الشهيد عبد الحميد الزهراوي


--------------------------------------------------------------------------------



الشهيد الزهراوي وكلمة الحق

بقلم سها جلال جودت

تمهيد

حكم العثمانيون الوطن العربي أربعة قرون وهم من أصل تركي يقطنون في تركيا التي تقع في الشمال من بلاد الشام وخاصة سورية، وكانت آنذاك دولة قوية استطاعت أن تدخل البلاد العربية بحجة الدين الإسلامي لأنها دولة مسلمة. وهم أي الأتراك دافعوا عن الدين الإسلامي وعملوا على انتشاره وزرع تعاليمه في بلدان أوروبا الشرقية الشاسعة، وكان من مظاهر الطابع الديني عند الأتراك تطبيقهم للشريعة الإسلامية في أحكامهم ، وتشييدهم للعديد من المساجد الكبرى وحفاظهم على التقاليد الإسلامية ، وكانت البنية العامة لمدنهم بشكل عام هي بنية إسلامية.

والعجيب كما يقول الدكتور الباحث محمد حامد الشريف: " أنك لا ترى في الشرق العربي منذ أيام إبراهيم باشا المصري حتى أواخر القرن التاسع عشر حركة جدية للانفصال عن السلطة العثمانية، ورغم أن مصر أسبق البلدان العربية إلى إنشاء وحدة ذاتية ، وهي أول مكان بُعثت فيه الروح الاستقلالية." ولما حدثت الفتنة العثمانية عام 1909والتي أدت إلى خلع السلطان عبد الحميد من قبل مناوئيه الدستوريين في 17نيسان عام 1909،ستعم الفرحة، ولأن درس التاريخ كان عن شهداء السادس من أيار.

"جدي ، حدثني عن السفاح ؟"

وبلغت الكهولة أشدها في عيني الرجل وأخاديد وجهه ، لكنها لم تؤثر على ذاكرته التي ما تزال تختزن الذكرى المقيتة المؤلمة عن إعدام هذا السفاح اللئيم لهؤلاء الشرفاء الخلصاء.

- جمال باشا حكم بلاد الشام بعد توليه الحكم ، وبلاد الشام غنية بطبيعتها الخلابة الساحرة وبمعادنها الثمينة ، وبمياهها العذبة النقية إضافة إلى وجود ينابيع معدنية كبريتية .
وبعد أن سطع نجم جمال باشا وهو خال من الجمال الإنساني في الآستانة وصفه الشاعر اللبناني نعمان نصر قائلاً:
ما جمال غير نذل ظالم وشقي ترك العصر شقيا

لقد ارتكب جمال باشا مجازر فظيعة ضد شعب بلاد الشام ، استحق أن يخلده التاريخ تحت اسم " السفاح " ، وتذكر المصادر أن جمال باشا كان خالياً من كل مزايا الرجال حيث غلبت عليه العسكرية القاسية من تصلف وتعسف وعنجهية ودهاء للقضاء على كل من يقف في طريقه .

تظاهر في البداية بمناصرة العرب والوقوف إلى جانبهم ، وهذه ميزة الحاكم الوصولي الذي لا يهمه غير مصلحته الشخصية، وحين استقر في ذهن هؤلاء أن القضية هي قضية عطف على قضاياهم الاستقلالية ساعدوه في القدوم وفي استلام زمام الأمور وتمكين حكمه ،ولم يدر بخلدهم ما انطوى عليه من لؤم وبطش حيث كان يراقبهم ويطلع على أسرار تنظيماتهم تمهيداً للتنكيل بهم، من زج في السجون، أو تعليق في المشانق .

ففي يوم السادس من أيار من عامين متواليين 1916-1915 قام بإعدام 32 رجلاً من خيرة أدباء ومفكري بلاد الشام من بينهم عبد الحميد الزهراوي ، وقد تم إعدامه مع القافلة الأولى، لأنهم كشفوا النقاب عن دمامة أفعاله في حكمه الجائر المستبد بعد أن زين لهم بالوهم والخداع عن الحرية وحرية الرأي .
وقد انتهت حياة هذا السفاح على يد فدائي عظيم اسمه " أسطفان زاغبيكيان " من بلدة " تفليس" اللبنانية، أقدم على قتله انتقاماً لأهل قريته الذين دبر لهم جمال باشا مكيدة بشعة عام 1921، ثم أعدمهم جميعاً .

