2- شهادة المرأة .. بين الوحي والتقول
======================

العقل .. التعقل .. الإدراك .. التفكير .. أكثر الكلمات في مفاهيمها ومضامينها التي اكد عليها الوحي / القرآن في مخاطبة الله ، للبشر ودفعهم لتكون عماد حياتهم وإدراك وتدبر المعاني الإلهية في الدين والدنيا ..
ولكن عديد من المفسرين والفقهاء ، وما إنعكس منهم على " التدين والمنطوق الشعبي " ، لم يأخذوا النص القرآني : بسياقه – أسباب نزوله – الخاص والعام فيه ، عند كثير من تفسيراتهم وشروحهم لمنطوق ومضمون نصوصه ، مع أنهم طرحوا – السياق وأسباب النزول والخاص والعام في طروحاتهم بدون تعمق أو ما ينبغي أن يعكسه ذلك الأخذ على الأحكام - . بل أنهم أسهبوا وتوسعوا في شرحهم معتمدين في ( معظم الحالات ) على مقولات من مأثور الأحاديث (المنسوبة ) للرسول .. تُحمّل النص مالا يحمله ، وتُقَوّله بما لم يقله ، متأثرين في التقول والنقل على إمتداد أكثر من مئتي عام نقلآ وعنعنة عن الرسول ، بمن روى ، وبالمخزون الثقافي الذكوري الجاهلي ، لدرجة أن شروحاتهم وتفسيراتهم تتعارض في أحيان كثيرة في توجهها وإجتهاداتها ، مع مايحمله النص القرآني من معاني ومفاهيم ..
وفي أحد الموضوعات الأثيرة لدى البعض الذكوري ، موضوع شهادة المرأة ، يستمدونها "فقط" من الآية القرآنية .. المسماة " آية المداينة " في سورة البقرة – 282 .
قال الله تعالى :
[ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليُمِل الذي عليه الحق وليتق ربه بالعدل وإستشهدوا شاهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تَضّل أحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا ان تكتبوه صغيرآ أو كبيرآ إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا ] .

في التتبع والتدبر والتفكير وأسباب النزول لمجمل هذه الاية ، نجد أنها مرتبطة :
- بالمعاملات وليس بالعقائد .. والمعاملات هي من الأمور " المتطورة والمتغيرة " في الدين الإسلامي ، كدافع للقول : أنه صالح لكل زمان ومكان ..
- بالكتابة .. " كتابة الدين والإلتزام " . وهو "توجيه إلهي لضمان الحقوق " وليس فرضآ .
- بالشهادة على " ما كتب وعند كتابته " .. أما في المحاكم : فتؤخذ شهادة " من حضر الكتابة .. رجل او عشرة .. إمرأة او عشر ..
هذا الواضح والجلي تمامآ في منطوق ( آية المداينة ) . والرجل والإمرأتان أتت في سياق "توثيق الحقوق " بين المتداينين في : "مجالس عامة ذات فعالية إقتصادية تجارية " ، وفي مكان وزمان إجتماعي ما . حيث كان – ولا يزال بعض الشيئ – وجود الرجال فيها أصحاب النشاط الأول والأوفر " كمهنة " يمارسونها ويفهمونها ويتدبرونها .
من هنا كان موضوع تحديد شهادة المرأة بنصف نصاب عند الكتابة ، هو امر محدد في موضوع ( التداين ) إلى أجل ، وليس من شأنه أن يُقاس عليه أو يمنع غيره . لذلك سميت هذه الآية المحددة في بعض منها شهادة المرأة بنصف النصاب ( بآية المداينة ) .
يقول / إبن قيم الجوزية / في " أعلام الموقعين عن رب العالمين " ج1 م1 :
(( أن النص القرآني حصر قبول شهادة إمرأتين بشهادة رجل واحد ، في التحمل والوثيقة التي يحفظ بها صاحب المال حقه ، لا في طريق الحكم وما يحكم به الحاكم .. فإن هذا شيئ وهذا شيئ)) .

