نص كتبه أدوار سعيد قبل رحيله .. وإنني إذْ أعيد نشره هنا، فذلك لأنه توفّر على خلاصة ميسرة لأهتماماته المتنوعة وموقفه الانساني من القضايا الشائكة والمتداخلة لعالمنا المعاصر. جمع صاحب “الاستشراق” في سيرته الفكرية المعرفة الموسوعية مع النقد الجذري للخطاب الاستعماري. الالتزام الاخلاقي الصارم مع ذاكرة الفلسطيني المنفي خارج المكان، والرؤية العالمية للتاريخ مع حسّاسية عالية للخصوصيات والتمايزات الثقافية. ذلك ما أهّل أدوار سعيد لأن يكون من صنف المفكرين النادرين في عصرنا، وما جعل من غيابه خسارة حقيقية يصعب تعويضها.



تمهيد جديد لكتاب الاستشراق

أدوار سعيد



قبل تسع سنوات ألحقت بكتابي "الاستشراق" خاتمة جديدة حاولت فيها توضيح ما قلته وما لم اقله في ذلك العمل، مركزاً ليس فقط على المناقشات الكثيرة التي آثارها منذ صدوره في 1978، بل أيضا كيف أن هذا العمل الذي يدور على تصورات المستشرقين لـ"الشرق" آثار تفسيرات وتصورات متزايدة الشطط للموضوع. لكنني اليوم لا أجد في هذا مدعاة للغضب، بقدر ما أجد بعض الآسف للمفارقة الساخرة التي ينطوي عليها الموقف. السبب ربما يتعلق بتقدم السن، وأيضا فقداني في الآونة الأخيرة صديقي ومرشدي على صعيدي الثقافة والسياسة، إقبال احمد وإبراهيم أبو لغد، والحزن تبعا لذلك، ولكن أيضا التصبر والتصميم على الاستمرار.

في مذكراتي "خارج المكان" (1999) وصفت نشأتي في عوالم غريبة في تناقضها، مقدما لنفسي وقرائي صورة مفصلة عن تكوين شخصيتي في فلسطين ومصر ولبنان، لكنها كانت سيرة شخصية تركت جانبا السنين الطويلة من حياتي السياسية بدءاً من 1967.

أما "الاستشراق" فقد كان وثيق الارتباط بتاريخنا العاصف في العقود الأخيرة، الذي يبدو انه يمتد إلى ما لا نهاية. وتبدأ الصفحة الأولى من الكتاب بوصف للحرب الأهلية اللبنانية في 1975 التي تواصلت إلى 1990، لكن العنف وسفك الدماء يستمران إلى هذه اللحظة. ثم شهدنا فشل عملية أوسلو وانطلاق الانتفاضة الثانية، وعذاب الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة واعادة احتلالهما من قبل إسرائيل. ثم ظاهرة التفجيرات الانتحارية والخراب الرهيب الذي أحدثته، وصولا إلى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 البشعة، والحرب على أفغانستان والعراق بنتيجتها. وها أنا اكتب هذه السطور مع استمرار الاحتلال الإمبريالي اللا شرعي للعراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، الذي قد يتناهى إلى كوارث تصعب على التصور.

أن هناك من يرى في كل هذا مظاهر صدام دائم لاحل له بين الحضارات. لكنني لا اعتقد ذلك.

