(نشرتُها من قبلُ إلا أني أهديها هنا إلى أخي الأديب الكبير الأخطل الحمصي بُورِكَ فيه وله)

مَشْغُولَةٌ بِمُرُورِهَا رِيحٌ
تُدَلِّكُ خُضْرَةَ الأشْجَارِ مِنْ حَرِّ النَّهَارِ بِأُصْبَعَيْ نَسَمٍ..
تَشِي لِلْعُشْبِ وَالنَّخْلِ الْفُضُولِيِّيْنِ لَيْلاً
مَا يَدُورُ بِقَرْيَتِي مِنْ وَشْوَشَاتِ النَّاسِ فِي أُذُنِ الْبُيُوتِ الصُّمِّ..
لَيْسَ يَرَاهُمُو إِلا السَّمَاءُ
وَعينُ مصباحٍ تعاني من نَحَافَةِ ضَوْئِهَا الْقَرَوِيِّ
شاكيةً إِلَى الْجُدْرَانْ
وأنا أُدَلِّكُ وَحْدَةَ الأَوْرَاقِ بِالْكَلِمَاتِ
بِالنَّظَرِ الْمُثِيرِ لِدَمْعَةٍ أُخْرَى عَلَى خَدِّ الْحُرُوفِ..
بِأُصْبُعَيْ حِبْرٍ مُجَرَّحَتَيْنِ
مُنْذُ أَرَادَتَا أَنْ تَنْبُشَا بَيْنَ السُّطُورِ
فُرَبَّمَا تَجِدَانِ لِي وَجْهِي
وَيَطْلُعُ لِلْكَلامِ يَدَانْ
وَالْحَقْلُ مُضَّجِعٌ بِكُلِّ رَزَانَةٍ
وَعَلَيْهِ مِنْ نَسْجِ الْمَسَاءِ مُلاءَةٌ خَضْرَاءُ قَاتِمَةٌ
وَمَنْقُوشٌ بِهَا رَقَصَاتُ غُصْنٍ
لَمْ يَزَلْ فِي حِضْنِ وَالِدَةٍ مِنَ الشَّجَرَاتِ سَهَّارًا
وَيَلْعَبُ لُعْبَةَ الأَغْصَانْ
الرِّيحُ..
وَالليْلُ الّذِي يَحْكِي تَفَاصِيلَ الْهُدُوءِ
بِنَبْرَةٍ قَرَوِيَّةٍ..
وَالْحَقْلُ فِي سِنَةٍ مِنَ الأَشْغَالِ
يَبْعَثُ فِي بَرِيدِ الرِّيحِ عِيدًا مِنْ رَحِيقِ الطِّينِ
يَا بَلَدِي
فَتَغْتَسِلُ الْقُرَى فِي عِيدِ مِيلادِ الثَّرَى..
وَتَطِيرُ فِي مَلَكُوتِهِ الرئتانْ
أَنَا فِي الْبَرِيدِ قَرَأْتُ أَوْرَاقَ السِّنِينَ الْخُضْرِ
وَالعُصُرِ الْعِجَافِ
وأنتِ أنتِ أميرةٌ صَفَّتْ عُصُورَ الْمَجْدِ فَوْقَ جَبِينِهَا تَاجًا..
وَمِنْ صَوْتِ الْحَمَامِ ضَفِيرَتَيْنِ تُرَتِّلانِ لِجِيدِهَا سُوَرَ السَّلامِ..
وَمِنْ نَزِيفِ جُرُوحِهَا إِنْسَانْ
وَنَظَمْتِ مِنْ شُهَدَاءِ حُبِّكِ عِقْدَ قَمْحٍ طَارِحٍ فِي صَدْرِكِ الْعَرَبِيِّ
نَصْرًا بَعْدَ عُسْرٍ..
حِضْنُكِ الْمِصْرِيٌّ نَهْرٌ مِنْ أَمَانِ النُّورِ يَا بَلَدِي لِنَسْلِ النُّورِ..
نَارٌ لِلّذِينَ تَلَوَّنَتْ أَرْوَاحُهُمْ بِدَمِ الظَّلامِ وَشَهْوَةِ النِّيرَانْ
وَالنِّيلُ كَأْسُكِ فَاشْرَبِي مِنْ خَمْرِ أَزْمَنِةٍ مُشَمَّسَةٍ
بِكِلْمَاتِ السَّمَاءِ
وهنَّ أَبْكَارُ الشُّرُوقِ وآخِرُ الأَدْيَانْ
النَّيلُ كَأْسُكِ عُتِّقَتْ فِي أُغْنِيَاتِ الصَّبْرِ..