هذا الحصر الذي جاء في النص القرآني ، لايفهم منه أنه رفض لقبول شهادة المرأة أمام المحاكم بنصاب كامل وفي جميع الشؤون ، أو تقييدها المطلق بنصف نصاب في حال قبول شهادتها ..
بينما الحديث الذي رُوي عن / إبن عمر / عن الرسول "ص" ، فيه " تعميم " بتقييد شهادة المرأة في حال قبولها ، بنصف نصاب ( أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ) – صحيح البخاري : كتاب الحيض – رقم 298 م1 .
لذلك .. وبناءآ على " الحديث المنسوب " إلى الرسول عن إبن عمر ، قيد المفسرون والفقهاء شهادة المرأة ، وإتفقوا على قبولها بنصف نصاب في مجال التداول بالأموال كافة مثل :
البيع ، الأجل فيه ، الخيار فيه ، الرهن ، الوصية للمعين ، وهبته ، الوقف عليه ، ضمان المال ، إتلافه ، دعوى رقِ مجهول النسب ، تسمية المهر ، تسمية عوض الخلع .. وفي بعض الشؤون الخاصة بالمرأة . و " رفضوا " شهادتها في الشؤون الأخرى فلم يقبلوا بها حتى ولو بنصف نصاب ..
ومقارنة ذلك مع : ( النصوص القرآنية ) ، نجد أن هذه النصوص قد تعرضت في آيات كثيرة إلى موضوع الشهادة بالنسبة : للمؤمنين والمؤمنات ، والآخرين من غير المسلمين ، بهدف "توثيق" الأمور والوقائع ... ولم يفرق النص القرآني إلا في " آية الدين " فقط بين الرجال والنساء . بمعنى أن النص القرآني لم يُقيد في النصوص الأخرى شهادة المرأة في أمور دون أمور ، بل على العكس أكد على أن شهادتها تصح في جميع الشؤون .
قال الله تعالى :
[[ وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظُ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجآ ]] سورة الطلاق – 2 .
[[ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حَضَر أحدكم الموت حين الوصية إثنان ذوا عدل منكم ، أو آخران من غيركم إن انتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ]] المائدة – 106 .
رجل او إمرأة .. رجلان او إمرأتان .. مسلمان أو غير مسلمين ..
والعديد من الآيات التي تصب في تساوي نصاب الرجل والمرأة عند الشهادة ، مثل :
النساء : 15 – النور : 4 – النساء : 6 – المائدة : 8 – يوسف : 26 – النساء : 135 – النور : 13 – التوبة : 44و45 .
ولقد ناقش المفسرون وجمهور العلماء مدى هذا الشمول ، وإستقر رأي معظمهم على أن ماجاء في النصوص القرآنية على هذه الصيغة – اللغوية – يُعتبر شاملآ للرجل والمرأة دون أي تفريق أو تمييز .. إذا لم يرفق بقرينة " تخصيصية " على أنه موجه للرجال فقط – مثل البقرة :187 و 222،أوموجه للنساء فقط – مثل : المجادلة 1 ، أو يسوي في توجهه بين الرجل والمرأة بصريح العبارة – التوبة 71 ،أو المائدة 38 ، أو آل عمران 195 ...
هذا .. مع وجود حالات كثيرة ومتنوعة وفي مختلف الشؤون ، يمكن أن لايوجد شاهد عليه سوى إمرأة أو إمرأتان ، وبدون شاهد رجل ، فهل لايؤخذ بشهادة الشاهدة أو الشاهدتين وما سيؤدي ذلك إلى ضياع حق او طمس معالم ؟؟ .
كما أن : شهادة المرأة وحدها ، تقبل في رؤية هلال رمضان شأنها شأن الرجل .
وما أستطيع قوله هنا عن " نصف نصاب شهادة المرأة في آية المداينة " .. أنها : تتحدث عن دين خاص ، في وقت خاص ، يحتاج إلى كاتب خاص ، وإملاء خاص ، وإشهاد خاص .. وهي تستثني الإشهاد على البيوع العاجلة الفورية . وهي " لاتخاطب الحاكم / القاضي " بل تخاطب صاحب الدين . وللقاضي الذي يحكم بالبينة واليمين ، بصرف النظر عن جنس الشاهد وعدد الشهود الذين تقوم بهم البينة . فللحاكم / القاضي ، أن يحكم بشهادة رجلين ، او إ مرأتين او رجل وإمرأة أو رجل واحد ، أو إمرأة واحدة .. طالما قامت البينة بهذه الشهادة .