كان بودي القول أن في الولايات المتحدة ألان فهما افضل للشرق الأوسط والعرب والمسلمين، لكن المؤسف أن الأمر ليس كذلك. الوضع في أوروبا يبدو افضل، ولاسباب عديدة. ألا أن الموقف في أميركا يستمر على التحجر وتزايد انتشار التعميمات المهنية والكليشهات الانتصارية ضد الآخر، سواء كان الأجنبي عموما أو المعارض الداخلي. ولعل السماح بنهب وإحراق المتاحف والمكتبات في بغداد كان "المعادل الموضوعي" الأوضح لهذه الروحية. أن ما لا يستطيع قادتنا فهمه، كما يبدو، هو استحالة إزالة التاريخ أو مسحه مثل مسح السبورة لكي نستطيع بعد ذلك تسطير المستقبل الذي نريد عليها وفرض أنماط حياتنا على بشر نعتبرهم اقل قيمة. ونسمع دوما من كبار المسؤولين في واشنطن وغيرها عن تغيير خريطة الشرق الأوسط، وكأن المجتمعات القديمة هناك وكل ما فيها من البشر مجرد قطع من الحجارة يمكن رصفها بهذا الشكل أو ذاك حسب ما نريد. لقد حصل هذا أحيانا كثيرة لما يسمونه "الشرق" ذلك الكيان المصطنع فكريا في شكل شبه أسطوري، الذي أعاد الغرب تشكيله مراراً كما يحلو له منذ غزو نابليون لمصر أواخر القرن الثامن عشر. وتم كل مرة في تلك العملية إغفال أو جرف ذلك التنوع اللا متناهي في تواريخ المنطقة وثقافاتها ولغاتها، لكي يغدو كل منها شظايا متناثرة لا معنى لها، مثل بقايا من كنوز تاريخ العراق التي هربت من بغداد. ما أقوله أن التاريخ من صنع الرجال والنساء أنفسهم، مثلما يمكن إعادة صنعه أو إعادة كتابته لكي يصبح الشرق "شرقنا"، أي ملكنا الذي يمكننا التصرف به كما نريد. ولا بد من النظر بإعجاب إلى طاقات ومواهب شعوب المنطقة في كفاحها لتحقيق هويتها وما تريده لمستقبلها. لقد شهدت المجتمعات العربية والمسلمة هجوما ضاريا عليها بحجة تأخرها وافتقارها إلى الديموقراطية وإلغائها حقوق المرأة، إلى درجة جعلتنا ننسى أن مفاهيم مثل الحداثة والاستنارة والديموقراطية ليست بالأفكار البسيطة المتفق عليها مسبقاً، مثل شيء يمكن القول فوراً بوجوده أو عدم وجوده في هذا المكان أو ذاك. لكن ما نسمعه في كل مكان هو ذلك الاستخفاف المذهل من قبل تلك المجموعة العجيبة من المتكلمين باسم السياسة الخارجية الأميركية، الذين يصورون الشرق الأوسط وكأنه حيز فارغ يمكن فيه لأميركا خلق "ديموقراطية مصطنعة وسوق حرة مصطنعة". كلا، لاحاجة إلى معرفة العربية أو الفارسية أو حتى الفرنسية لكي تتشدق عن حاجة العالم العربي إلى الديموقراطية وكيف أن أقامتها في العراق سيعني انتشارها فورا إلى بقية الدول العربية حسب نظرية أحجار الدومينو.

لكن هناك فرقا بين معرفة الشعوب الأخرى والتواريخ تقوم على الفهم والتعاطف والدراسة المعتنية المقصودة لذاتها، والمعرفة التي تأتي جزءا من حملة شاملة تهدف إلى إثبات الذات. فهناك في التحليل النهائي تباين عميق بين إرادة الفهم خدمة للتعايش وتوسيع الأفق، وارادته وسيلة للسيطرة. والمؤكد أن من بين الكوارث الفكرية في التاريخ ما نراه ألان من حرب إمبريالية مدمرة افتعلتها مجموعة صغيرة من المسؤولين الأميركيين غير المنتخبين ضد بلد من العالم الثالث يعاني أصلا من الديكتاتورية والدمار، وذلك على أساس أيديولوجي يتلخص بالسيطرة على العالم وموارده. وقد نجح هؤلاء في تمويه غايتهم هذه بفضل التبرير والدعم الذي لاقوه من مستشرقين خانوا أمانتهم العلمية.