وعليك أن تعلم أن عائلة الزهراوي تنتسب إلى الإمام الحسين بن علي وبالتالي إلى السيدة فاطمة الزهراء ، ولد في مدينة حمص بسورية سنة 1272هجرية و1855 ميلادية ، وهي تبعد عن دمشق حوالي مئة وثمانين كيلو متراً ، في الطريق إلى حماة وحلب ، وتذكر أن حلب هي مسقط رأس عبد الرحمن الكواكبي.
- نعم أذكر .

كانت المدارس في ذلك الوقت تسمى بالمكتب ، أرسله والده إلى المكتب وعمره حينذاك ستة أعوام ، بدأ في تعلم القراءة والحساب واللغة التركية على يد الشيخ مصطفى الترك ، ثم نقله بعد ذلك والده إلى المكتب الرشدي أو المدرسة الرشدية.

وهناك من يشير أنه انتقل إلى مدرسة المعارف ، كان طالباً متفوقاً فاق أقرانه وتقدم رفاقه وأترابه في الدرس والتحصيل ، وفي هذا لابد من أن يكون موضع إعجاب على ترويه وحسن خلقه وثبات حفيظته ، فقرر أن يواصل تعليمه على يد الأستاذة المبرزين في أيامه فدرس اللغة العربية على يد بعض شيوخها الأفاضل ، والفقه الحنفي على أستاذه حسن الخوجة ، والتفسير والعقائد على محدث زمانه الشيخ عبد الستار الأتاسي ومنه أخذ الإجازة بقراءة الحديث النبوي الشريف وروايته ، وقرأ الأصول والكلام المعقول على الشيخ عبد الباقي الأفغاني،ولا بدَّ لطالب العلم والمعرفة من أن يجهد نفسه في القراءة والدرس والبحث لهذا قرر أن يسافر إلى الآستانة عاصمة السلطنة العثمانية حين اشتد عوده سنة 1890بحجة السياحة ، وحين لم تعجبه الحياة هناك انتقل منها إلى القاهرة عاصمة مصر ، نزل في دار نقيب الأشراف توفيق البكري ، والتقى بخيرة الأدباء ورجال العلم والسياسة واشترك معهم في المطارحات الفكرية والأدبية .

الزهراوي كان أديباً ؟

- اعلمْ يا بني إن حياة كل مهتم بحياة البلد من إصلاح ومحاربة للفساد ومقاتلة للظلم تعني وجود حس مرهف، وهذا الإحساس يولد بدوره الشعور بالمسؤولية ، والزهراوي هو واحد من أولئك الذين يملكون هذا الشعور ، ولأنه درس الحجة في الحديث النبوي الشريف كما درس اللغة العربية لغة القرآن الكريم فقد امتلك القيمة الفكرية والأدبية ، وبما أن هدفه كان الإصلاح المعقود على الهدف السليم من أجل إيصاله إلى عموم الناس وخاصتهم فقد تزود بثقافة دينية شاملة ، وتزيا بزي رجال الدين ، وقد زوده عقله وعلمه بدرجة عالية من الثقة بالنفس وبقدرة على التحليل والنقد والمواجهة . كما أن عقله وعلمه جعلاه مرجعاً ومحل ثقة عند شخصيات دينية كبيرة مثل جمال الدين القاسمي ورشيد رضا . ولعل هذه الميزات كلها ، قد جعلته مسلماً ملتزماً بدينه ، ورائداً ناقداً مجدداً لم يعرف له مثيل في زمانه، وكان من أبرز صفاته أنه كان مسلماً مؤمناً، لا يتطرق إليه الشك في عقيدته، فهو مثال المؤمن بالله الذي يعتبر القرآن منزلاً، ويرى في محمد رسولاً، ولذلك فهو لا يقبل في القرآن مناقشة ، وهو يرى أن المسلم من سلم الناس من يده ولسانه ، ومن عمل لدينه عمل المؤمنين ، ومن عمل لدنياه عمل الكادح المقبل على الحياة، ولهذا فقد رفض الصوفية ، وكان يرى أن الانحطاط ناتج عن الخلل في العلاقة بين الفرد والجماعة ، وإن سعادة الفرد من سعادة الجماعة ، وبهذا فهو ليس مسلماً تقليدياً ، إيمانه دليل علمه ، وكان ضد التعصب، وهو لا يرى في هجوم الدول الاستعمارية على العرب والمسلمين هجوم دين على دين ، وإنما هجوم قوة على ضعف.

