هل هناك نوايا لإقامة مثلث شيعي فعلا؟


منذ القِدم تعود البشر، على لسان المجربين من مفكريهم على طرح نظريات الغاية منها أن تكون تصلح لتفسير بعض الظواهر الاجتماعية أو الطبيعية، فوضعوا أساسا لتفسير هطول الأمطار ووضعوا أساساً لحركة الأجرام السماوية ووضعوا أساساً لعلاقة الحكام بالآلهة، ولم يتركوا شأناً صغيراً أو كبيراً إلا ووضعوا له أساساً افتراضياً يحاول تقديم تفسيراً مقنعاً لأي ظاهرة.

وما أن يمضي الوقت، حتى يأتي من يدحض هذه النظرية أو تلك، واضعاً أساساً نظرياً بديلاً يحاول إقناع الآخرين الأخذ به. وهذه النشاطات الفكرية معروفة ومشروعة في نفس الوقت، طالما أن هناك الكثير من الظواهر التي كانت موجودة أو تتولد حديثاً.

وقد استغلت الدوائر السياسية الدولية أو المحلية مثل تلك الظواهر استغلالا جيداً وجعلت من الأساس النظري لتفسيرها للأمور أو لتضخيمها لعامل ظاهرٍ للعيان في تلك الظواهر، لتغلف به خطابها السياسي الذي يسبق أو يرافق نشاطاتها الدولية أو المحلية.

تَفْرَح الصهيونية العالمية عندما تسمع أن الناس في مشارق الأرض ومغاربها يضخمون من دورها في تحريك العالم، فتستغل هذا الاعتقاد استغلالا جيداً في كسب مناصريها وتحذيرهم في نفس الوقت من غضبها إذا ما فكر هذا الصديق أن يغير من موقفه. وتفرح الولايات المتحدة الأمريكية من أن هناك اعتقاداً سائداً في العالم بقدرتها الاستثنائية وضرورة التقرب منها والرضوخ لإرادتها. وتفرح دوائر المخابرات العربية عندما يتناقل أبناء الدولة أخباراً تدلل على قدرة تلك الأجهزة على كشف كل صغيرة أو كبيرة فكر أحد المواطنين بها أو يحاول، فهي بذلك تزرع بذور ردع المواطنين في نفوسهم.

التصور الغربي والصهيوني عن المنطقة العربية

من يفحص النظرة التي سبقت احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، سيخرج بتصورٍ يدلل على ما ذهبنا إليه في موضوع التبشير الفكري الذي يهيئ لما بعده من أحداث.

لقد قسم صانع الخطاب الدعائي الأمريكي المجتمع العراقي الى ثلاثة أقسام: شيعي وسني وكردي. وهو تقسيم مضحك جداً، فهذا التقسيم لا يتفق مع أساس التنوع بين أقسامه، فلا يجوز مثلاً أن نسأل أحدهم أيهما تفضل فيروز أم لحم الضأن؟

لو سايرنا من قام بهذا التقسيم، ثم سألناه: هل الأكراد في العراق من السنة أو من الشيعة؟ سيجيب إنهم من السنة، ثم نسأله لماذا يقومون إذا بالتحالف مع إيران ضد عرب العراق؟. ونعود ونسأله: هل شيعة العراق من العرب أم من الفرس، سيجيب إنهم من العرب، ثم نسأله لماذا يقومون إذاً بالتحالف مع إيران ضد بلادهم؟

لن ندخل في تفاصيل ذلك، فالواقع العراقي بات مكشوفاً للمراقب عن بعد، فكان من بين المعتقلين في سجون الاحتلال ما يزيد عن نصفهم من الشيعة، ولم يشفع لمحمد حمزة الزبيدي ـ رحمه الله ـ كونه شيعياً، كما لم يشفع لطه ياسين رمضان كونه كُردياً. ولم يشفع لطارق عزيز كونه مسيحياً.

ماذا عن إيران؟

لا نستبعد نوايا إيران في تخطيطها لحصد مكاسب جغرافية واقتصادية وسياسية على هامش الغزو الأمريكي للعراق، فهذه من الفرص الذهبية لها لكسب موضع قدم على أي صعيد.

كما لا نستبعد أن إيران يسرها أن تُصنف نشاطاتها على الأساس الطائفي ونشر المذهب الشيعي، فهذا سيعطي تحركها من أجل تحقيق أطماعها شكلاً محيراً، سيفيدها في تفسير الآخرين لتدخلات أخرى مثل تدخلها المباشر في لبنان وتدخلها شبه المباشر عند الحوثيين في اليمن، وتدخلها غير المباشر في دعم حماس.

هي تعلم، كما يعلم الآخرون أن ذلك لن يجعل الناس في البلدان العربية يصطفون أمام المراجع الشيعية لإعلان تشيعهم، فليس هناك بالتاريخ القديم أو الحديث ما يُعزز مثل هذا الاعتقاد. فلم يتغير سكان مصر أو تونس الى المذهب الشيعي رغم طول فترة حكم (المهديين) و (الفاطميين)، ولم يغير مسلمو الاتحاد السوفييتي ولا مسيحيوه دينهم رغم طول فترة الحكم الشيوعي والتي استمرت لجيلين. كذلك الأمر بالنسبة لألبانيا وفلسطين.

