الأفعى والثعبان

الحبيبة التي أصبحت أفعى... ضحت بكل شيء تأكيداً لحبها في سبيل حبيبها.

وفي عالم الجاسوسية ... من باعت الوطن في سبيل الحب ... ما عزّ عليها بيع أولادها... أو قذفهم إلى وكر الثعابين..

وهذا ما فعلته انشراح بسبب الحب ... !!!


في مدينة المنيا ولدت انشراح علي موسى عام 1937 لأسرة متوسطة الحال .. وبرغم التقاليد المتزمتة في ذلك الوقت دخلت الفتاة الصعيدية المدرسة وواصلت تعليمها حتى حصلت على الشهادة الإعدادية عام 1951.

وبعد نجاحها بأيام قليلة أراد والدها مكافأتها فاصطحبها معه إلى القاهرة لحضور حفل عرس أحد أقاربه.

كانت انشراح ذات وجه مليح وعينان نجلاوان .. وجسد دبت به معالم الأنوثة فبدت أكبر من سنها.. مما لفت الأنظار إليها واخترقتها سهام الباحثين عن الجمال... فكانت تقابل تلك النظرات بحياء فطري غطى ملامحها مما زادها جمالاً فوق جمال.

وفي حفل العرس اصطدمت نظراتها البريئة بنظراته.. فتملكها الخجل وتوردت خدودها أيقظت مشاعرها.. التي غزت عقلها وقلبها لأول مرة.

كان فتاها الذي حرك فيها دماء الأنثى هو إبراهيم سعيد شاهين ابن العريش المولود عام 1929... الذي ما غادر الحفل إلا وعرف عنها كل شيء. وبعد أيام قلائل فوجئت به يطرق باب بيتها في المنيا برفقته والده.. طارت انشراح من السعادة وحلقت بين السحب بخيالها تستطلع مستقبلها الهنيء... فمنذ رأته في الحفل انغرس حبه بصدرها... وباتت ليالي تحلم به وتترقب الليل لتسرح معه طويلاً... وتطوف مع نظراته الحانية في عوالم الأمل... والحبور...

وانزعجت الفتاة الصغيرة عندما اعترضت والدتها في أمر زواجها منه... متحججة ببعد المسافة بين المنيا والعريش... وبكت بحرقة وهي ترى أحلامها الوردية تكاد أن تحقق... ثم سرعان ما تنهار في ذات الوقت .. دون أن تقدر على عمل شيء..

وأمام عيونها الصامتة .. سألها أبوها:

*أتوافقين عليه يا ابنتي.. ؟

فكان في صمتها إجابتها..

وأعلنت الخطبة..

وفي أول حديث مع خطيبها صارحته بأنها أعجبت به مذ رأته في حفل القاهرة... وازداد إعجابها به حينما سعى وراءها حتى المنيا ليطلب يدها.

وأكد لها الشاب الولهان أنه تمناها زوجة له منذ النظرة الأولى.. ويومها عاهد ربه ألا تضيع منه أبداً..

وفي حفل أكثر من رائع انتقلت انشراح إلى بيت الزوجية في العريش... تملؤها السعادة بحبيبها الذي أيقظ فيها مشاعر دفينة لم تكن تدركها... وأرسل إلى قلبها سهام الحب فأسلمت إليه نفسها.. وتدفقت موجات متلاحقة من الحب مع كل نبضة من نبضات قلبها الصغير.

كان إبراهيم شاهين يعمل كاتب حسابات بمكتب مديرية العمل بالعريش... وهو أيضاً لم يحصل سوى على الإعدادية مثلها... لذلك... اتفق وانشراح على أن يواصل أولادهما تعليمهم حتى أعلى الشهادات العلمية... وأصبح هذا الأمل هو هدفهما الذي يسعيان اليه ويعملان على تحقيقه مهما كانت الظروف.

ومرت بهما الشهور حلوة هنيئة تحفل بالبشاشة والانسجام...
وفي أواخر عام 1955 زرقا بمولدهما الأول "نبيل"... ثم جاء المولود الثاني محمد عام 1956، ثم عادل في 1958، فعظم حبه لها لأنها ملأت عليه الدنيا بهجة... وملأت بيته بضجيج الأبناء الثلاثة... وهكذا سارت بهما الحياة ترفل في أهازيج الفرح وأغاريد الوئام.

