع شخصيا ، فالمشكلة في طريقها إلى الحل، وان شعور الرئيس بمعاناة مواطنيه الذين كانوا الأكثر استعدادا للتضحية بحياتهم من اجل مصالح (أمريكا) كما فهموها في حينه، دفعته للتدخل شخصيا من اجل راحة مواطنيه وسعادتهم وانهاءا لمعاناتهم، وفعلا قررت اللجنة عقد لقاءات وندوات جماهيرية في عدد من المدن المهمة لمتابعة هذا الأمر علنا وبشكل واضح وملموس من قبل الجميع، بلغ عددها (23) لقاءا وندوة خلال عامين (من آب/أغسطس 1995ولغايةايلول/سبتمبر1997).

لم يكن احد يتصور ان اللجنة الرئاسية تلك وضعت قرارها النهائي منذ اجتماعها الأول(التأسيسي)، وان بقية أعمالها طيلة سنتين لم تكن إلا مجرد تضليل وخداع للبسطاء، فان كل ما طرح خلال تلك الندوات الجماهيرية التي فتحت أبواب الأمل والتفاؤل لمئات الألوف من المحاربين القدماء، وأضعاف هذا العدد من أفراد عوائلهم، وصورت لهم ان مخاوفهم وهواجسهم ستنقضي. كل هذا ناقشته اللجنة في أول اجتماعاتها، وكان هذا الاجتماع قد استغرق ساعة واحدة فقط (60 دقيقة)!!

وكانت قائمة العلماء الذين طُلب من اللجنة الاستئناس والاسترشاد بآرائهم تضم (18)اسما، إلا إن اللجنة رأت ان تكتفي بالاستماع إلى إفادة اثنين منهم فقط(!!) وخصصت لهذا الغرض جلسة واحدة في آب/اوغسطس1996، وهذان العالمان هما الدكتور (جورج فولز) من مختبرات (لوس الاموس) الذي أدلى بإفادة كاذبة مع علمه بكذبها (مع ان مختبرات لوس الاموس التي يعمل بها كانت قد اصدرت مذكرة شهيرة في اليوم التالي لوقف اطلاق النار في حرب الخليج1991تبين خطورة هذا العتاد وسنطلع على نصها في موضعها المقرر من هذا الفصل)، أما الثاني، فهو الدكتور (ديفيد هيكمان) طبيب الصحة العامة الذي سخر في إفادته من اللجنة.ونعتقد ان اللجنة اختارته للتظاهر بالجدية في العمل، وعموما فان الذين ركنت اللجنة إلى آرائهم كانت لهم (ارتباطات مع الحكومة الفدرالية أو صناعة الطاقة النووية في الجيش)([200]) مما يعني ان افاداتهم كانت متحيزة وغير صادقة.

لقد تضمن التقرير النهائي للجنة الرئاسية ما يحدد إن كل ضحايا اليورانيوم المنضب هم (24)جنديا من سرية الإنقاذ (144) ومثلهم من الفرقة (24). واشادت ببرنامج اليورانيوم المنضب الذي نظمته وزارة المحاربين القدماء واعتبرته كافيا، فهو يؤمن مراقبة سريرية (للمصابين باطلاقات صديقة) وان لوزارة الدفاع اساليبا مناسبة لحماية الأفراد الذين عملوا على عجلات ملوثة وانه لايمكن قياس الجرعات التي دخلت أجساد الجنود، ومع ذلك ان اللجنة توصلت إلى ان اليورانيوم المنضب ليس سببا للمشاكل الصحية الحالية للجنودالمرضى، وعلى الرغم من ذلك فان اللجنة لاحظت ان اليورانيوم المنضب كونه مسرطنا (محتمل!) فانه (يمكن) ان يؤدي التعرض إليه خلال حرب الخليج إلى زيادة (طفيفة) في خطورة مرض السرطان بعد عقود زمنية منذ نهاية الحرب.

