الإبداع بين المحلية والعالمية



يعتبر إرنست كاسيرر الإنسان بمثابة حيوان رامز ، ويعني ذلك أنه ينتج أشكالا من نظم التعبير الرمزي تتنوع وتختلف بتنوع أساليب وأنماط التفكير التي ينهجها الإنسان، وفي هذا الإتجاه يمكن الحديث عن أنماط من الخطاب كالخطاب العلمي ،والخطاب الفلسفي ، والخطاب الفني... وهلم جرا. وإذا كانت أنماط الخطاب محكومة بقواعد وشروط المجتمع والتاريخ ، فمعنى ذلك في النهاية أن الخطاب الفني والقعل الإبداعي عموما ليس مقصورا على شعب دون آخر، بل هو في المحصلة ظاهرة إنسانية بامتياز، بل هناك من يقيس درجة تقدم الأمم والشعوب بمقدار تشبعها بالفن وإنتاجها له وتشجيعها للإبداع ودعمه. وبالنظر إلى تعدد المجتمعات واختلافها ، فإن أشكال وتجليات الخطاب الفني والإبداعي هي بالضرورة خاضعة لمنطق التعدد والإختلاف . فإلى أي حد يمكن للأدب بوصفه واحدا من أشكال التعبير الإبداعي والفني ،أن يرقى إلى مستوى العالمية، خاصة وأنه محكوم بطابع المحلية والخصوصية؟
إذا كانت كل تجربة فنية وإبداعية هي في المنطلق تجربة ذاتية فردية وتتلون بطابع المجتمع الذي ولدت فيه ، فهذا لا يعني أنها معبرة عن حالات وجودية وحياتية متفردة ، بل هي على العكس من ذلك معبرة عن تجربة إنسانية خالصة وبالتالي تجربة ترقى إلى المستوى الشمولي والعام، على الرغم من اعتمادها على مضامين محلية وأدوات فنية خاصة.ولا أدل على ذلك من كون التيمات والقضايا كالحب والجنون والحرب والإنتقام والحرية ......هي تيمات وقضايا مشتركة بين جميع الشعوب والحضارات وليست مقصورة على شعب أو مجتمع دون آخر بالنظر إلى طبيعتها الإ نسانية من جهة، وباعتبار النشاط الإبداعي نابعا من الذات الإنسانية ومعبرا عنها من جهة ثانية.. غير أن الحديث عن العالمية يقودنا بالضرورة إلى إصدار أحكام قيمة ،خاضعة لمنطق النسبية ولا تقف عند حدود المعايير الفنية والجمالية الصرفة مادا م الحديث عن الإبداع والقيم الجمالية لعمل فني ما محكوما باعتبارات خارجة في بعض الأحيان عن المجال الإبداعي، وعلى رأسها الإعلام. ذلك أن شهرة العديد من المؤلفين والفنانين أصبحت رهينة باعتبارات أخرى ،نذكر من بينها العامل اللغوي والإعلامي والسياسي....وعلى هذا الأساس نجد أن انتماء المبدع إلى مجتمع متخلف اقتصاديا وإعلاميا محكوم عليه بأن تبقى شهرته منحصرة في حدود بلده هذا في أحسن الأحوال.غير أن امتلاك أجهزة إعلامية قوية وسياسة تستهدف تشجيع الإبداع والخلق ،هو بالتأكيد من الشروط الأساسية لانتشار الإبداع ، إذ أنها تفتح امامه آفاقا واسعة ،بالقدر الذي يجعل من الإنتاجات المحلية ترقى إلى مستويات أكثر شمولية ، بل إنها ستدخل إلى إطار المنافسة وبمعايير أكثر قوة وصرامة ، تماما مثلما يحصل بالنسبة للمنتوجات التجارية. شريطة اعتماد الدول المتخلفة استراتيجة واضحة المعالم والأهداف ، بحكم أنها تدخل الأعمال الفنية في إطار تحكمه المنافسة والقيم النفعية وليس القيم الجمالية وحدها.على الرغم من أن مستقبل أي مجتمع لا يتحدد من خلال ما تم وضعه من برامج ومخططات كما يرى جيل دولوز ، بل إن الواقع ينتج عن مآلات مختلفة ،وبالتالي عن خطوط انفلات تفوق البرامج والمخططات. وفي هذا السياق يأخذ الإبداع معناه باعتباره شديد الإرتباط بخطوط الإنفلات تلك