ماذا عن سوريا؟

ليس من مصلحة سوريا أن يقوم بالقرب منها نظام مبني على الطائفية، فسوريا مصنفة مع الأنظمة (العلمانية) وخطابها السياسي الذي يعطيها هويتها التي حافظت على شكله عدة عقود، هو خطاب قومي يبتعد عن التصنيفات الدينية بقدر الإمكان. ولم يكن دعمها لحزب الله في لبنان قد جاء على هذا الأساس، بل جاء من باب مناصرة الحق الوطني والقومي لشعب لبنان الشقيق. وهذا الدعم لا تختلف فلسفته (ضمن الخطاب السوري) عن دعم الجهود في إخراج الجيش العراقي من الكويت في العهد السابق للعراق (والمستمر في سوريا).

ثم إن عدوى الطائفية ستنتشر حتى تطال سوريا نفسها، فيما لو دعمت التوجه الطائفي لإقامة حكم شيعي في كل العراق أو في جزء منه.

فلذلك، فإن النظام السوري غير معني بفكرة الهلال الشيعي، لا من قريب ولا من بعيد، وإن كانت إيران تغض النظر وتفرح لما يُشاع عن مثل تلك الإشاعات فإن سوريا لا ترغب بأن تكون مشمولة في مثل تلك الإشاعات.

من هنا، أثيرت المزاعم العراقية (من قبل حكومة المالكي)، حول دور سوريا في التفجيرات الأخيرة في العراق، لأن سوريا لم تنجر لترسيخ الاعتقاد بضلوعها في تشكيل الهلال الشيعي.

ماذا وراء تحالفات حماس وسوريا وحزب الله؟

الأفراد والهيئات والدول كالنباتات، كلما اتسعت المساحة التي تتحرك فيها جذورها كلما زاد اخضرارها وزاد إثمارها. ويقاس رقي الدول بسعة انتشار جذورها، فالشجرة الباسقة ـ بالتأكيد ـ هي أرقى من (الثالوسيات) أو من النباتات المتسلقة، التي تستند وتعتمد على نبات آخر.

لا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية تحتل أعلى سلم الدول الأقوى في العالم ـ في الوقت الراهن ـ ومع ذلك لا تستنكف عن إقامة علاقة تحالف مع دولة مثل (جورجيا) أو حتى فصيل مغمور في دارفور، فطالما أن أذرع جذورها تستطيع التحرك، فإنها لا تتوانى عن الحركة.

وبالمقابل، فإنها تعد الخطط لعزل الأنظمة أو التنظيمات التي لا توافقها خططها، وتستخدم مساحات تحركها للضغط على تلك الكيانات لعزلها.

حاولت كل من إيران وتركيا، أن تنضم للجامعة العربية ـ بالرغم من تواضع دور الجامعة ـ بصفة مراقب، لكن العرب تحفظوا على ذلك.

وفي حالة إيران وسوريا وحزب الله وحماس الآن، أنها تحاول الخروج من عزلتها التي خططت لها الإدارة الأمريكية، فوجدت في بعضها البعض مجالا أكثر رحابة من غيره. حتى بدت وكأنها متحالفة تحالفا (صميمياً)، ولو أتيح لأي من تلك الكيانات أن يفتح علاقة طيبة مع أي جهة، فإنه بالتأكيد لن يتوانى، وهذا ما يحدث عندما يناغي شافيز الشيوعي (وليس الشيعي) تلك الكيانات.

ومع الأسف، فإن النظام العربي الرسمي، والذي يثبت باستمرار بأنه كالنبات المتسلق الذي يستند على الساق الأمريكي، يساعد في تصليب مثل تلك الأوضاع.

إيران تساعد خصومها في رسم صورتها

يبدو أن إيران مستعجلة في حصد ثمار أي مرحلة، حتى أنها باتت غير مطمئنة لغيرها، وبالعكس، فإنها تساعد في تصديق ما يُقال عنها من أعدائها.

عندما وافق الإيرانيون في 8/8/1988 على وقف الحرب العراقية الإيرانية، كان لا بُد أن يثبتوا لغيرهم أنهم لن يكونوا سبباً في أذى جيرانهم، ففي أزمة الكويت أودعت العراق عددا من طائراتها في الأراضي الإيرانية ظناً بأن الحرب قد انتهت فعصيت عليها إيران، ولم تكتف بذلك، فقد ساعدت في تهييج الشعب العراقي أثناء خروج الجيش العراقي من الكويت. ولم تنس بعد أن دخل الأمريكان للعراق ملاحقة كل رموز النظام في العراق وضباطه وعلماءه.

ومن جهة أخرى، فإن احتلال نظام الشاه للجزر الإماراتية الثلاث، قد باركه النظام الجمهوري، ولم يصغ الى المطالب العربية في حل ذلك الإشكال، إضافة الى تصريحات هنا وهناك بمطالبات إيرانية بمناطق عربية أخرى، وسحب مياه العراق في عدة أنهر وغيرها.

خلاصة

ليس هناك ما يدعو للقلق من إقامة مثلث شيعي، ولكن تضخيم تلك الإشاعة وما يرافقه من سلوك من طرف النظام الإيراني والنظام الرسمي العربي، هو ما يجعل هذا البعبع ماثلاً لتستغله القوى الأجنبية في ترسيخ أقدام مصالحها في المنطقة، مما يجلب الأذى للمصالح العربية والإيرانية على حد سواء.