وفي عام 1963 أرسلا بأولادهما إلى عمهم بالقاهرة ليواصلوا الدراسة هناك... وليعيشوا حياة رغدة بعيداً عن مظاهرة البداوة وظروف الحياة الأقل حظاً من العاصمة.. وفي أكتوبر 1966 ضبط إبراهيم يتلقى الرشوة وحبس ثلاثة أشهر.. خرج بعدها ليكتشف مدى قسوة الظروف التي تمر به... والمعاناة الشديدة في السعي نحو تحقيق آماله في الارتقاء والثراء.

في يونيو حزيران ـ 1967– اجتاحت إسرائيل سيناء واحتلتها... وأغلقت فجأة أبواب السبل أمام السفر إلى القاهرة... فتأزمت انشراح نفسياً قلقاً على أولادها... وكانت كلما نامت تراهم في المنام يستغيثون بها فتصرخ وتستيقظ... ويحتضنها الزوج الملتاع في حنان ويهدئ من روعها... وإن كان هو الآخر لا يقل عنها قلقاً واشتياقاً لهم.

هكذا تظل انشراح تبكي معظم الليل والنهار حتى قارب عودها على الذبول.. وأوشك جمالها أن ينطفئ.. ووجد إبراهيم أن الحياة في العريش كما لو كانت في الأسر.. فالحزن يخيم على البيت الذي ما عرف إلا الضحك والفرح.. والمعيشة أضحت في أسوأ حال.. فمنذ الغزو وهو عاطل عن العمل لا يملك المال الذي يشتري به أبسط الأشياء.. كالشاي.. والشاي عند البدوي يعد من الضروريات الأساسية في حياته... فاستعاض عنه إبراهيم بعشب بري يعرف باسم "المرمرية" له مذاق طيب.. وأصبحت المرمرية مشروباً مستقلاً في بيته بعدما كانت وريقاتها تضاف إلى الشاي كالنعناع.

وسط هذا المناخ كانت المخابرات الإسرائيلية تعمل بنشاط زائد.. وتسعى لتصيد العملاء بسبب الضغوط المعيشية الصعبة وظروف الاحتلال... فالاحتلال الفجائي لسيناء وقع على سكانها كالصاعقة، فاختنقت نفوس الأهالي برغم اتساع مساحات الأرض والجبال... ولكونهم ذوي تقاليد بدوية ومحبين للحركة والتجوال والتنقل، أحسوا بثقل الأمر ولم يطيقونه ... لكن الظروف التي وضعوا فيها اضطرتهم إلى محاولة تحملها لثقتهم أنها أزمة لن تطول. لكن ما كان يحز في نفوسهم هو تضييق الخناق عليهم في المعيشة والتنقل.. فكانت التصاريح التي يمنحها الحاكم العسكري الإسرائيلي لا تتم بسهولة... وأصبح السفر إلى القاهرة يحتاج لمعجزة من السماء. فالتعنت في منح التصاريح بلغ منتهاه.. واشتدت عضات الغضب في الصدور.. إلى جانب آلام الجوع التي تنهش الأبدان وتجتث الصبر والقوة.
وفي بئر السبع تغير المشهد.. إذ تحول إبراهيم شاهين من مواطن يسعى للحصول على تصريح بالسفر إلى القاهرة .. إلى جاسوس لإسرائيل وعيناً لها على وطنه.

تناقض شاسع بين الحالين يدعونا للبحث في تقلبات النفس البشرية التي لا يعلم سرها إلا الله..

أخضع الجاسوس الجديد لدورة تدريبية مكثفة تعلم أثناءها الكتابة بالحبر السري وتظهير الرسائل.. ووسائل جمع المعلومات من الأهل والأصدقاء... درب أيضاً على كيفية التمييز بين الطائرات والأسلحة المختلفة.. واجتاز العميل الدورة بنجاح أذهل مدربيه... فأثنوا عليه ووعدوه بالثراء وبالمستقبل الرائع... وبحمايته في القاهرة حتى وهو بين ذويه ... فعيونهم في كل مكان لا تكل.

دربوه أيضاً على كيفية بث الإشاعات وإطلاق النكات السياسية التي تسخر من الجيش والقيادة .. إلى جانب الاحتراز وامتلاك الحس الأمني العالي، ولقنوه شكل الاستجواب الذي سيتعرض له حال وصوله القاهرة من قبل أجهزة الأمن، وكيف ستكون إجاباته التي لا تثير الشكوك من حوله.

