صعدت مع زوجي إلى الباص المتجه من قرية جروس أوم شتات (Gross-Umstadt) الصغيرة إلى منطقة دارم شتات (Darmstadt) الألمانية، في محافظة فرانكفورت ومعي طفلي الصغير.

جلس زوجي أمام رجل وجلست أمام امرأة في العقد الثالث من عمرها، في حين وضعت صغيري في حضني، ونظرتُ إليها ..
شيء ما يشدك رغما عنك للنظر في عينيها .. فلها نظرة فارغة من كل شيء، شاردة وكأنها بلا روح!
وسألت نفسي وقد بدأ الشعور بالخوف يتسلل بين أضلاعي، أتكون في حالة سُكر لم يختمر بعد!!؟

كانت تحمل في يدها قارورة ماء صغيرة، فتحتها بوهن، فسقط الغطاء من يدها ووقع على الأرض..
بتلقائية حاولت الانحناء لالتقاطه، وإذ بها تفتح باب الحديث قائلة:
دعيه في مكانه، لا حاجة لي به، هل قطعتم تذكرة ذهاب وإياب؟
أنا أقطع تذكرة يومية مفتوحة فهي أرخص ثمنا من تلك التي تكون لذهاب وإياب واحد..
هكذا بحيث يمكنني النزول لشرب فنجان من القهوة والرجوع إلى المنزل والعودة مرة أخرى متى شئت خلال النهار، أووه .. وحتى الليل أحيانا!!
نعم .. ما أشد الحر في هذا اليوم، أليس كذلك؟ وما أجمل الرجوع إلى البيت والاستحمام بالماء البارد، فالكهرباء غالية، والماء البارد ينعش الجسد، وبعد الحمام أستطيع دهن جسمي كله بزيت الأطفال، مع أن زيت الأطفال أيضا غالي الثمن، لكن لا بأس .. هناك أنواع أرخص من غيرها، وكلها تفي بالغرض، وأنا
أحب ماركة (بيناتين) فهي الأفضل بين ماركات الكريمات للأطفال!!!
كل شيء في ارتفاع، حتى درجات الحرارة، ما عادت الدنيا تحتمل مَن عليها!!

ودون توقف التفتت إلي مرة أخرى وأكملت قائلة والدهشة قد عقدت لساني عن أي رد..


هل زرت مدينة دارم شتات؟ هي مدينة صغيرة وجميلة جدا .. آه نعم .. هي ليست الأجمل فهناك أجمل منها بكثير .. لكني أحبها لأنها بلدتي .. وأنا أسكن في قرية قريبة منها، وأتنزه في الباص أتجول بين القرى والمناطق، ألم أقطع تذكرة ليوم كامل يمكنني أن أتجول به في حدود المنطقة بسعر واحد؟؟
لكني أنزل إلى المدينة حين أصل إليها بعد تجوال طويل لشرب قدح من القهوة!!

أووووه قد لا تكون مجرد قهوة!! إنما بعض المشروبات الأخرى (وقهقهت بصوت عال مبحوح) ثم سعلت وتنحنحت وأكملت قائلة:
هل ترين أثرا من آثارها؟ تلك المشروبات اللعينة!!
لا .. لا بد أنكِ ترين شيئا!! ليس حلما، هو حقيقة، فالطيور تلجأ إلى أعشاشها مساء فتترك عقلها لتنام، ونحن أين نترك عقلنا؟
لا بد أن نجد مكانا نضعه فيه بأمان.. وليس أكثر أمانا من تلك المشروبات المحبوسة في تلك القوارير المعتمة .. ولكن .. أين غطاء قارورتي الحبيبة؟

وانقلب صوتها إلى البكاء وكأن نوبة حزن اعترتها فجأة وأكملت: أرجوكِ ناوليني الغطاء، إنه غال على قلبي، أهداني قارورة الماء هذه نادل المقهى مقابل يورو واحد فقط!!
أتصدقين؟ ماء بيورو واحد؟؟ كم هو رخيص!!


وكنا قد وصلنا إلى المحطة، فنزلَت وناولتُ زوجي طفلي الصغير بصمت تام، وجلست على الكرسي المتطرف في محطة الباص مذهولة أتابعها بنظري - وهي تأخذ مكانها في أقرب بار - بكثير من الشفقة وشيء من خوف، وبانتظار عودة نبضي وانتهاء السَّكرة!!!!



أسماء هيتو
26 / 7 / 2007 م