التأثير الرئيسي على البنتاغون ومجلس الأمن القومي يأتي من أشخاص مثل برنا رد لويس وفؤاد عجمي، الخبيرين بالعالمين العربي والإسلامي اللذين قدما للصقور اختلاقات فكرية شنيعة مثل "عقلية العرب" وتراجع الحضارة الإسلامية المستمر منذ قرون، الذي لادواء له سوى أميركا وقوتها. ونجد المكتبات التجارية في أميركا اليوم مليئة بمؤلفات مهلهلة بعناوين صارخة على الإسلام والإرهاب، أو "فضح الإسلام، والخطر العربي أو الإسلامي أو الاثنين معا، وكلها من تأليف معلقين مغرضين يستقون معرفتهم من "خبراء" يفترض انهم توصلوا إلى فهم أعماق تلك الشعوب "الشرقية" الغربية الطبائع. إضافة إلى ذلك هناك تلك الجوقة الإعلامية الكبرى، من تلفزيون "فوكس" و "سي أن أن إلى ما لا حصر له من الإذاعات التبشيرية واليمينية والصحف الشعبية وحتى المجلات الارقى نسبياً، وكلها تعيد وتكرر تلك التراهات والتعميمات الفارغة لإثارة الأميركيين ضد "الشياطين الأجانب.

ولولا هذه الحملة المنظمة ضد أولئك الناس الذين لا يشابهوننا ولا يقدرون "قيمنا" -الحملة التي تلخص جوهر التقليد الاستشراقي-لما كانت هذه الحرب. وهكذا فان المستشارين الأميركيين للبيت الأبيض والبنتاغون ينتمون إلى النوعية نفسها التي جاء منها الباحثون المأجورون الذين جيشتهم قوى الاستعمار الهولندي في ماليزيا وإندونيسيا، والجيوش البريطانية التي غزت الهند ومصر والعراق وغرب أفريقيا، والفرنسية التي استولت على الهند الصينية وشمال أفريقيا. ويستعمل الخبراء الأميركيون الكليشهات والتنميطات نفسها التي قدمها سابقوهم، والتبريرات نفسها لاستعمال القوة ضد تلك الشعوب (لأنها بالتالي"لاتفهم سوى لغة القوة" كما تؤكد معزوفتهم من قديم الزمان). وقد انضم إلى هذه الجوقة في العراق جيش جرار من أصحاب الأعمال الساعين إلى المتاجرة والعقود، والخبراء الذين سيعيدون صياغة حياة العراق السياسية والثقافية، من كتابة النصوص المدرسية المقررة إلى تدوين الدستور، وبالطبع أيضا سياسته النفطية.

يعلمنا التاريخ أن كل إمبراطورية تدعي أنها ليست كمثيلاتها، وأنها تنفرد عنها بغاياتها النبيلة في إيصال رسالة الحضارة والتنوير وإشاعة الديموقراطية، وأنها لاتستعمل القوة ألا بوصفها الخيار الأخير. والمؤسف أن هناك دوما الكثيرين من المثقفين المستعدين للإدلاء بشهاداتهم عن حسنات الإمبريالية ونكرانها لذاتها في مساعيها هذه.

