هو والجميلات
-------------------------------------------

قضى حياته ينتقل من زهرة إلى أخرى .. وكل زهرة أجمل من الأخرى ولا يكتفي بالزهرات الجميلة من حوله , بل يقلب الصفحات في كل المجالات باحثا عن إلهات الجمال النسائي .. حتى إن أحلامه الصبيانية ذاتها أرهقته في محاولاته اليومية لاستمالة الجميلات نحوه إنه الطمع الوحيد الذي يمارسه مع نفسه .. وكانت هذه الرغبة تدفعه نحو الفل في كل ما يريده , ولم يكن يبدأ علاقة من العلاقات الإنسانية مع زميله له أو صديقة أو قريبة حتى ينهيها بسرعة سعيا وراء بداية جديدة وكل بداية جديدة تنتهي قبل أن تنسج خيوطها عنده لتصنع حكاية صالحة لأن يقول عنها : علاقة فالجميلات من حوله كثيرات حتى كاد جمالهن من حوله أن يعمي بصره وبصيرته .
ومنذ أن عشق إحدى الجميلات وتركته لأنه لم يقل لها بأنها تشبه إحدى الممثلات ثم اكتشف أن أحد الشبان اختطفها من بين يديه بعد أن قال لها إنها تشبه الممثلة الصغيرة والتي تثير المراهقين بدلالها على شاشات العرض السينمائي ومنذ ذلك اليوم قال في نفسه : ما أتفه عقل الأنثى إذا كانت جميلة .. فقد كان يعتقد كثيرا " في قدسية الأنثى وطهارتها ولم يكن يصدق أي عيب في حقها وعليها حتى ممثلات السينما كن يمثلن لديه نساء من عالم آخر وكان يضرب الممثل دائما " بما يظهر على الممثلة الكبيرة التي تشبه الحمامة من وقار واتزان وتعقل , والتي تركت زوجها المخرج السينمائي وابنتها لتتزوج ممثلا " انيقا " و " صغيرا " باسم الحب وتدور المسبحة مع تلك الممثلة التي كان يتوسم فيها روح ملائكية بيضاء صافية لكي تبني علاقة وتهدمها حتى تبني علاقة أخرى لكي تهدمها .. وعرف أن العالم الآخر الذي يعشنه أولئك النساء ليس العالم المثالي أو الأفضل وإنما هو عالم أكثر اتساخا " من العالم الذي نعيشه نحن البشر العادين رغم قسوته علينا في بعض الأحيان .. ومع توارد الحكايات عن ذلك العالم الذي يشع بالأضواء والشهرة اكتشف أن حظ الجميلات فيه أكثر من العاقلات لأنهن يملكن مؤهلات للعرض تجذب إليهن الناس وكلما كن يعرضن جمالهن أكثر كلما تزاد شهرتهن أكثر وهكذا تتركز عقولهن في جمالهن فلا يستطعن الحكم على الأمور باتزان وتعقل وتدور حولهن الحكايات عن مغامراتهن لتصبح وسيلة تسلية أخرى تقدمها الصحف والمجلات لجمهورها من القراء وتحول ذلك العالم البيضاوي في نظرة إلي عالم صفراوي يتحول فيه الإنسان إلى سلعة معروضة للبيع والشراء ومحكومة بقانون العرض والطلب الاقتصادي , وكلما كانت الأنثى جميلة كلما زاد سعرها لازدياد الطلب عليها مع قلة المعروض من أمثلها .. يا للتفاهة .
وعاد ليقول في نفسه : ما أتفه عقل الأنثى إذا كانت جميلة ومشهورة حتى في الجغرافيا التي كان يدرسها , خرائط أرض وسكان ومناخ وطبيعة اكتشف خريطة أخرى ترسمها المرأة بجمالها فكلما , كانت إحدى البلدان تزدحم بالحسناوات كلما كانت تلك الدولة إطلالة للسياح من كل حدب وصوب فتصبح بفضل الجمال الأنثوي دولة سياحية من الدرجة الأولى ..
وفي الدول السياحية لا وجود للرجل ولا كيان . والمرأة تملك كل الميدان .