وعندما رجع إلى بيته محملاً بالهدايا لزوجته وأولاده... دهشت انشراح وسألته عن مصدر النقود .. فهمس لها بأنه أرشد اليهود عن مخبأ فدائي مصري فكافئوه بألف دولار... ووعدوه بمنحه التصريح خلال أيام.

بهتت الزوجة البائسة لأول وهلة .. ثم سرعان ما عانقت زوجها سعيدة بما جلبه لها .. وقالت له في امتنان:

*كانوا سيمسكونه لا محالة ... إن عاجلاً أم آجلاً...

فسألها في خبث:

*ألا يعد ذلك خيانة .. ؟

فغرت فاها وارتفع حاجباها في استنكار ودهشة وأجابته:

*
مستحيل ... كان غيرك سيبلغ عنه ويأخذ الألف دولار... أنت ما فعلت إلا الصح.

غمغم إبراهيم كأنه مستاء مما فعل وأضاف:


· لقد عاملوني بكرم شديد... ووعدوني بالكثير بسبب إخلاصي.. وتعهدوا بحماية أهلي وأقاربي إذا ما تعاونت معهم في القاهرة ...

صرخت انشراحفي هلع:

*
تعاونت معهم في القاهرة .. ؟ يانهار اسود يا إبراهيم .. كيف .. ؟
· تقدم نحوها

يغلق فمها بيده:

*
طلبوا مني موافاتهم بأسعار الخضر والفاكهةفي مصر نظير 200 دولار لكل خطاب. أذهلها المبلغ فسرحت بخيالها وألجمها الصمت ثمقالت له فيما يشبه الهمس:

*
أنا خائفة.

جذبها إلى صدره واحتضنهابقوة وأخذ يردد:

* أنا لا أملك عملاً الآن وليس لي مورد رزق... وبالمعلوماتالتافهة التي طلبوها سآخذ الكثير وسنعيش في مأمن من الفقر... ثم إنني لست عسكرياًحتى أخاف على نفسي... ولأنني رجل مدني فمعلوماتي ستكون هزيلة ولن تفيدهمبشيء.

وظل الثعبان ينفث السم الزعاف في أذني زوجته حتى هدأت.. وشمل المنزلسكون لا يقطعه إلا صوت ارتطام الرغبة .. وتصادم جسدان يلهثان بفعل رعشات الشوقوحرارة اللقاء.

وبعدما هدأت الأنفاس وجف العرق... وارتمت الأعضاء تتوسلالراحة.. لامست بخدها خده ... ولفح وجهه شعرها الناعم الرطب... وأعلنتالمفاجأة التي شلت تفكيره... وتركيزه أيضاً...

قالت له: كي لا أكونقلقة خائفة... بجب عليك أن تخبرني بكل شيء ترسله وتوعدني بشطب أية معلوماتلا داع لإرسالها لهم.

وافقها إبراهيم على الشرط النهائي ... فنامت قريرة العين تتوسد ذراعه... واستغرق هو في تفكير عميق .. بينما أنفاسهاالمنتظمة الرتيبة تشبه فحيح أفعى تتربص بفريستها.


في 19نوفمبر 1967 وصل إبراهيم وانشراح إلى القاهرة بواسطة الصليب الأحمر الدولي .. فمنحسكناً مجانياً مؤقتاً في حي المطرية .. ثم أعيد إلى وظيفته من جديد بعدما نقلتمحافظة سيناء مكاتبها من العريش إلى القاهرة.

وبعدما استقرت الأمورقليلاً... انتقل إبراهيم إلى حي الأميرية المزدحم .. ومن خلال المحيطين به في العملوالمسكن ...بدأ في جمع المعلومات وتصنيفها.. وكانت زوجته تساعده بتهيئة الجو الآمنلكتابة رسائله بالحبر السري.. وكثيراً ما كانت تعيد صياغة بعض الجمل بأسلوب أفضل .. وتكتب أيضاً حياتها إلى الموساد على أنها شريكة في العمل... واعتاد إبراهيم أنيختتم رسائله بعبارة: "تحيا إسرائيل العظمى ...موسى".