وفي هذا لا بد من أحدثك عن إشارة ظافر القاسمي في كتابه عن أبيه جمال الدين القاسمي حيث أشار في ذكرياته إلى هذه الحادثة في سنة 1813، أنه لما أوقف السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي (وكلمة أفندي لقب كان منتشراً أيام الحكم العثماني ) ووقع الإرجاف بإخواننا تلك الليالي الهائلة، طرقني ليلاً مختار المحلة والبوليس ، وأنذراني بدفع رسالة السيد المطبوعة ، فأخرجتها وسلمتها لهم ، وبقيت والله لا أدري ماذا يتم علي ، لاسيما والعهد في الأولى ليس ببعيد ، والتقول على ما يجري على السيد شديد ولم يهدأ لنا بال إلى أن أفرج عن السيد حفظه الله ، وكان هذا بسبب رسالته عن الطلاق والتي لم يعثر لها على أثر.

ثقافة الزهراوي

بدأ الزهراوي تجربته الثقافية في حمص مسقط رأسه، فأصدر صحيفة (المنير) ، كان يطبعها بنفسه ويوزعها مجاناً باليد أو من خلال البريد، وكان ينشر في كل عدد منها مقالات في الإمامة وشروطها،منتقداً أعمال الحكومة التركية الجائرة ، منبهاً لها على سوء العاقبة!

لكن السلطات العثمانية انتبهت إلى أمر الصحيفة فأصدرت أمراً بمنعها، فقرر أن يعمل في التجارة فسافر مرة أخرى إلى الآستانة عام 1895، ففتح مخزناً يدعى ( سلطان أوطه لر ) فلم تلائم طبيعة تفكيره وتحصيله العلمي هذا العمل، فانصرف عنه إلى القراءة في المكتبات ، فاتصل به طاهر بك صاحب جريدة ( معلومات) وطلب منه أن يحرر القسم الخاص باللغة العربية، فوافق وأخذ يعمل بجد ونشاط وهو ينشر المقالات الإصلاحية التي لم يكن يجرؤ أحد في البلاد العثمانية على نشر مثلها ، خاصة وأن المراقبة كانت شديدة على الصحف في ذلك الحين . في هذه الأثناء كانت دولة مصر تغلي وتفور من محاربة البريطانيين إلى تأييد العثمانيين،مما جعل شغله الشاغل العمل من أجل الإصلاح وتجديد الفكر الإسلامي وخلال زيارته للآستانة ومصر كتب أبرز كتاباته وكانت : " ثلاث رسائل في الفقه والتصوف" ، " المسائل الشرعية في الخلافة" ورسالة سماها " نظام الحب والبغض" وقد اعتبرها رسالة في علم النفس وفلسفة الأخلاق.

الزهراوي الرجل المختار

- حين وطد الزهراوي علاقاته مع جماعة الشيخ محمد رشيد رضا ، كان الشيخ رشيد مطالباً بالذهاب إلى المغرب لأن الشيخ الإمام محمد عبده لم يستطع الذهاب فقرر إرساله لمساعدة بعض الوزراء في إقناع مولاي (عبد العزيز) بإدخال الإصلاحات في المغرب، ولما كان المطلوب رجلاً صالحاً جامعاً بين العلوم الشرعية ومعرفة السياسة والإدارة فقد تم اختيار الزهراوي .

لكن الزهراوي لم يسافر ، وفي سنة 1908 انتخب نائباً عن حماة في مجلس المبعوثان " كما كان يسمى" ، وهو يشبه مجلس النواب ، أو البرلمان، وكان عمره حينذاك سبعة وثلاثين عاماً.

الحياة التي عركت عبد الحميد الزهراوي كان لا بد لها من أن تعطيه ولو بعض حقه ، فقد سافر وعاش في الآستانة والقاهرة ودمشق وسجن ونفي وواجه اضطهاد السلطة وتعنت المحافظين ، كل هذا جعل منه رجلاً عالماً عارفاً مجرباً ، وقادراً على القيام بدور النائب ، وكان همه: توحيد القوى للدفاع عن الدستور ومقاومة محاولات السلطان عبد الحميد الثاني ، والقوى الرجعية وكان الزهراوي قد ذهب إلى المجلس رغم معرفته بوجود العصيان ، وظل في المجلس محاصراً مع رفاقه ، يتصلون ويطالبون بوقف الهجوم على المجلس ، ثم خرج بشكل طبيعي وسط الحصار وإطلاق النار ثابت الخطوات ، رافع الرأس .

كان الزهراوي يريد أن يستبدل سلطة عبد الحميد ، وحزب الاتحاد والترقي بالحزب الحر المعتدل ، ورغم أنه لم يكن يهتم بالبروز وهذه واحدة من سماته الخاصة النبيلة فلقد اعتبر أن الكفاءة لا تنحصر في الفصاحة والخطابة والقوة المنطقية بل تقوم على الاستقامة والحرص على المصالح العمومية والإلمام بأحوال البلاد ، كما أنه كان يؤكد على ضرورة وجود الشجاعة وقوة العقل وحسن التروي ، والاطلاع على العلوم وأحوال الدنيا.