لَوَّنَهَا دَمُ الثَّورَاتِ..
سَكَّرَ طَعْمَهَا أَنْ تَرْجِعِي لِبَنِيكِ سَالِمَةً..
وَإِنْ شَرِبَتْ حَلاوَتُهُا دُمُوعَ الفَقْدِ مِنْ جَفْنَيْكِ يَا إِيزِيسْ
مَنْ فَازَ مِنْهُ بِشَرْبَةٍ
سَكَنَتْ بِوَاحِةِ قَلْبِهِ غِزْلانُ عِشْقِكِ..
هَذِهِ الْغِزْلانُ فِي أَمْوَاجِ نِيلِكِ مُنْذُ سَالَ عَلَى
خُدُودِ الْمَاءِ دَمْعُ دِمَاكِ مِنْ شُِرْيَانِ أُوزِيرِيسْ
يا بِنْتَ يُوسُفَ
تَخْرُجِينَ مِنَ الْمَنَامِ رُؤًى تُغَسِّلُ مِنْ دِمَاءِ الذِّئْبِ
قُمْصَانَ الشُّعُوبِ..
وَتَمْنَحِينَ نَسِيجَهَا الْمَظْلُومَ حُكْمًا بِالْبَيَاضِ لِمَرَّةٍ أُخْرَى..
وَلَوْ حَبَسُوكِ فِي بِئْرٍ مُعَطَّشَةٍ..
وَبَاعُوا فِي سُجُونٍ مِنْ دُجًى نَفَسَيْنِ مِنْ رِئَتَيْكِ..
وَاغْتَنَمَتْ نَوَاطِيرُ البَلاطِ سَذَاجَةَ السُّلْطَانِ
وَاتَّهَمُوا بُكَاءَكِ بالسَّحَابِ الْحُلْوِ
وَاعْتَقَلُوا سَنَابِلَكِ الأَخِيرَةَ فَي جُيُوبٍ
خُيِّطَتْ مِنْ ضِغْثِ قَانُونِ الْمَصَالِحِ..
تَخْرُجِينَ إِلَى الشَّوَارِعِ..
تَدْخُلِينَ الدُّورَ
حَوْلَكِ سِرْبُ نُورٍ طَالِعٌ مِنْ سورةٍ خَضْرَاءَ فِي الْقُرْآنِ
حَيْثُ يَعُودُ يُوسُفُ
فِي يَدَيْهِ قَمْحُ تَرْحِيبٍ يُقَسِّمُهُ
عَلَى أَحْفَادِ أَرْضِكِ بِالشّمَالِ وَبِالْيَمِينْ
يُمْنَاهُ مِصْبَاحٌ إِلَهِيٌّ يُنَادِي الْمُؤْمِنِينْ:
بَعْدَ انْتِحَارِ الليْلِ حَتَّى يَدْخُلُوهَا آمِنِينْ
رِئَتَايَ تَحْفَظُ مِنْ رَحِيقِ الطِّينِ فُرْقَانِ انْتِمَائِي
لِلْحُقُولِ الْمُشْرَبَاتِ بِخُضْرَتَيْ عَيْنَيْكِ يَا بَلَدِي
وَ قَلْبِي -فِي هَوَاكِ الْبَرِّ- عَقْدُ حنينْ
نَبْضِي يُوَقِّعُهُ بِحَرْفٍ سَائِغٍ لِلْعِشْقِ مُنْذُ سِنِينْ
وَحَدِيقَةٌ فِي بَيْتِيَ الشِّعْرِيِّ
تَشْهَدُ نَخْلَةٌ عَزْبَاءُ بَيْنَ نَبَاتِهَا الْمِصْرِيِّ
حَالِفَةً عَلَى وَطَنِيَّتِي
حَتَّى اسْأَلِي فِي أُغْنِيَاتِي التِّينَ وَالزَّيْتُونْ
شُوفِي حُضُورَكِ فِي نَقَاوَةِ سُبْحَتِي
شُمِّيهِ فِي أَنْفَاسِ وَرْدَاتِي
وَذُوقِي رِقَّةَ الْكَلِمَاتِ فِي رُمَّانِ نَبْضَاتِي
وَحِسِّي صُفْرَةَ الأَشْوَاقِ فِيَّ بِخَدَّيِ اللَّيْمُونْ
أبدًا.. أَنَا الْمَفْتُونِ بِالْقَصَص الّتِي تُلْقِي بِهَا
جُمَّيْزَةٌ مِنْ نَسْلِ أُوزِيرِيسَ فِي سَمْعِ الْهَوَاءِ
بِوِقْفَةٍ مِنْ أَبْجَدِيَّةِ صَمْتِهَا الْمَنْقُوطِ بِالْوَرَقِ الْمُثَبَّتِ
فِي جِدَارِ الرِّيحِ..