وعندما تلعب المرأة وحدها في الميدان تصبح الفوضى نظاما " ويتحول العبث إماما " ويكون الهوى هو العقيدة والإيمان , تكون الدولة السياحية جميلة مثل المرأة الجميلة ولكنها تفكر بجمالها وجمال نسائها فقط .. وكان " أديب" بطل قصتنا يرى في المرأة قيمة وهذه القيمة يحددها عقلها وليس جمالها والإيمان بأن جمال المرأة طاغية لا بد من مقاومته تحول لديه إلى عقيدة راسخة وثابتة يدافع عنها . وكم هي الروايات التي تتحدث عن طغيان الجمال وجبروته على صاحبته أو على الآخرين فتلك الإنسانة التي كانت حديث بلدته لجمالها الباهر , أصابها جبروت الجمال بالنرجسية فبلغت الخامسة والثلاثين من عمرها دون زواج لأنها لم تجد من يستحق جمالها , وما أتعس ذلك الرجل الذي أصابه جبروت المرأة بجمالها فوقع قلبه عند هواها , وغدرت به , حتى بلغ الخمسين من عمره دون زواج بحثا عنها عند الأخريات .. ولقد سمع رواية على لسان والده يرددها دائما عن رجل ذو مركز كبير زاره في منزله , فكان يشاهد امرأة محدودة الجمال تشرف على الضيافة بالمنزل بطريقة لبقية وذكية ودهش عندما عرف أن هذه المرأة المحدودة الجمال هي زوجة ذلك الرجل الثري الوسيم وهو القادر على الزواج بأجمل منها أضعاف المرات .. وكان السر عند ذلك الرجل في أنه مرتاح البال وهادئ النفس مع زوجته فهي مطيعة وربة بيت , وعاقلة ومتزنة , ولا يخاف عليها أن تركها وحيدة , ولا يفكر في مشكلة تواجهه أن رافقها في نزهه قصيرة , لقد اختارها ليستريح ذهنه عن التفكير بجمالها .. أما إذا كانت جميلة فسوف يشغل أربعة أخماس يومه في التفكير بها وإرضائها والخوف منها وعليها ..
لقد عقلت تلك الحكاية في ذهن " أديب " وهو ينتقل بين الزهرات الجميلات من زهرة إلى أخرى , في بدايات متكررة ومتلاحقة دون أن يحاول نسج علاقة حميمة مع إحداهن .. التقاها وفي عينيها حديث عن الأمل .. رآها وفي مظهرها هزال يعبر عن الألم .. وتحدث معها وفي حديثها منطق الجدية والاتزان .. وأحبها حتى الثمالة وليته ما أحبها أو وقع في هواها .. فقد جعلته يقدس الجمال معها .. لقد رأى فيها كل جميلات العالم ونسى أنه يوما من الأيام كان يحارب الجميلات .. وجعلته .. ينسى حربه ضدهن عندما أوهمته بأنها تحب الأدب , وتحاول كتابة الشعر والقصة والنثر .. وهو يحترم المرأة الأدبية حتى ولو كانت مستهترة لأنها تفكر بأفق أوسع .. ولذا فإنه لم يشعر بجمالها المتزايد مع مرور الأيام , بقدر ما أحس بأنه يعيش وقته مع أدبية قبل أن تكون حسناء جميلة .. ثم اكتشف بأنها بعيدة عن الأدب , وتذكر يوما أنه قال لها : بأنها تشبه جاكلين بيسيه !! وسألته ببلاهة : من هي جاكلين بيسيه .. فأعطاها عذرها فليس من الضروري للأديب أن يعرف كل شاردة وواردة في عالم الفنون التمثيلية ..
فقال لها : أشعر بأن بينك وبين " جاكلين بيسيه " تشابها في الجوهر أكثر منه في المظهر .. في العينين , وفي الأنف .. والشفتين .. والأهم في التصرف والبساطة في المظهر , والعمق المحير في الشخصية , والإخلاص الواضح في المنطق , وكتب إليها بعض ما يسميه شعرا يتغزل باسمها ويناجيه
وكانت تناقشه في هذه الكلمات الأدبية فتظهر ضعفها الأدبي , مما جعله يستاء منها لأنها كذبت عليه فازدادت نقمته عليها عندما بدأت تهتم بجمالها وتنسي عقلها .