بعد 25 سنة على صدور "الاستشراق" يعود السؤال عما إذا كان عصرنا الحديث قد شهد نهاية الإمبريالية، أم أنها مستمرة في الشرق منذ غزو نابليون لمصر قبل قرنين. وقد قيل للعرب والمسلمين دوما آن نفسية الضحية والتركيز على مساوئ الإمبريالية يشكل نوعا من التهرب من المسؤولية عن أوضاعهم الحالية. أنها مقولة المستشرقين الدائمة: "لقد فشلتم. لقد أضعتم طريقكم". وهذه بالطبع هي مساهمة في. أس. نايبول في مجال الأدب: ضحايا الإمبريالية يكتفون بالبكاء والعويل فيما تصل الأوضاع في بلادهم إلى الحضيض. لكن يالسطحية هذا الموقف، الذي لا يريد مواجهة تواصل تأثيرات الإمبريالية عبر السنين على حياة أناس مثل الفلسطينيين أو الكنغوليين أو الجزائريين أو العراقيين. لننظر إلى الخط الذي بدأ باحتلال نابليون لمصر واستمر بظهور علم الاستشراق، ثم الاستحواذ على شمال أفريقيا، وتواصل مع المشاريع الاستعمارية في فيتنام ومصر وفلسطين، ثم مع الصراع على النفط والسيطرة الاستراتيجية في الخليج والعراق وسورية وفلسطين وأفغانستان. لننظر أيضا إلى تصاعد الحركات القومية المناهضة للإمبريالية، وبعدها مرحلة التحرر القصيرة ثم مرحلة الانقلابات العسكرية والثورات والحروب الأهلية والتعصب الديني والردود اللا عقلانية على تحديات العصر، وفي المقابل الهجمات التي لاتعرف الرحمة على أجيال جديدة من "السكان المحليين". وكل من هذه المراحل ينتج معرفته المشوهة بالأخر، والتنميط التبسيطي المهين له، والحجج السياسية المتحذلقة ضده.

فكرتي في "الاستشراق" كانت استعمال النقد المستمد من التوجه الإنساني لفتح مجالات جديدة للصراع وتقديم سياق متواصل من التفكير والتحليل، بدلا من ردود الفعل الآنية الغاضبة التي تقيد تفكيرنا. وقد أطلقت صفة "الإنسانية على هذا التوجه، واواصل استعمالها بعناد بالرغم من استهجانها من قبل الناقدين آلما بعد حداثيين. اقصد ب"الانسانية" في الدرجة الأولى كل محاولات فك ما وصفه الشاعر الإنكليزي وليام بليك بـ "الأغلال التي يصنعها الذهن" للتمكن من استعمال العقل في شكل تاريخي عقلاني، وصولا إلى فهم تأملي. إضافة إلى ذلك فان النظرة الإنسانية هذه تتغذى من حسها الجمعي المتمثل بارتباطها بالباحثين الآخرين والمجتمعات والمراحل التاريخية الأخرى-بحيث لايمكن القول أن هناك باحثا إنسانيا منعزلا.

مؤدى القول أن كلا من المجالات والظواهر مرتبط بالبقية كلها، وان ما من شيء في عالمنا معزول عن التأثيرات الخارجية. وان علينا الكلام عن قضايا مثل الظلم والمعاناة بعد وضعها بدقة في سياقها التاريخي والثقافي والاجتماعي-الاقتصادي. دورنا إذا هو توسيع حقل النقاش. وقد قضيت الكثير من حياتي في السنين الـ35 الأخيرة في الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، لكنني حرصت على القيام بذلك مترافقاً مع كامل الانتباه إلى واقع الشعب اليهودي وما عاناه من الاضطهاد ومحاولات الإبادة. ويعني هذا أن الاعتبار الأهم هو توجيه الكفاح من اجل المساواة في فلسطين/ إسرائيل نحو هدف آنساني، أي التعايش وليس القمع أو الإنكار. ولم يكن من قبيل الصدفة إشارتي إلى الجذر المشترك بين الاستشراق واللا سامية. ويبدو لي تبعا لذلك أن من الضروري للمثقفين المستقلين أن يقدموا دوما نماذج بديلة من النماذج التبسيطية المقيدة القائمة على العداء المتبادل السائد منذ زمن طويل في الشرق الأوسط وغيره.

لابد من الإشارة في هذا المجال إلى أنني، كباحث آنساني التوجه، تلقيت تعليمي قبل 40 سنة في حقل الأدب المقارن، الذي تعود أفكاره الرئيسية إلى ألمانيا أواخر القرن الثامن عشر واوائل التاسع عشر. وكانت هناك قبل ذلك المساهمة العظيمة من الإيطالي جيامباتيستا فيكو، الذي استبقت أفكاره مواقف غوته وهمبولت ودلتاي ونيشته وغادامر وغيرهم من المفكرين الالمان-ثم كوكبة فيلولوجيي لغات الرومانس في القرن العشرين التي تضم اريش آورباخ وليو سبتزر وارنست رو برت كوتيوس.