ولأجل التغطية اتجهإلى تجارة الملابس والأدوات الكهربائية .. وبواسطة المال والهدايا إلى رؤساءه كان يتغيب كثيراًعن العمل غالبية أيام الأسبوع، وتتواصل الرسائل إلى روما مزدحمةبالأخبار.. مما حدا برجال الموساد إلى دعوته إلى روما لاستثمار هذا الثنائي الرائعفي مهام أكثر أهمية ..

وفي أغسطس 1968 وتحت ستار التجارة لا أكثر ... أبحرالثعبان والحية إلى لبنان... ومنها طارا إلى روما حيث التقيا بمندوب الموساد الذيسلمهما وثيقتي سفر إسرائيليتين باسم موسى عمر ودينا عمر .. وعلى طائرة شركة العالالإسرائيلية طارا إلى مطار اللد...

كان استقبالهما في إسرائيل بالغ الحفاوةوالترحيب... إذ عوملا معاملة كبار الزوار... وأنزلا بفيلا خيالية في تل أبيب مكثابها ثمانية أيام .. حصلا خلالها على دورة تدريبية مكثفة في تحديد أنواع الطائراتوالأسلحة .. والتصوير الفوتوغرافي.. وجمع المعلومات .. ومنح إبراهيم رتبة عقيد فيالجيش الإسرائيلي باسم موسى . أما انشراح فقد منحت رتبة ملازم أول باسمدينا.

وفي مقابلة مع أحد القيادات العليا في الموساد .. أكدت انشراح علىضرورة زيادة المكافآت لاشتراكها في العمل يداً بيد مع إبراهيم... ووصفت له صعوبةجمع المعلومات ما لم يشتركا معاً في جمعها وتصنيفها .. وأفاضت في سرد العديد منالحيل التي تقوم بها لانتزاع المعلومات من العسكريين الذين صادقهم زوجها ويجيئونلمنزلهم.. ومن ذلك أنها تعلن بمرارة مدى كراهيتها للإسرائيليين وتنتظر يوم الانتقاممنهم .. ولأنهم يتحدثون مع امرأة جميلة سرعان ما تنفك عقدة ألسنتهم ... وتخرجالأسرار منهم بسهولة ... خاصة والخمر تدغدغ الأعصاب وتذهب بالعقل.

ونظراًلأهمية المعلومات التي حصلوا عليها من خلال الجاسوس وزوجته... فقد قرروا لهمامكافأة سخية وأغدقوا عليهما بآلاف الدولارات التي عادا بها إلى القاهرة .. حيثاستغلا وجودهما وسط حي شعبي فقير في عمل الصداقات مع ذوي المراكز الحساسة من سكانالحي... وإرسال كل ما يصل إليهما من معلومات إلى الموساد فوراً..

لقد برعاخلال حرب الاستنزاف – 1967 – 1970 – في التحليل والتصنيف، وتصوير المنشآت العسكريةأثناء رحلات للأسرة بالسيارة الجديدة فيات 124.

يقول الابن الأصغر عادل فيحديث نشرته جريدة معاريف الإسرائيلية عام 1997:

ـ "لن أنسى ذلك اليومالملعون من صيف 1969 طيلة حياتي ... فقد استيقظت مبكراً على صوت همسات تنبعث منحجرة نوم والدي... كان أبي وأمي مستغرقين في نقاش غريب...وكانت أمي تمسك في يدهاحقيبة جلدية بينما كان أبي يحاول إدخال كاميرا إلى داخلها لم أر مثلها من قبل فيذلك الحين، كانت أمي غاية في العصبية وقالت له: لا ليس كذلك... هكذا سيرونالكاميرا. فأخرج أبي الكاميرا وأدخلها مرات ومرات إلى الحقيبة.. فجلست أنظر إليهماوهما يتناقشان ... ثم قال لي أبي: نحن ذاهبون إلى رحلة إلى الإسكندرية. كانا غاية فيالقلق... ولم أرهما متوترين إلى هذا الحد من قبل، أخذ أبي يتصبب عرقاً كلما ابتعدناعن القاهرة، إلى أن بلل قميصه تماماً كلما ابعتدنا أكثر فأكثر من القاهرة. وكانيتبادل الكلمات مع أمي بصعوبة، وصمتنا نحن أيضاً لشعورنا أن هذه الرحلة ليست ككلرحلة. وفي تلك الفترة كانت هناك قواعد عسكرية ومصانع حربية كثيرة متناثرة حول الطرقالرئيسية في مصر. لم تخف السلطات شيئاً. ربما كنوع من استعراض القوة. وعندما بدأنافي الاقتراب من إحدى القواعد العسكرية أخرجت أمي الكاميرا وأمرها أبي قائلاً: "صوري بسرعة صوري ... صوري".
· فقالت له وأصابعها ترتعش: "سنذهب إلى الجحيم بسببك". وحركتأمي الجاكيت المعلق على النافذة وبدأت في التصوير، وامتلأت السيارة الصغيرةبصرخاتها الممزوجة بالخوف. فأجابها أبي بنفس اللهجة: "هذه نهايتنا". واستمرت أمي فياحتجاجها قائلة: "سنذهب إلى السجن". وفي النهاية نظر أبي اليها بعيون متوسلة: "عدةصور أخرى... فقط عدة صور أخرى".