شَكَّلَتِ السُّكُوتَ بِأُغْنِيَاتِ حَفِيفِهَا الْمَوْزُونِ بِالتَّارِيخِ..
تَمْلكُ فِي مَلامِحِهَا حَفَاوَةَ جَدَّتِي بِي
حَوْلِ مَائِدِةِ الْعَشَاءِ إذا سَهِرَتُ بِدَارِ جَدِّي
لَيْلَةً مَرْزُوقَةً بِالْعَطْفِ مِنْ قَلْبِ السَّمَاءِ
سَرَى مُبَاشَرَةً بِيُمْنِى جَدَّتِي فِي لَمْسَةٍ أُولَى عَلَى أَخْيَاطِ ثَوْبِي..
لَيْلَةٌ مَرْزُوقَةٌ بِالْقُرْبِ، وَالسَّمَرِ الطَّوِيلِ..
وَنَظْرَتَيْنِ بِعُمْرِ جَدِّي تُولَدَانِ وَسِيمَتَيْنِ
عَلَى سَرِيرِ مَسَافَةٍ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَبَيْنِي
تَمْلآنِ قَصَائِدِي ثِقَةً بِوَعْدِ سُعَادَ
حِينَ تَعُودُ والْمَأْذُونُ فِي يَدِهَا
وِفِي يَدِهِ قَسِيمَةُ زِيجَةٍ خَضْرَاءُ
يُلْقِيهَا عَلَى وَجْهِ الْقَصِيدَةِ
تُبْصِرُ الدُّنْيَا عَلَى شَفَتَيْكِ أُغْنِيَةً لِكَعْبٍ..
تَمْدَحِينَ بِهَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
وَقَدْ أَتَاكِ خَلِيفَةً لِلصُّبْحِ فِي زَمَنِ الظَّلامِ
لِكَيْ تَعِيشِي فِي صَلاهْ
يَا جَدَّةَ الْجُمَّيْزِ..
فِي زَمَنٍ مِنَ الْعُشْب اللقِيطِ..
أَرَاكِ عَائِدَةً
وَفِي بُسْتَانِنَا جُمَّيْزَةٌ مِنْ ذِكْرَيَاتِ الدَّهْرِ مَا زَالَتْ
تُوَصِّي جِذْرَهَا بالأَرْضِ طُولاً
خَضَّرَتْ فَرْعَينِ مِنْهَا كَيْ نُعَلِّقَ فِيهِمَا الأَنْوَارَ
فِي حَفْلِ نَزُفُّ بِهِ سُعَادَ عَلَى سَلِيلِ الشِّعْرِ كَعْبٍ
بُرْدُهُ النَّبَوِيُّ مَنْسُوجٌ بِخَيْطٍ مِنْ خُيُوطِ الْفُلْكِ
تَسْبَحُ فِيهِ أَقْمَارٌ مِنَ التَّقْوَى..
وَنَجْمَاتٌ مُسَامِحَةٌ
وَشَمْسٌ مِنْ أَمَان الدِّينِ
وَالنَّاسُ الّذِينَ دُعُوا إِلَى حَفْلِ الزِّفَافِ تَذَوَّقُوا كَأْسَ النَّجَاهْ
***
مَشْغُولَةٌ بِمُرُورِهَا رِيحٌ..
تُدَلِّكُ وَحْدَتِي بِنَسِيمِهَا الْمِصْرِيِّ..
وَالْكَلِمَاتُ بَيْنَ يَدَيَّ نَحْوَ زَمَانِكِ الآتِي سُعَاهْ
يَحْمِلْنَ أَحْلامِي إِلَى عَيْنَيْكِ..
وَالأَوْرَاقُ لِلنَّجْوَى شِفَاهْ
يَا مِصْرُ..
مُدِّي لِي طَرِيقِي فِي يَدَيْكِ
فَأَلْفُ أُغْنِيَةٍ -عَلَى سَطْرِي إِلَى عَيْنَيْكِ يَا أُمِّي- مُشَاهْ