وانهت اللجنة الرئاسية مهزلتها المقززة بتقديم تقريرها المفصل إلى الرئيس(بيل كلنتون)في 7كانون الثاني/يناير1998، محققة ما تتمناه الادارة الامريكية من خداع للرأي العام بخصوص واحدة من افضع جرائم العصر (وبجملة واحدة انكرت اللجنة ان استخدام اليورانيوم المنضب في حرب الخليج قد ساهم في مشاكل صحية لحوالي 90 الف جندي امريكي)([201]). ولاشك ان الرئيس (كلنتون) كان سعيدا بما توصلت اليه اللجنة، فامر بعرض التقريرعلى (الكونجرس)([202]).

وعلى ذات النهج الذي اختطته اللجنة الرئاسية ، سارت اللجان الاقل اهمية، فعدا عن لجنة الاصلاح الحكومي والمراقبة التي حققت في الامر كما مر بنا، شكل مجلس الشيوخ لجنة حول الموضوع، وكذا فعل مجلس النواب. ولم تتخلف لجنة القوات المسلحة لمجلس الشيوخ عن اللحاق بالركب التحقيقي المضلل.

يلزمنا التوقف برهة عند ذكر اللجنة الفرعية للموارد البشرية التي يرأسها النائب الجمهوري (كريستوفر شايز) التي حاولت الظهور بمظهر جدي اكثر من غيرها من اللجان. لقد عقدت اللجنة (15) اجتماعا، توصلت في نهايتها إلى إن اليورانيوم المنضب (وعوامل سامة أخرى) ساهمت في ظهور هذا المرض([203]).

ولكن اللجنة لم تعط الموضوع اهتماما كبيرا يتناسب مع حجمه، وإنها لمست وجود تقصير في تبصير وتدريب القطعات (ولم تحدد المسؤولين او تقترح اتخاذ إجراءات بشأنهم)، وعلى العموم فان تقريرها (لم يكن مهما جدا لأنها كانت لجنة لا مبالية، متعالية قصيرة النظر) ([204]).

وعدا عن الامراض التي كانت تفتك بابناء (امريكا) الذين قاتلوا في سبيل رغبات قادتهم ثم أُهملوا، فقد كانت عوائلهم تعاني وتتعذب وتشقى، ومازاد من ذلك وضاعف من حجمه، ان هؤلاء الجنود المرضى الملوثين اخذوا ينجبون اطفالا، واولئك الاطفال تعرضوا منذ كانوا في اصلاب آبائهم إلى تخريب وراثي فضيع، حيث حطمت ودمرت الكروموسومات التي في خلايا ابائهم، وتشوهت الجينات فنقلت صفات وراثية لاعلاقة لها بالاصل، فجاء بعضهم خلوا من الغدة الدرقية، وآخرون عانوا منذ ساعات الولادة من مشاكل في التنفس، وكان التشوه الذي خرب اشكال بعضهم خطيرا، وهو ما دفع جهة معينة ذات اهتمام بهذا الامر لاجراء مسح لعوائل (251) جنديا عائدا من منطقة العمليات ممن يسكنون ولاية (مسيسبي) وكانت النتيجة ان(67%من الاطفال ولدوا من دون عيون او من دون آذان، او بدم ملوث، او بمشاكل في جهاز التنفس، او باصابع مندمجة مع بعضها)([205]). عموما فان ظهور أعراض الإصابة على (60) شخص من هذا الجيل تعني إن المصابين في الجيل التالي ممن ستنقل إليهم الإصابة وراثيا هم (1100) شخص([206]). لقد كان ثمة قانون امريكي معمول به، يحرّم على الجندي رفع دعوى ضد الدولة بسبب الجروح التي قد يصاب بها في المعارك، ولكن بعد ان تفشت واستشرت حالات التشوه الخلقي لاطفال الجنود العائدين من حرب الخليج الثانية 1991فقد لجأت الادارة الامريكية إلى تعديل مجحف لهذا القانون، شمل حرمان عوائل الجنود بذلك التحريم ([207])، فكم هي مأساة إنسانية مروعة تلك التي يتسلى بها (البنتاﮔﻭن)؟!. لقد كان الرعب من الواقع المعاش والمستقبل المجهول يحطم النفوس، فامراض