وحاول "محمد" أن يسأل ما الذي يحدث لكن الردالذي تلقاه كان "اسكت" فلم نسأل أية أسئلة أخرى بعد ذلك.

ـ عدنا إلى البيت إلىفي ذلك اليوم. وعلى الفور أغلق أبي حجرته على نفسه وبعد فترة طويلة خرج وعانق أميوقال لها: "يا حبيبتي لقد قمت بالتقاط صور رائعة للغاية". وبكت أمي وقالت له: "إلىهنا يجب أن نشرح الأمر للأولاد". وكنا ما زلنا في صدمة وغير مدركين لهذه الجلبةالتي تحدث.

ـ وتحولت الرحلات الأسرية في أنحاء مصر إلى روتين... وكنا نخرجفي نهاية كل أسبوع وكنا نسافر إلى الأقصر، وأسوان، ليس هناك مكان لم نذهب إليه.. وأحياناً كان أبي يحصل على إجازة في وسط الأسبوع وكنا نسافر لعدة أيام... وقد صورتقواعد ومنشآت عسكرية في مصر... وكان أبي يسجل عدد الكيلو مترات في الطريق... وبذلكيحدد موقع المصانع والقواعد العسكرية... وكنا نحن الأولاد أفضل تغطية".

تعددت زيارات إبراهيم وانشراح إلى روما... بعضها كان باستدعاء منالموساد.. والبعض الآخر كانت لاستثمار عشرات الآلاف من الدولارات التي حصلوا عليهامن جراء عملهما في التجسس.

وفي إحدى هذه الزيارات.. قررا إشراك ولديهمالزيادة الدخل بتوسع حجم النشاط... ولم يكن من الصعب عليهما تنفيذ ما اتفقاعليه..

يقول الابن عادل في حديثه المنشور بجريدة معاريف: "عاد أبي وأمي ذاتمساء من روما يحملان لنا الملابس الأنيقة والهدايا... وأحسست من خلال نظراتهمالبعضيهما أن هناك أمراً ما يجري الترتيب له وعرفت الحقيقة المرة عندما أجلسني أبيقبالته أنا وأخويّ .

· وقال في حسم:

مررنا كثيراً بظروف سيئة.. لم نكن نملكأثناءها ثمن رغيف الخبز.. أو حفنة من الملح.. والآن نعيش جميعاً في رغد من العيش... ويسكن حوالينا أولاد في عمركم يحيون جوعى كالعبيد... أما أنتم فتنعمون بكل شيءكالملوك. ولم تسألوني يوماً من أين جئت بكل هذا.. ؟

إن عملي في الحكومة .. وتجارتي أنا وأمكم وشقائي طوال تلك السنوات لم يكن هو سبب النعيم الذي نحن جميعاًالآن... والحقيقة .. أن هناك أناساً يحبوننا للغاية.. وهم هؤلاء الذين يرسلون لناالهدايا والمال... وبفضلهم لدينا طعام طيب وملابس جميلة.. إنهم الإسرائيليون... وهمالذين أنقذوا حياتنا من الجوع والضياع... وأمنوا لنا مستقبلاً مضموناً يحسدنا عليهكل من نعرفهم.

حدث ذلك في صيف 1971، وكنت وقتها في الثالثة عشر من عمري،وكان أخي نبيل يكبرني بعامين تقريباً وأخي محمد بعام واحد.