يقول الشيخ الإمام الأكبر / محمود شلتوت / في فتواه عام : 1963 :
(( ان قول الله تعالى : " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان " – البقرة – 282 ، ليس واردآ في مقام الشهادة التي يقضي بها القاضي ويحكم . وإنما هو وارد في مقام الإرشاد إلى طرق الإستيثاق والإطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل ، فالمقام مقام إستيثاق على الحقوق ، لا مقام قضاء بها . والآية ترشد إلى أفضل أنواع الإستيثاق الدي تطمئن به نفوس المتعاملين على حقوقهما . وليس معنى هذا ان شهادة المرأة الواحدة أو شهادة النساء اللاتي ليس معهن رجل ، لايثبت بها الحق ولا يحكم بها القاضي ، فإن أقصى ما يطلبه القضاء هو " البينة " . وقد حقق العلامة / إبن القيم / ان البينة في الشرع أعم من الشهادة وان كل ما يتبين به الحق ويظهره هو بينة يقضي بها القاضي ويحكم . وإعتبار المرأتين في الإستيثاق كالرجل الواحد ليس لنقص عقلها الذي يتبع نقص انسانيتها ويكون أثرآ له ، وإنما هو كما قال / الإمام محمد عبده / " لأن المرأة ليس من شأنها الإشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المفاوضات ، ومن هنا تكون ذاكرتها فيها ضعيفة ... ومن طبع البشر عامة أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويمارسونها ويكثر إشتغالهم بها )) .

وفي محاورة ذاتية .. تنطلق أساسآ من تحديد : السبب / المسببات ، وهو هنا في عالم الإنسان وتجاربه وممارساته : ( عامل النسيان ) ..
[[ أن تضل أحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ]] ..
والضلال هنا بمعنى : النسيان ، الحيرة بين هذا القول أو ذاك ، عدم التأكد التام ...
هذا يعني .. أن " العلة " هنا هو ( النسيان ) كسبب في مكان ما وزمان ما وظرف ما .. وإن وقفنا عند علة النسيان ، نرى :
1- ان النسيان منشؤه بأكثره ، الذاكرة .
2- في العلم التشريحي بدراساته للبنية الفيزيولوجية للمرأة والرجل ، وجد أن الأماكن الخاصة والمتخصصة " بالذاكرة " في المخ ، لكل منهما متطابقة .
3- في العلوم التطبيقية يكون ضعف الذاكرة او قوتها – خارج عن الأمراض – مرتبط تمامآ : " بعملية التركيز والإهتمام " .. فالإهتمام بأمر عند الرجل أو المرأة ، يدفع للتركيز والمتابعة والإنتباه الكامل الذي يلعب الدور الرئيس في تثبيت " تذكر " امر ما . فكم من أمر ما .. لايشكل إهتمام لرجل وقد يكون قد شارك في سماعه أو حتى الكلام فيه ، ولم يعره إنتباهآ ولا إهتمامآ .. وخلال أيام إن لم تكن ساعات ، سينساه أو يضل فيه إذا عاود روايته .. وكذلك المرأة .
4- ان كل ما ورد في : التكاليف والمحاسبة والأوامر والنواهي ، لم يكن فيها " تمييزآ " بين الرجل والمرأة ، بسبب " علة النسيان " . فلا يمكن أن تكون علة النسيان مرتبطة بالمرأة وحدها ، ثم تقدم على أنواع تكون غير مقبولة الشهادة فيها إلا من المرأة . كما لايمكن أن يمنحها الله " حرية " إدارة أموالها والتصرف بها – مثلآ من كثير - ، ولا يمكن أن يحاسبها ، محاسبة الرجال ، وفيها علة النسيان ، ومجبولة عليه ، فيرفع عنها التكليف .
5- [ أن تضل أحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ] .. إن نسيت إحداهما .. أي : ( قد ) تنسى وتضل .. و ( قد ) لاتنسى .. والثانية ، إمرأة أيضآ .. و "لم تنس " ..

وقد علق المفكر / معروف الدواليبي / على هذا الموضوع ، بكلام جميل وعميق ، فقال :
( إن الشريعة الإسلامية إتجهت إلى تعزيز الشهادة في القضايا المالية بصورة مطلقة بشهادة رجل آخر ، إلى جانب الرجل الأول ، حتى لاتكون الشهادة عرضة للإتهام . ولم يعتبر أحد تنصيف شهادة الرجل هنا ، وتعزيزها بشهادة رجل آخر ماسآ بكرامته مادام ذلك التعزيز أضمن لحقوق الناس . وزيادة على ذلك ، فإن شهادة الرجل " وحده " لم تقبل قط حتى في أتفه القضايا المالية . غير ان المرأة قد إمتازت على الرجل في سماع شهادتها " وحدها " دون الرجل ، فيما هو "أخطر " من الشهادة على الأمور التافهة ، وذلك كما هو معلوم في الشهادة على الولادة وما يلحقها من نسب وإرث ) ..

هذه هي عدالة الإسلام في حفظ الحقوق ، وفي توزيعها بالعموم بين الرجل والمرأة ، وهي عدالة تحقق انهما في الإنسانية سواء ..
===================
فائز البرازي
13/9/2009