الكبد والكلى وفشل نظام المناعة والمفاجئات السرطانية التي لا يعرف أين ومتى ستظهر كانت واقعا معاشا يكرسه ويزيده رعبا ان مقاتلين من الوحدة نفسها ، تلفت أعصابهم وابيض دمهم وتسرطنت عظامهم ورئاتهم…الخ، بينما المجهول اكبر وأكثر خطرا، فالأعراض قد تكمن داخل الجسم سنينا وربما عقودا، ولا احد يستطيع أن يمنح نفسه شهادة سلامة وخلو من التلوث وبالتالي الاصابة بالامراض المختلفة ، وإذا ما دخل شئ، إلى الجسم أو تسربت إليه أشعة، فكم هو المقدار الداخل؟ فبمعرفة المقدار تسهل معرفة (ولو احتمالا) كم من الزمن ستكمن الأعراض، وأي جزء من الجسم سيخرب.والانكى من ذلك الرعب كله والامرّ منه، هو ان وزارة الدفاع الامريكية (البنتاﮔﻭن) تسلحت بتقرير مركز سلامة البيئة العسكري الذي قرر (بنزاهة شديدة جدا!!) إن اغلب الإصابات التي مني بها الجنود الأمريكان خلال العمليات، باسثناء من أصيب منهم بإطلاق نار صديقة تعتبر حالات (لم تكن لها ضرورة عسكرية)([208]).

إن ذلك يعني ببساطة شديدة إن إهمال هؤلاء الجنود وربما تعمدهم تعريض أنفسهم لغبار وأشعة اليورانيوم المنضب كان هو السبب (!!) وبهذه الطريقة الظالمة حرموا كل الجنود الذين اعاقهم اليورانيوم المنضب عن كسب لقمة العيش من الاستحقاقات المالية والضمان الذي يستحقونه بسبب عوقهم والذي قد يصل إلى حدو (300 الف دولار سنويا) لكل جندي مادام على قيد الحياة، ولك عزيزي القارئ ان تتصور بشكل تقريبي كم ستكلف الخزانة الامريكية جريمة الحرب التي ارتكبتها الادارة الامريكية وقياداتها العسكرية في الحرب على (العراق) وما اعقبها من عدوانات في مناطق مختلفة من العالم.

لقد كان الضرر الخطير الذي أصاب قسما كبيرا من الجنود الأمريكان المشاركين في تلك الحرب سقوطا أخلاقيا تتحمل تبعيته إدارة بلادهم، وهو اكبر حجما من سقوطها الأخلاقي الذي نتج عنه تسميم الآلاف منهم بالمركبات الكيمياوية في (فيتنام)، ومع دوام تشكي هؤلاء الجنود وعوائلهم ضد ما سببته لهم السلطات المختصة وضد إهمالها المتعمد لأوضاعهم، برز عامل خطير.فقد عرضت قناة (بلاينت) التلفزيونية الفرنسية فلما استغرق عرضه ساعتين عن تجارب خطيرة ترتبط تأثيراتها بالأسلحة الكيمياوية والبايولوجية أجرتها القوات الأمريكية على جنودها من غير علمهم بحجة تجربة أدوية جديدة ضد (الانفلاونزا). وعقب انكشاف تلك الجريمة، عمدت القيادة العسكرية المسؤولة إلى عزل الجنود المشمولين بالتجارب خشية انكشاف تفاصيل التجارب في (هذا العمل الإجرامي الذي يعيد إلى الأذهان ما أشارت إليه وسائل الإعلام حول الحيرة والذهول اللذين أصابا الخبراء والمختصين عن الأسباب الحقيقية لإصابة الجنود المشاركين في القتال عام 1991باعراض أمراض مختلفة بدأت تظهر بعد وقف إطلاق النار)([209]).

وعقب انتهاء حرب (البلقان) كشفت (كارلا ديبونتي) المدعية العامة لمحكمة جرائم الحرب الدولية (التي أسسها رامزي كلارك)عن وجود إصابات بين الجنود الأمريكان باليورانيوم المنضب([210])، لتنظم مجاميع جديدة إلى الجموع الكبيرة للمتضررين.