وكطفل ... لم أعرالأمر أهمية خاصة ... لحقيقة أن أبي "يعمل" مع الإسرائيليين.. ومثل كل الأولاد... كنت قد كبرت وتربيت على كراهية اليهود... لكن في البيت تلقيت تربية أخرى ... فقدعرفت أن الإسرائيليين هم المسئولون عن الطعام الذي آكله... وعن الملابس الجديدةالتي أرتدي... وعن الهدايا التي أتلقاها... لذلك .. سعدت لأنني كنتمحظوظاً.

وكلما كبرت .. بدأت أدرك معنى "عمل" أبي .. وبدأ الخوف ينخر أكثروأكثر في عظامي... فقد كانت كماشة من الموت تطبق علينا... وكفتى بالغ أدركت أنهم لوضبطونا سيتم شنقنا.. من ناحية أخرى كان الخوف من حياة الفقر يصيبني بالشلل... فقدكنت ملكاً لديه كل شيء".

هكذا انخرطت الأسرة كلها في التجسس... وأصرت انشراحعلى الانتقال من الحي الشعبي الفقير إلى آخر رقياً وثراء... وعندما عارض زوجها قالتله: دعنا نستمتع بالحياة فربما ضبطونا.

وفي النهاية انتقلوا إلى فيلا فاخرةبمدينة نصر.. ونقل نبيل ومحمد وعادل مدارسهم إلى الحي الراقي الجديد.

احتفظإبراهيم شاهين بعلاقاته القديمة وأقام أخرى جديدة... وامتلأ البيت مرة أخرىبالأصدقاء من رجال الجيش والطيارين... وتحول أولاده إلى جواسيس صغار يتنافسون علىجلب المعلومات من زملائهم أبناء الضباط في المدرسة والشارع... ومناوبة الحراسةريثما ينتهي أباهم من تحميض الأفلام... فكان نبيل يتولى المراقبة من الخارج... وعادل من داخل البيت ... وحصل نبيل على أدوار أكثر جدية.. فكان أبوه يسمح له بكتابةالرسائل بالحبر السري وتظهيرها... وصياغة التقارير وتحميض الصور.

وذات مساءبينما هم جميعاً أمام التليفزيون ... عرض فجأة فيلم تسجيلي عن أحد الجواسيس الذيانتهى الأمر بإعدامه شنقاً.. وطوال وقت عرض الفيلم انتابتهم حالة صمت تضج بالرعبوالفزع... واستمروا على تلك الحال لأسابيع طويلة.. امتنعوا خلالها عن كتابةالتقارير أو الرسائل... حتى تضخم لديهم الخوف وأصيبوا بالصداع المستمر.. ومرضإبراهيم فاضطرت انشراح للسفر وحدها إلى روما تحمل العديد من الأفلام... خبأتها داخلمشغولات خشبية.

كانت الرحلة إلى روما ضروريةً للخروج من أزمتهاالنفسية السيئة.. وفي الوقت نفسه لتطلب من رجال الموساد السماح لهم بالتوقف عنالعمل... فلما التقت بأبي يعقوب ضابط الموساد الداهية... قصت عليه معاناتهم جميعاًومدى الخوف الذي يسيطر على أعصابهم.. فطمأنها الضابط ووعدها بعرض الأمر على الرئاسةفي تل أبيب.. وصحبها إلى ناد ليلي فرقصت وشربت لتنسى همومها.. وعادت معه آخر الليلثملة لا تعي ما حولها.. وفي الصباح وجدت نفسها عارية بين أحضانه فبكت... ومع أحضانهالدفيئة تكرر المشهد وهي بكامل وعيها.. فذاقت طعماً جديداً لا تعرفه.. ولمتتذوقه مع زوجها الذي انشغل عنها ولم يعد يهتم بها... بعدها عادت إلى القاهرة تحملآلاف الدولارات. في روما طلبت من أبو يعقوب أن يرسل في طلبها بمفردهافي المرات القادمة.

هكذا. لقد نسيت انشراح رغبتها في اعتزال الجاسوسية... واستمرأت مذاقات اللذة الجامحة مع ضابط الموساد الذي لم يبخل عليها بالدولارات والحنان... وبالرغم من أن ما حدث يخالف وظيفة ضابط المخابرات ومهامه... إلا أنه مالجأ إلى ذلك سوى لرغبته في احتوائها... وضمان ولائها لإسرائيل.

