في زمن صار الشارع مسرح لعرض المفاتن المثيرة لغرائز الشباب ومحرض رئيسي لهم
العاهرة قديسة العصر



إن مرور امرأة ما في الشارع تبرز ما تيسر لها من مفاتن جسدها؛ يكفي بحد ذاته ليجذب كل من فيه إليها، فترى الناس يركزون نظرهم ويثبتون حركاتهم وتتجمد أقدامهم، لتعزف القلوب والأحاسيس على إيقاع ذلك الجسد المرصع بجمالية الشهوة، وإن كنت ماراً عن بُعد يمكن لك أن تستنتج بأن هذه النظرات الموجهة َبدقةِ السهم إليها ليست موجهة لشاعر سوري معاصر أو مفكر مشهور أو فنان مبدع، إنما هي موجهة لفتاة جميلة ربما أو ليست جميلة،
ولكنها صبية قررت لأسباب نجهلها أن تخلع عن كاهلها كماً من القماش أو أجزاء منه تراها غير لازمة ببساطة؛ وهي تعلم حتماً وبشكل مسبق أنها ستصدم الناس وتحرك نزوات من لم يستطع التركيز إلا على تفاصيل جسدها، وحفظها عن ظهر قلب لمدة تطول أو تقصر، بحسب ما تقتضيه ضرورة التفريغ المزمع تنفيذه غريزياً. مثل هذه المرأة قد تسمى "عاهرة"!، فالعاهرة إذن في مجتمعنا ليست من تبيع جسدها أو تمنح الآخرين اللذة مقابل مبلغ من المال، بل هي أي فتاة ضاقت ثيابها عليها وطغى لحمها على قماشها؛ إن الأمر متعلق بمن ينظر إليها، ويعود إلى عقليته، فإما أن يعتبرها عاهرة أو يعتبرها فتاة تساير ذهنية العصر وما تربت عليه في بيئتها الصغيرة "العائلة"، وهذا طبعاً يكون خيراً إن وجد...؛ لن أتحدث هنا عن الحالة الأولى وهي الفتاة العادية التي وصلت درجة تحررها إلى حد أن تلبس ما تشاء وتتزين كما يحلو لها؛ وإنما سأبحث في الحالة الثانية: أي الفتاة التي تبيع جسدها.
كثيراً ما يبرر البعض عملية "بيع الجسد" أو يتكلم بنوع من البهرجة المعرفية - والتي نراها كثيراً في مجتمعنا- بوصفها من أقدم المهن والأعمال التي عِملَت بها المرأة منذ نشأة المجتمعات الأولى؛ وأنا أرى أن هذا ليس إلا اتهاماً يمكن دحضه بكل بساطة؛ إذ لم تثبت أية نظرة انثربولوجية أو تاريخية أو اجتماعية قيام المرأة الأولى بهذه المهنة، فهي في المرحلة الرعوية أو الزراعية أو المدنية القديمة، لم تلجأ إلى بيع جسدها، وفي الأصل لم يكن الإنسان القديم يتعامل بالمادة أو بالمقايضة، ولم يشهد الإنسان قيام علاقات كهذه إلا في زمن متأخر؛ ومن الممكن أن يقصد البعض هنا "المرحلة الهيتيرية"، أي المرحلة التي شهدت علاقات جنسية مفتوحة بين الرجل والأنثى دون تعيين؛ ودون أن تخضع لأي أجر؛ وكانت عفوية ولم يحكمها نظام الحلال والحرام والعفة والطهارة؛ أو أي منظومة أخلاقية، بل كان الإنسان يعبر عن طبيعته الإنسانية ولو في مستواها الغريزي بكل بساطة؛ ولم تكن تلك العلاقات المفتوحة تحتاج إلى التعقيدات والحواجز التي يمر بها الإنسان الحالي اليوم.