فكتب إليها يستفز مشاعرها , ويلهيها بكلمات له\علها توقظها فقال لها : لم أكن مخطئا حين أحببت الحرمان في عينيك ... ولم أكن مكابرا حين وجدت المحبة في مشاعرك .. ولم أكن ضعيفا حين سعيت بقلبي إليك .. ولم أكن ضائعا حين حاولت بعقلي إنقاذ عواطفك .. فقد كنت صديقا إليك .. وبذلت جهدي وسط الضياع كي انتشلك .. وكنت مخلصا .. كنت وفيا .. وصدقت الجمال وأنا أقرأ لغة عينيك .. فقد كنت عطوفا علي الدوام معك
وبدأ يحاول معها لعلها تستيقظ من التوهان الذي تعيشه , وأخذ يعدد لها الجميلات اللاتي يشبهنها .
تلك الممثلة العربية ذات العيون الساحرة , كم هي محبة ومخلصة لزوجها , وكم هي عظيمة بهذا الإخلاص .. أنك جميلة مثلها يا لمياء فلماذا لا يكون عقلك مثل عقلها ..؟؟
لقد رفضوا في الغرب بكندا عقلية مارجريت فلا تكوني مثلها ..!!
ولكنها لم تكن علي استعداد أن تسمع منه شيئا , لأنها شعرت بأنها جميلة لدرجة لم يعد " أديب " قادرا علي مماثلة هذا الجمال , بل اتهمته بأنها لم تعد لديها أي رغبة في أي رجل , لأنهم جميعا لا يستحقونها ..
وكانت حكاية "مارجريت ترودو " مع زوجها رئيس الوزراء الكندي تملأ الدنيا ضجيجا واكتشف أن التشابه الكبير بين لمياء ومارجريت ترودو "
يتعدي المظهر ليصل إلي عمق الشخصية فيهما .. فتلك المرأة الكندية تحترم زوجها وتقدره ولكنها لا تحبه فتركته مع أطفالها وأطفاله وسعت لاهثة وراء اللهو والمجون والعبث , فذهبت إلى هوليوود وفشلت .. ثم جربت أن تكون كاتبة , فلم تجد سوى جنونها وطيشها وغرامياتها لتؤلف كتابا عنها وفي النهاية لم تجد نفسها إلا في شقة صغيرة تقضي فيها أيامها في أرق وقلق لتذهب في نهاية الأسبوع زائر لرئيس الوزراء السابق وزوجها السابق فتستريح عنده مع أطفالها , ثم تعود لوحدتها باقي أيام الأسبوع .. وها هي " لمياء " تفترض فيه أن يمثل معها نفس الدور .. تريد لمياء منه أن تكون أستاذها , تستريح عنده وقت الحاجة .. وتبتعد عنه إذا وجدت راحتها مع غيره .. وهكذا تكون قد اختارت له دور المرمطون لأنه لم يكن في المركز الأقوى .. إنه أضعف من أن يقبل ذلك .. ولا يمكنه أن يفعله لأنه يحب ب‘خلاص ولا مكان للتمرد عنده , لأن المجتمع الذي يعيشانه لا يرحم المتمردين , فكتب إليها
واصفا إياها بكل الصفات التي لا تحبها فتاة نرجسيه مثلها:
ثارت عليه , نعتته بكل النعوت , وكان سعيدا لأنه أثار غيظها .. لقد كانت سعادته نابعة من كونه لم ينهزم أمام جبروت جمالها .. وقد كان خائفا على نفسه من الضياع وسط هذا الجمال كما ضاعت حكومة كندا من ترودو بسبب حبه لمارجريت .. فقد كان قلقا لضياعه شخصيا لأنه لا يملك سوى عقله وعمله .. وكاد أن يخسرهما بسبب الحب المجنون .. وكادت أن تبعث به إلى معارك يقتتل فيها مع الآخرين .. فالحوار الدائر بين أديب ولمياء كان حوارا يدور بين الجمال الطاغية , وبين الأدب والمثالية .. إنه حوار لا يجعل من أديب عدو للمرأة , لأنه حوار لا يجعل من أديب عدو للمرأة , لأنه يحترمها ويقدرها وفي أغلب الأحيان يقدسها .. ولكنه حوار يقاوم به الأنثى المتشبهة بالأفعى .