فكرة الفيولوجيا بذاتها تثير لدى الأجيال الشابة انطباعا عن علم منكفئ على ذاته لا يعرف غير الكتب الصفراء المكسوة بالغبار. لكن الفيلولوجيا هي فن الفهم الأعمق والأكثر إبداعا للتاريخ والحضارات. ولعل افضل تجسيد له بالنسبة لي اهتمام غوته بالإسلام عموما وبحافظ الشيرازي خصوصا، ذلك الولع العميق الذي أدى إلى كتابة "ديوان الشرق والغرب"، ثم إلى فكرته عن "أدب العالم"، أي دراسة آداب الأمم في وحدة سيمفونية تحفظ خصوصيات كل منها ضمن المنظور الجمعي. هناك مفارقة كبيرة عندما نرى أن العولمة اليوم، في عملها على توحيد الكل بأشكال تحدثت عنها سابقا، تقترب في شكل متزايد من ذلك النوع من الرتابة والتجانس الفكريين اللذين تقصد غوته مقاومته. وقد أكد اريش آورباخ على هذه النقطة في مقال بعنوان "فيلولوجيا الأدب العلمي" نشره في 1951، أي مطلع الحرب الباردة. وكان آورباخ نشر كتابه العظيم "مايميسس" في 1946 في بيرن، بعدما ألفه أثناء لجوئه إلى اسطنبول أبان الحرب الثانية حيث عمل أستاذا للغات الرومانس. وكان هدفه من الكتاب وصف تنوع وحيوية تمثلات الأدب الغربي، من هيوميروس إلى فرجينيا وولف، للواقع المتعين. لكن قراءة مقالته في 1951 توحي بان الكتاب كان مرثية لحقبة اتسم الباحثون فيها بالقدرة على تفسير النصوص عن طريق الفيلولوجيا، بكل ما تتطلبه من التمعن في النصوص والوقائع والحساسية وقوة الحدس وسعة المعرفة والتمكن القوي من عدد من اللغات، لدعم ذلك النوع من الفهم الذي دعا أليه غوته في مقاربته للأدب الإسلامي.

المعرفة الوثيقة بالتاريخ واللغات ضرورية بالطبع، لكنها لا تكفي، مثلما لا يكفي تكديس كل ما أمكن من المعلومات للتوصل، مثلا، إلى مقاصد شاعر مثل دانتي. ذلك إن الشرط الرئيسي للفهم الفيلولوجي الذي تحدث عنه وحاول ممارسته آورباخ وسابقوه هو محاولة الدخول على النص المكتوب بتفهم وتعاطف ذاتي، ومن منظور المؤلف وزمنه. أي أن الفيلولوجيا في تطبيقها على آداب العالم لاتقوم على التباعد والعداء للزمن الأخر والحضارة الأخرى بل على روحية إنسانية تعتمد ما يمكن وصفه بأنه الكرم أو حسن الضيافة-بمعنى أن ذهن القائم بالتفسير يعمل على فسح مكان لذلك "الآخر". وهذا الفسح الخلاق لاعمال تبقى دون ذلك غريبة وبعيدة هو الصفة الأهم لمهمة المفسر.