لا أريد هنا البحث في تاريخ الدعارة وأسباب بيع الجسد تاريخياً؛ بل أريد أن أُخاطب الناس في المجتمع أجمعين، وبخاصةٍ ذوي النظرة الآنيَة وأصحاب الأحكام الجائرة، فمجتمعنا يصنف العاهرة "بأنها روح الشيطان على الأرض" وكثيراً – للأسف - ما يتم تصنيف العاهرة وبشكل مريب وخطير بناءً على اصطفافات دينية ومذهبية وعشائرية؛ ونحن - ما شاء الله - قوم رزين ومنفتح نُسمع أطفالنا توصيفاتنا واجتهاداتنا وشرحنا وتعليقاتنا على العاهرات ونثبت قسراً في الطفل ذاكرة مكتسبة غبية قاصرة عن فهم حقيقة الموضوع ومنشئه وخصوصيته الإنسانية؛ فمن جهة نزرع إسفيناً خطيراً في مفهوم الوحدة الوطنية الذي يجب أن نحافظ على بنائه متماسكاً كأبناء وطن واحد؛ وذلك من خلال اتهام بعض الطوائف "بتخصصها بالعهر"، متناسين عمداً أن لكل مجتمع على هذه الأرض صيغاً متشابهة وظروفاً تولد حالات كهذه، وأنه لا يوجد مجتمع أو طائفة أو إثنية أو مذهب يخلو من العاهرات، مع الإشارة هنا إلى التغييب المتعمد دائماً للشريك الآخر" العاهر"، الذي يسبق في وجوده العاهرة، ويصنعها، ويتوق إليها، ويدفع لها، ولو على حساب قوت أطفاله، ليأخذ منها ما لا تستطيع امرأته أو زوجته أن تمنحه إياه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فنحن لا نحترم قدسية وجود الإنسان وحريته؛ والأهم من ذلك عدم احترام تاريخ من تبيع جسدها كحالة خاصة والعمل على معالجة الأسباب الكامنة وراءها.
إن اللغة التي تحكم الخطاب الجمعي في النظر إلى العاهرة تجعلنا نشعر بأن تلك الإنسانة قد ولِدت خارج أرضنا وبيئتنا وأنها ليست من قلب مجتمعنا وراسخة في جذوره؛ والغريب أن الكثيرين ممن يضاجعون العاهرات يصفونهن بأرذل الصفات، ويشتمونهن بأقسى الشتائم؛ معتبرين أن مصيرهن في جهنم، وأنهن في نارها خالدات؛ وكأن الرجال ليسوا مخطئين أو آثمين، إذا كانت "ممارسة الجنس إثماً"، وأقول إنهم حتماً أكثر شذوذاً وسفاهةً بما لا يقاس، فـ "عملها" هذا كعاهرة قد نُمِّط "بكسر حاجز الجسد" نتيجة ظروفها وواقعها الذي يحكمها؛ أما هم فكتلة من الغرائز المكبوتة، أجسام حيوانات لا أجساد بشر؛ فجسد الإنسان محكوم بعقلنة الغرائز وأخلاقياتها منذ نشوء المجتمعات المتحضرة الأولى في العالم، أما جسم الحيوان فمحكوم بنداء الغرائز دون التحكم بها وعقلنتها. ولنسأل أنفسنا لماذا تلجأ فتاة في ربيع شبابها لبيع جسدها وجذب الرجال إليها بإشارة من إصبعها، أفكَتب اللهُ لها أن تولد عاهرة؟، أحِكمتهُ تدخلت لإفراغ كبت رجالنا بها؟ أمَا هي وليدة ظروف معينة بنوعها؟، والأجوبة الحقيقية كثيرة ولا يمكن تحديدها، فالوضع الاقتصادي المتدهور، والفقر المدقع لبعض العائلات المترافق مع عدم الوعي الجمعي والتماسك الاجتماعي وسطوة الفكر الاستهلاكي وضغط الكبت الجسدي والتخلف الثقافي والفساد المؤسساتي - وبخاصةٍ في مجال الاقتصاد والرعاية الأسروية - كل هذه الأسباب وأكثر منها يمكن أن تأخذ دور الأب الروحي لولادة العاهرات؛ والمرأة في الوطن العربي لم تتخلص من المفهوم المفروض عليها كـ" سلعة " فهل من الممكن أن يشرح لي أحد ما هو مفهوم المهر، إذا لم يكن إلا مفهوم بيع وشراء؟ أليس "القانون المدني" بما يحمله من مساواة حقوقية بين الطرفين أكثر ضماناً للمرأة من مفهوم المهر الذي رسخ في الذاكرة المكتسبة تسليع المرأة، ولو لم يقصد المنظور الديني ذلك الاتجاه في الباطن أو الظاهر؟! هل من الممكن أن يشرح لي أحد مفهوم صدمة اختفاء غشاء البكارة والذي يقود بذهابه العديد من الضحايا إلى المضي قدماً نحو عمق العهر الجسدي خوفاً من المقصلة الاجتماعية والعقاب الديني؟ هل من الممكن أن يشرح لي أحد كيف يتم تطويع المرأة من قِبلِ الزوج بجعلها عاهرة وراقصة دون وجود قانون يحميها أو مؤسسة ترعى شؤونها وتوصلها إلى بر الأمان بسبب التعقيدات الاجتماعية والدينية والقانونية؟؛ هل من الممكن أن يشرح لي أحد كيف من الممكن أن نُقنع عاهرة يزيد دخلها الشهري عن دخل 10 أساتذة جامعات بأن تترك عملها وتعود إلى الصراط المستقيم، ونؤمن لها عملاً يكفيها لتعيش مرفهة؟.
إن الإرث الديني بما يحمله من كبت، والعوز في ثقافة الجسد يولدان الكثير من الضحايا المكبوتين والمتقوقعين أمام الذات، ويجعلهم آليات تفريغ أمام أية نزوة، تؤدي إلى نتائج كارثية غير مضبوطة، وتوصل إلى العهر بسبب الجهل، فالوضع الاقتصادي السيئ داخل المجتمع الاستهلاكي يضخم شهوة الإنسان وثقافته الاستهلاكية؛ وينتج ضحايا تبيع كل شيء لتتناغم مع ثقافة العصر التي تتسم بالاستهلاك الرخيص، وبخاصةٍ في عالم أصبحت فيه القيم شيئية أكثر منها أخلاقية، والفساد السياسي ومحاصرة الأحزاب ألا يولدان فِكراً رجعياً فارغاً يجعل الانقياد فقط نحو الملذات والظاهريات، ويُنمط الإنسان بفكر ضحل غرائزي فارغ ساذج مبتعد كل البعد عن القيم الأخلاقية والاجتماعية والفكرية ويجعل ثقافة الشارع بكل موبقاتها صرحاً ينجذب نحوه شبابنا بسبب ابتعادهم عن المفاهيم الجمعية والأخلاقية، لا سيما مفهوم المسؤولية الفردية أمام المجتمع التي يولدها المجتمع الحزبي والكينونة الحزبية، ألا يولد التخلف والفساد الاقتصادي والبطالة المخيفة مجتمعاً مشوهاً لا إنتاج فيه، ويطرح الاستهلاك كأسلوب في الحياة، بدلاً من علاقات إنتاج طبيعية، فيضيع العقل أمام شهوة الغرائز وثقافة الاستهلاك الضحلة، ثقافة الحصار البنيوي للمجتمع نتيجة الموروث الديني والقبلية التي لم تبتعد عنها كما ينبغي المجتمعات العربية، والتي تبعد الشاب عن الفتاة للحفاظ على مفاهيم القبيلة العربية بتاريخها الأسود تحت ما يسمى الـ"عرض وشرف البنت"؛ ألا تساهم هذه الموروثات في خلق فتيات وشبان منقادين نحو اللذة بشكل لا يحترم الطبيعة الإنسانية، ويزيد ركام الضحايا الفاقدي الشخصية أمام غرائزهم واحتياجاتهم الطبيعية والاجتماعية.