هذه الصفات التي تضافرت كلها في شخص الزهراوي جعلت المؤيدين له يميلون إلى انتخابه لمجلس المبعوثان، وفي هذا كتبت صحيفة حمص:" وبهذه المناسبة نثني على همة ووطنية الحمصيين الذين يسعون باستئناف انتخاب العلامة عبد الحميد أفندي الزهراوي ، الذي أظهر في مدة نيابته ولاسيما في المدة الأخيرة ما يصلح معه أن تعلق عليه الآمال بإصلاح الحال وتحسين المآل".

المساومة

لأنه رجل مخلص وصادق ونزيه فقد ساومه الاتحاديون على أن يكون منهم فرفض، وكانوا قد حلوا المجلس. لأنهم كانوا يريدون تعديل المادة بجعل حل المجلس بيد رئيس الوزراء ، ولما كان الزهراوي ضد التعديل ورفض المساومة بالانتساب إلى حزب الاتحاد والترقي ، قرر الاتحاديون إسقاطه في الانتخابات، رغم شبه الإجماع عليه.

وبعد العديد من التطورات التي حصلت أثار الاتحاديون قضية التعديل ليصار لهم حل المجلس متى أرادوا، ولما لم ينجحوا حلوا المجلس ، فقاد هذا الأمر إلى توقف صحيفة الحضارة أواخر سنة 1912 ، هذا الأمر جعله يطور شبكة علاقاته مع المنفيين العثمانيين في القاهرة وباريس حتى ترأس المؤتمر العربي الأول في باريس سنة 1913 الذي كان بداية نهضة عربية قومية ، وكلمته التي قالها تدل على جرأته ورجاحة عقله ومنها قوله:" إن العرب كانوا قد ألفوا الترك وهؤلاء قد ألفوا العرب وامتزج الفريقان امتزاجاً عظيماً ، لكن كما مزجت بينهم السياسة فرقت بينهم السياسة، هذه الرابطة قد أصبحت مهددة بالسياسة أكثر مما كانت مهددة من قبل ".

موقف العثمانيين؟

ليس من عادة السلطنة العثمانية السكوت على أي أمر أو كلام يصدر عن جهة معينة ، فذلك لأنه يخالف مصالحها الشخصية قبل العامة، فالزهراوي حين كتب في الفقه والتصوف ونشرها في صحيفة المنار ، كما كتب أيضاً في النحو والمنطق والطلاق أثارت كتاباته السلطات ، وعندما كان في القاهرة تفاعل مع الحركة الثقافية والسياسية وأصبح أكثر قدرة على التعمق في ميادين الثقافة والسياسة وأنه في العام الذي وصل فيه الزهراوي مصر مات عبد الرحمن الكواكبي، فشددوا الرقابة عليه ، ورغم نفيه لم يمتنع عن مواصلة الاعتراض على نظام الحكم العثماني ، وهذا ما أدى به أخيراً إلى حبل المشنقة .

لم يكن وحده ، كان مع عشرات المناضلين الشرفاء الخلص للوطن من بينهم الأمير عمر الجزائري وهو حفيد الأمير عبد القادر الجزائري الذي قدمت بلده مليون شهيد حتى نالت استقلالها من الاحتلال الفرنسي.

الكلمة الحرة
لقد قال كلمته الحرة:" إن العناية ترعى وطننا الحبيب ، إننا سوف نصل إلى الحصول إلى استقلالنا كاملاً بعد أن ننتقم من الأعداء الخونة" ، وبعدها أسلم رأسه إلى حبل المشنقة بكل فخر واعتزاز.

العيد الوطني

حين أعلن جمال باشا السفاح سنة 1916 عن إعدام هؤلاء الرجال كان يوم السادس من أيار يوماً وطنياً جعله العرب عيداً للشهداء، وفي الشهداء قال الشاعر اللبناني رشيد الخوري ( القروي ):

خير المطالع تسليم على الشهدا أزكى الصلاة على أرواحهم أبدا
فلتنحني الهام إجلالاً وتكرمة لكل حر عن الأوطان مات فدى

وخير ما نختم به سيرة هذا الرجل البطل قوله تعالى :* ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون * صدق الله العظيم.

________________________________________
المراجع: مدخل إلى قراءة : عبد الحميد الزهراوي
حياته ، مؤلفاته ، أفكاره / منشورات وزارة الثقافة – ناجي علوش.