كل هذا بالطبع تعرض للتخريب والدمار في ألمانيا النازية. ولاحظ أورباخ بعد الحرب بأسف الرتابة المتزايدة متلازما مع التخصص المتزايد في حقول البحث، وهو ما قلص من إمكانات القيام بذلك العمل الفيلولوجي كما جسده آورباخ،بحرصه على التدقيق مترافقا مع الانفتاح الذهني المطلق. والمحزن اكثر إن الفترة التي تلت موته في 1975 شهدت المزيد من التراجع على صعيد الفكر والممارسة، وفقدان البحوث الإنسانية لموقعها الريادي السابق. وها نحن نجد طلابنا اليوم، بدل قراءة النصوص بالمعنى الحقيقي للقراءة، ينشغلون بنتف من المعلومات المأخوذة عن الإنترنت أو وسائل الأعلام. الأسوأ من ذلك أن التعليم يلقى تهديدا من بعض القوى القومية والدينية المحافظة التي تتناقل وسائل الأعلام أفكارها في شكل لا تاريخي يركز على عنصر الإثارة. ولعل من بين أسوا الأمثلة أسلوب تغطية الحرب، التي تصور وكأنها نوع من الألعاب الإلكترونية أو "الضربات الجراحية" التي لاتسبب خسائر بشرية تذكر، وتطمس بذلك حقيقة الحروب الحديثة وما فيها من الهول والدمار. وهناك أيضا بالطبع الدور الأساسي الذي يلعبه الأعلام في إدامة قلق وغضب المشاهدين عن طريق التركيز على "شيطانية" ذلك العدو الغامض الذي لا نعرف عنه سوى انه "إرهابي". وقد أمكن استغلال ذلك بسهولة خصوصا في الأجواء التي خلقتها أحداث 11/9.

أن علي، كأميركي وعربي، أن اطلب من القارئ أن لا يستخف بفاعلية تلك النظرة التبسيطية إلى العالم من قبل حفنة من كبار المسؤولين المدنيين في البنتاغون، التي صاغوا على أساسها سياسة الولايات المتحدة إزاء العالمين العربي والإسلامي. أنها نظرة مدعومة بأضخم موازنة عسكرية في التاريخ، تدور على أفكار مثل الإرهاب والحرب الوقائية وتغيير النظام، وتتناولها وسائل الأعلام "وخبراؤها" -المجمعون دوما على تبرير الخط الرسمي-من خلال نقاشات لانهاية لها تزيد من فجاجة تلك الطروحات الفجة أصلا. هكذا حلت محل الفكر التاملي والنقاش العقلاني والمبدأ الأخلاقي القائل بان على البشر صنع تاريخهم بأنفسهم تلك الأفكار المجردة التي تحتفي التي بفرادة أميركا أو الغرب عموما، ولا تعطي أهمية للسياقات التاريخية وتنظر باحتقار إلى الثقافات الأخرى.

ربما وجد البعض في موقفي تنقلات حادة بين التفسر الإنساني من جهة والسياسة الخارجية من الثانية، وان حضارة تكنولوجية لا سابق لها من حيث القوة، وتمتلك إضافة إلى ذلك الإنترنت ومقاتلات "أف 16" تحتاج إلى قيادة خبراء بالسياسات التكنولوجية مثل دونا لد رامسفيلد وريتشارد بيرل. لكن ما يضع في هذا هو التشابك الكثيف والاعتماد المتبادل في الحياة الإنسانية، الذي لايمكن اختزاله إلى معادلة أو إغفاله بدعوى عدم أهميته.

هذا جانب واحد من جوانب النقاش في إنحاء العالم. وإذا نظرنا إلى العالم العربي والإسلامي نجد أن الوضع لا يختلف كثيراً. وكما لاحظت الباحثة رلى خلف فان المنطقة شهدت انزلاقا سهلا إلى عداء لأميركا لاينم عن فهم يذكر لمجتمعها. ولما كانت الحكومات عاجزة عن التأثير على سياسات أميركا نحوها فهي تحول جهودها إلى قمع شعوبها، وما يؤدي له ذلك من الضغائن والغضب والعجز وما شابه من السلبيات التي لا تساعد على انفتاح المجتمعات. وهكذا نجد مجتمعات تتغلب فيها مشاعر والإحباط على الأفكار العلمانية حول الإنسانية والتاريخ والنمو، ويتزايد فيها التعليم الديني القائم على التلقين والحفظ عن غيب ورفض كل أنماط المعرفة العلمانية باعتبارها من صنع "الآخر". وكان الاضمحلال التدريجي للتقليد الإسلامي العظيم المتمثل بالاجتهاد من بين الكوارث التاريخية الرئيسية في زمننا، وتراجع معه التفكير الانتقادي والتناول الجاهد لعالمنا ومشاكله.