وتعود الأفلام الوثائقية إلى تثقيف الناس (فالكاميرا لا تكذب) حسب المبدأ الاعلامي المسلم به، إذ أنتجت قناة (C+) فيلما جديدا استغرق (90) دقيقة واسمه (تسعون دقيقة) اخرج خلاله (لوك هيرمان) تقريرا عن الاسلحة التي ترتكز صناعتها الى اليورانيوم المنضب المستخدم في (كوسوفو)، وحاور فيه احد المسؤولين في الصليب الاحمر الذي قال انه كان قد اخبر الكوسوفيين بعدم الاقتراب لاكثر من (50) متراً من الدبابات التي قصفتها قوات حلف شمال الاطلسي وذلك تجنبا للاصابة بالامراض.

لقد خلقت التحقيقات الميدانية والتصوير الموقعي الذي ساهم في انتاج ذلك الفيلم دواع ومبررات اقتناع لدى مسؤولي تلك القناة وخاصة (كريف وبول موريريا) العاملين في القناة المذكورة ، فصارا من متصدري الدعاة لفضح هذه الجريمة، فقد اعطيا الضوء الاخضر للصحفي (ميسونيه) وشجعاه وزملاءه على تأليف كتابهم الذي اشرنا اليه في مواضع سابقة([211]). ربما الاهم من ذلك ان الفيلم شجّع مئات الجنود من الذين اشتركوا في (حرب الخليج) ضمن القوات الحليفة إلى عرض مشاكلهم الصحية وشكاواهم على المسؤولين املا في الحصول على حقوق او امتيازات، الا ان ذلك كله ذهب جزافا لعدم استعداد اولئك المسؤولين للاستماع إلى شكاوى المتضررين.

من هنا نستطيع تلمس اسباب حظر وزارة الدفاع الامريكية (البنتاﮔﻭن) وكذلك وزارة الدفاع البريطانية إنتاج وعرض أفلام وتحقيقات تلفزيونية تخص الموضوع. فان فريق عمل من قناة CNN انجز تحقيقا تلفزيونيا عن الموضوع التقى اعضاؤه خلال بالممرضة الامريكية (العريف كاول بيكو) اثناء حضورها مؤتمرا تخصصيا عن اليورانيوم المنضب في (العراق) وقالوا لها (ان اللقاء سيعرض على شاشة التلفزيون) ولكنهم اتصلوا بالبنتاﮔﻭن الذي لم يوافق على العرض حيث تستطرد (بيكو) التي روت ذلك قائلة (وهناك في البنتاﮔﻭن لم يرغبوا حتى في منح فرصة اللقاء التلفزيوني، ولم يعرض اللقاء ابدا في التلفزيون الذي ارى انه كان يتوجب بثه، فالمؤتمر الذي صورته القناة المذكورة لا يحظى بأهمية إلا إذا بين كيف ان العراقيين يعانون من هذه السرطانات([212]) وآثار الحصار على الصحة) وبدلا من عرض اللقاء فقد نشروا صورة (كارول بيكو) أمام صورة كبيرة لصدام حسين إذ ظهرت الصورة في جريدة اتلانتا جورنال كونستيتوسيونAtlanta Journal Constituti في الثالث من كانون الاول/ ديسمبر1998)([213]). وبذا فقد حاولوا اظهارها متعاطفة مع (صدام حسين) الامر الذي جعلها تدافع عن نفسها قائلة (لم يكن في نيتي الذهاب إلى هناك لأسئ إلى الولايات المتحدة).

اما الرائد (ريموند بريستو) الذي سبق وان حضر المؤتمر المشار اليه في (بغداد) فاستغلت الشرطة البريطانية ذلك وداهمت منزله لتفتيشه، فقد اهتمت الصحافة به كثيرا وأجرت CBS تحقيقا تلفزيونيا معه وكذا فعلت NBCعنما اجرت تحقيقا مع مقاتل أمريكي حضر المؤتمر ذاته، الا إن اللقاءات المذكورة لم يتم بثها اطلاقا.ويقول الرائد (بريستو) ان BBC اجرت لقاءا معه لم يُبَث بالمرة، يذكر ذلك مع التأكيد انه بعيد عن اية دعاية فهو يعمل من اجل الناس المرضى في (العراق) وليس من اجل السياسة([214]).