هذه الأسباب كلها تؤدي إلى وجود العاهرة، ولن أقول:" الإنسان كائن يولد أخلاقياً"، بل سأقول وبكل بساطة: "لا شيء يأتي من العدم، والكم تحول إلى كيف محدد.".
يجب ألا نظلم العاهرات بتوصيفهن بـ "إماء الشيطان"، و"بناته على الأرض"، كما وصفتهن الكنيسة عند إعدامهن في القرن الخامس عشر، إن وجودهن حتمي بنتيجة التفاوت الاقتصادي والحاجة الاجتماعية المترافقة مع التخلف العقلي والفكري لشعوبنا ومؤسساتنا المعتمدة بكافة أشكالها ومضامينها من التعليم إلى الاقتصاد. وكم يلفتني الشاعر رامبو في إحدى قصائده - إبان مرحلة انتهاء كومونة باريس- إذ يقول في أحد مقاطع "قصيدته الخلاعة الباريسية أو باريس تُأهَلُ من جديد":
خبئوا القصور الميتة في هياكل خشبية!
النهارُ القديمُ الذاهلُ يندٌي نظراتكم.
هوذا يقبل القطيعُ الأصهبُ قطيعُ مؤرجحات الوركين:
كونوا مجانين تكونوا ظرفاء،إذ أنتم ذاهلون!
كُتبت هذه القصيدة بعد انتهاء مرحلة ثورة كومونة باريس التي قامت من قِبل العمال والشعب عموماً في فرنسا على الطبقات البرجوازية والارستقراطية؛ ومؤرجحات الوركين هن بائعات الهوى اللائي عاودن الظهور مع عودة الحياة الطبيعية للأرستقراطية*؛ وهنا يظهر بشكل جلي أن انهيار الطبقة المسيطرة والمستغلة والظالمة، وعودة حق الإنسان في العمل والأجر المناسب في أوقات مناسبة أدى إلى اختفاء الدعارة في فرنسا.
إن المساواة أو بعضاً منها يكون سبباً للابتعاد عن الدعارة وعن وجود العاهرات، ولو اختلف المشهد كثيراً مابين القرن الثامن عشر والقرن الحادي والعشرين، فمن المؤكد أن أسباب الدعارة قد اختلفت؛ ولكن الحالة الاقتصادية تبقى العلة الفاعلة في نشوء الدعارة في أوطاننا العربية. ومما يزيدنا ألماً في وجودنا كبشر أننا نرى الضحية ونحاكمها بغباء على النتائج بدلاً من الأسباب، إن ما يدفعه فحولنا من أباطرة المال والمترفين من أبناء الخليج للعاهرات يولد عاهرات موسميات ينتظرن زياراتهم المشرِّفة إلينا من أرضهم أرض الطهارة والعزة، والأسوأ من ذلك استغلال مرونة الفكر الإسلامي ومعطفه الفضفاض ليمررون من بين ثناياه بعض الزيجات التي لا تختلف عن الدعارة في شيء، والتي تحول الأب والأم إلى قوادين حقيقيين بقناع خفي يمثل المحبة والمصلحة التي يرجوانها لابنتهما.
في النهاية أقول: "إن لكل عاهرة عاهرها"، وإن جسدها لم يفقد قدسيته لأنها عاهرة، فهي كالقديسين، إن كانوا قد ضحوا بأجسادهم من أجل خلاص الإنسان، فالعاهرة قد جنت بجسدها ما لم يمنحها أحد إياه، فربحت شرطها الوجودي، في أن تحيا كما تريد وتشتهي، وتحقق ما لا يستطيعه الآخرون دون منةٍ أو مساعدة من أحد، لقد ربحت معركتها، وخسر كل من يراها عاهرة.


--------------------------
نوار جبور