لايعني هذا أن العالم انقسم ثقافيا إلى استشراق جديد عدائي من جهة ورفض شمولي من الثانية. وبالرغم من نواقصها فقد كشفت القمة العالمية التي عقدتها الأمم المتحدة في جوهانسبورغ السنة الماضية عن اهتمامات مشتركة كبرى توحى ببروز رأي عام عالمي جديد يعطي وزنا جديدا لتلك المقولة التبسيطية المعهودة عن "عالم واحد". لكن علينا أن نعترف أيضا أن من المستحيل الإحاطة بكل اوجه الوحدة البالغة التعقيد لعالمنا المعلوم، حيث يسود الاعتماد المتبادل بين الأجزاء إلى درجة لاتسمح لأي منه بفرصة الانعزال.

أن من الضروري تحدي الضغوط والصراعات الكبرى التي تعمل على تقسيم البشر في شكل زائف إلى وحدات كبرى تحت عناوين مثل "أمريكا" أو "الغرب" أو "الإسلام" لكل منها هويته الشمولية التي تطمس التباينات الكبيرة بين الأفراد. ولا يزال في حوزتنا من اجل ذلك المهارات التفسيرية العقلانية التي خلقها التعليم القائم على مبدأ الإنسانية، التي لايعني التزامها مجرد الحنين إلى القيم الكلاسيكية بل الممارسة الناشطة للخطاب العلماني العقلاني اللصيق بعالمنا. العالم العلماني هو عالم التاريخ كما يصنعه البشر أنفسهم. الفكر الانتقادي هو ما يرفض الانضمام إلى الصفوف المرتصة ضد من يتفق على تسميته "العدو". وعلينا بدل الآخذ بمقولة مصطنعة مثل "صِدامْ حضارات" التركيز على التفاعل التاريخي البطيء بين الحضارات، بكل ما بينها من التشابهات والاستعارات المتبادلة والتعايش، تلك العناصر الأهم بكثير مما تعترف به النظريات التبسيطية المزيفة. لكن القيام بهذه المهمة التفسيرية الواسعة يحتاج إلى الكثير من الوقت والتقصي الانتقادي الصبور، في زمن يلح على الأفعال وردود الأفعال الفورية.

الموقف الإنساني يدور على الإنسان في فرديته وحدسه الذاتي، وليس على الأفكار والمرجعات المفروضة مسبقا. والواجب قراءة النصوص أنتجت واستمرت في الحيز التاريخي، حيزنا الأرضي. لكن هذا لا يستثنى اعتبارات القوة، بل أنني ، بالعكس، حاولت إبراز تسلل وتداخل اعتبارات القوة، إلى حتى أكثر مجالات البحث عمقا وبعدا عن الاهتمامات المباشرة.

أخيرا، وهو الأهم، التوجه الإنساني هو خط المقاومة الوحيد، بل الأخير، لنا ضد الممارسات اللاإنسانية والمظالم التي تشوه التاريخ.ولا شك أن ما يدعمنا اليوم هو عالم الإنترنت الديمقراطي المفتوح لكل المستعملين، في شكل لم تحلم به من قبل أجيال الطغاة أو المتزمتين. ولولا هذا العالم لم تكن هناك الموجة الكبرى من الاحتجاج على الحرب على العراق من قبل تلك المجاميع البديلة في كل مكان، التي تركز على حقوق الإنسان والبيئة وقضايا التحرر عموما، واعتمدت من اجل المعلومات والاتصال على هذه الوسيلة الحديثة.