لقد لفت التعتيم الاعلامي على اليورانيوم المنضب انتباه الراهب الفرنسي (بنيامين) الذي يعمل ضمن طاقم سكرتارية البابا في (الفاتيكان) ويرأس مؤسسة (انجليكو) ذات التمويل البابوي، والذي زار (العراق) وحضر ندوة عام 1998المذكورة (كما مر بنا في الفصل الاول) في محاولة منه للوقوف على حقيقة امر هذا العتاد خصوصا وان اشخاصا عديدين حذروه من مس حطام الدبابات والشظايا لانها مشعة، قي مناطق مختلفة من (الناصرية) جنوب (العراق) والتي زارها ضمن سعيه للتمهيد لزيارة (البابا) المقترحة لاثار (اور) والمكان الذي يزعم ان (ابراهيم الخليل ـ عليه السلام) ولد فيه، تلك الزيارة التي كانت (الادارة الامريكية) تتمنى ان لاتتم، وانها بالتالي الغيت فعلا.

لقد قرر ان يبحث في الامر بنفسه، فكان جنوب (العراق) مربع البداية، وتوسع البحث حيث اكمله في مناطق عديدة من (اوروبا). لاحظ الراهب المحقق ان حضور ممثلي وسائل الاعلام في تلك الندوة كان حضورا متميزا، الا ان لا أحد يرغب في اظهار الامر فيما يخص اعتدة اليورانيوم المنضب على حقيقته، وكان ذلك وراء زيادة اهتمامه بالامر.فهو يقول (كان هناك اعتراض لقنوات التلفزيون. لم يبثوا أي شئ، لا صور ولا لقاءات.هذا متناقض بما فيه الكفاية بالنسبة لدول تقول انها حرة بشأن الاعلام.كان صحفيون متحمسون جدا حاضرين، وعندما بعثت بصور عن نتائج القصف تُبَيِّن احدها طفلا من دون ذراع، وجهوا لي اصابع الاتهام بانني اقوم بالدعاية لصالح صدام حسين)([215]).

كان ثمرة ذلك الاهتمام الشخصي والحثيث، كتابا ألفه الراهب بعنوانIraq I`Apocalypse (العراق:نهاية العالم) الذي صدر عن دار (فافر) الفرنسية في العام 1999.

لقد رأينا في الفصل الأول كيف ان الإدارة الأمريكية حاولت جاهدة التخفيف من وقع وتأثير المعلومات المتداولة عن أخطار استخدام اليورانيوم المنضب كعتاد، وان (مادلين أولبرايت) و(وليام كوهين) عمدا إلى الكذب في محاولة للتخفيف، مع تعتيم إعلامي تام في وسائل الإعلام الأمريكي (الحر)، فلماذا كل ذلك؟

قد تطلعنا مذكرة كتبها العقيد (زيهمان) في نهاية العمليات الحربية في حرب الخليج1991 (عرفت باسم مذكرة لوس الاموس([216])) الشهيرةوالتي اشرنا اليها في معرض حديثنا عن اللجنة الرئاسية، على الاسباب التي تحمل الادارة الامريكية على اتخاذ ذلك الموقف، فالمذكرة التي تحمل تاريخ الاول من آذار 1991 (توقف اطلاق النار في تلك الحرب يوم 28 شباط 1991) نص على جملة امور اهمها:

(سببت اثار اليورانيوم المنضب قلقا، وبالنتيجة، حتى اذا لم يضع أي شخص فاعلية اليورانيوم المنضب في ساحات المعركة موضع شك يمكن ان تصبح قذائف اليورانيوم المنضب غير مقبولة سياسيا وتستبعد من الترسانات، اعتقد اذن انه يتوجب التفكير في هذه المسألة الحساسة في الوقت الذي ستكتب فيه التقارير بعد العمليات).

وان احد متلقي تلك المذكرة، الدكتور (دوك روك) الذي مر بنا ذكره في موضع فات، يقول بصدد الموضوع (كان في نية الولايات المتحدة الاستمرار في استخدام اليورانيوم المنضب ومهما تم العثور عليه ومهما كتب يتوجب ضمان عدم اعاقة استخدامه)([217]).

فهل ثمة حاجة إلى أدلة أكثر لإثبات وتأكيد الهيمنة التي تمارسها (الإدارة الأمريكية)على الإعلام(الحر!!) وتوجيهه بالاتجاهات التي تخدم السياسات الظالمة والتعسفية؟