وكانت رسالة قاسية بعد أن رفضته بقسوة .. لدرجة أفقدتها صوابها ,
تلك القصة التي دارت بين أديب ولمياء .. جعلت من أديب يعيش بعقدة من الجميلات .. ويتذكر رواية والده وحكمته وخبرته في مثل هذه المسائل , ولم يجد أفضل من أن يوكل مهمة اختيار شريكة حياته إلى والده , لأنه اقتنع بينه وبين نفس بعدم قدرته على اختيار شريكه حياته , وهو يحمل في داخله تلك النظرة السوداوية عن الجميلات , وفي نفس الوقت لا يمكنه أن يختار لنفسه شريكه حياة ليست جميلة , لأنه يملك أحاسيس شاعر , وتلك الأحاسيس تدفعه نحو الجمال دائما وأبدا حتى ولو كان معقدا من الجميلات .. كما أنه سيكسب رضا أسرته ووالده عندما يتزوج باختيارهم .. وهذا ما فعله ولأنه يملك أحاسيس الشعر فلن يكون شريرا وسيقبل باختيار أسرته له مهما كان المشكلة تمس أحاسيس الشعراء والأدباء .. وهم يدعون للحب والخير والجمال , ويسعون إليها بكل ما أوتوا من قوة في البلاغة والوصف ولكن أغلبهم لا يحاولون معايشة الواقع الذى يحلمون به , لأنهم يفضلون دائما أن يبتعدوا عن تلك القيم والمثل التي يدعون إليها حتى يحافظوا على درجة حبهم القوية لهذه القيم الجمالية خاصة عند المرأة .
وعندما اختار له والده شريكة حياته , لم يناقش ولم يسأل , ولم يستفسر كل ما فعله أنه طلب من والده أن يتأكد من حسن تصرفها معه وأن شرطه الوحيد في شريكه حياته أن تحتمل معه الكثير من الطعم المرير مع القليل من الطعم الجميل .. لأنه بأحاسيس الشاعر بفضل الحياة على هواه فأحيانا يحب الوحدة , وأحيانا بفضل الضوضاء , وغالبا يميل إلى أن يتكلم كثيرا دون مقاطعة , وكثيرا ما يحب أن يطلب كل الأشياء فيسمع كلمات الموافقة والإيجاب حتى لو لم توجد مثل هذه الأشياء .
و" أديب" رغم أنه موظفا عاديا جدا , إلا أنه يحوي بين ضلوعه أحاسيس الشاعر , التي تجعل منه رجلا عاديا وغير عاديا .. وعندما عرف أن والده قد اختار له فتاة في السادسة عشر استحسن الاختيار لأنه سيحاول أن يشكلها على رغباته .. وعندما عرف أنها عاقلة ومطيعة وذات جمال معقول حمد الله كثيرا .. وبدأ يعد نفسه لتلك الحياة .. ومنذ الليلة الأولى لزواجه بها عرف أن أهله أحسنوا له الاختيار , فإن الرجل العادي كثيرا ما يميل إلى المرأة التي تشعره برجولته وبأنها مدفوعة إليه لحاجتها ولحبها له .
والرجل في كل مكان وزمان لا يفضل أن تكون مجرد هيئة بجوار زوجته , أو أن تكون "مرموطا" , لها .. فإذا لم يجد الرجل من تفهمه , فإنه يفضلها بعقلها وحبها واحترامها وطاعتها له .. فكثيرون من الرجال الذين اختاروا الجمال ونسوا العقل ..
ثم عاشوا في مشاكل لم تنته , إلا بأمر من اثنين : أما أن يتحول الرجل إلي مدير أعمال لزوجته , أو أن يذهب معها مرة أخرى إلى المأذون .. وكلتا النتيجتين , لا يفضلهما الرجل ولا يصبر عليها مهما طال الزمن عليه .. و"أديب" نسى "لمياء" وحبه لها لأنه شعر بأن حياته معها ستوصله إلى إحدى النتيجتين .
فاكتفى منها بالذكريات والخواطر , وفضل أن تعيش حياته كرجل .. رجل مع امرأة تقدره وتحبه بتفان وإخلاص .. فالعقل تاج يجب أن تلبسه كل امرأة وأى امرأة تريد السعادة لنفسها ولبيتها يحب أن تفكر بعقلها وتنسى جمالها فليس "أديب" وحده الذي يفضل العاقلات على الجميلات , ولكن الرجال جميعهم يفضلونها "عاقلة" .