وفي أكنوبر 1973 ذهبت انشراح بمفردها في رحلة أخرى إلى روما .. فاستقبلها أبو يعقوبالمسؤول عن توجييها واستلام التقارير والأفلام منها.. وفيذات الوقت كان الضابط الإسرائيلي مكلف بألا يتعدى أية حدود مع الجاسوسة المصريةويعود بسرعة... فاجأها أبو يعقوب بنبأهجوم الجيش المصري والسوري على إسرائيل... وأن احتمال القضاء على دولة اليهود أصبحوشيطاً. كان يقول لها ذلك وهو يبكي ويرتعد جسده انفعالاً.. فأخذت تواسيه وتبكيلأجله ولأجل إسرائيل... الدولة الصغيرة التي يسعى العرب لتدميرها (!!).

وفيأبريل 1974 اقترحت انشراح على أسرتها السفر إلى تركيا للسياحة.. وبينما هم في أنقرةاتصل بهم أبو يعقوب وطلب من إبراهيم أن يسافر إلى أثينا لمقابلته. ومن هناك سافرإلى إسرائيل. وفي مبنى المخابرات الإسرائيلية
· سألوه:

*كيف لم تتبينالاستعدادات للحرب في مصر؟

*فأجابهم: لم يكن هناك إنسان قط يستطيع أن يتبينأية استعدادات. فبعض معارفي وأقاربي من ضباط القوات المسلحة تقدموا بطلبات لزيارةالكعبة للعمرة.
· وأضاف إبراهيم:

في حالة ما إذا كنت قد علمت بنيةالحرب فكيف أتصل بكم ...؟ فالخطابات تأخذ وقتاً طويلاً وهي وسيلة الاتصال الوحيدةالمتاحة.

وبعد اجتماع مطول قرر قادة الموساد تسليم إبراهيم أحدث جهاز إرساللاسلكي في العالم يتعدى ثمنه المائة ألف دولار. فلقد كانت لديهم مخاوف تجاه الفريقسعد الدين الشاذلي الذي يريد تصعيد الحرب... والوصول إلى أبعد مدى في سيناء مهماكانت النتائج... عكس السادات الذي كان يريدها حرباً محدودة.

دُرب إبراهيملمدة ثلاثة أيام على كيفية استخدام الجهاز... وعندما تخوف من حمله معه إلىالقاهرة.. عرضوا عليه أن يذهب إلى الكيلو 108 طريق القاهرة السويس الصحراوي. وهناكسيجد وعاء مياه كبيرة مثقوب وغير صالح للاستخدام... وخلفه جدار أسمنتي مهدم عليهأن يحفر في منتصفه لمسافة نصف المتر ليجد الجهاز مدفوناً. وأخبره ضابط الموسادالكبير أن راتبه قد تضاعف، وأن له مكافأة مليون دولار إذا ما أرسل للإسرائيليين عنيقين بميعاد حرب قادمة.

عاد إبراهيم إلى أثينا ثم أنقره حيث تنتظرهالأسرة... فقضوا أوقاتاً جميلة يستمتعون بالمال الحرام وبثمن خيانتهم.

عندما رجعوا إلى القاهرة استقلوا السيارة إلى الكيلو 108 وغادرت انشراحالسيارة وبيدها معول صغير...وظلت تحفر إلى أن أخرجت الجهاز... فنادت على ابنها عادلالذي عاونها وحمله إلى السيارة ملفوفاً في عدة أكياس بلاستيكية... وعندما ذهبوابالجهاز إلى المنزل أراد إبراهيم تجربته بإرسال أولى برقياته فلم يتمكن من إكمالرسالته.. بعدما تبين له أن مفتاح التشغيل أصيب بعطل (ربما نتيجة الحفربالمعول).

حزن الجميع... لكن انشراح عرضت السفر لإسرائيل لإحضار مفتاحجديد.. وسافرت بالفعل يوم 26 يوليو 1974 ففوجئ بها أبو يعقوب ودهش لجرأتها... وأرادالاحتفاء بها فأقام حفلاً صاخباً ماجناً على شرفها انتهى بليلة حمراء... ومنحها مكافأة لها 2500 دولار مع زيادة الراتب للمرة الثالثةإلى 1500 دولار شهرياً (كان مرتب الموظف الجامعي حينذاك حوالي 17جنيهاً).

وأثناء وجود انشراح في إسرائيل تائهة بين أحضان ضابط الموساد، كانتهناك مفاجأة خطيرة تنتظرها في القاهرة فعندما كان إبراهيم يحاول إرسال أولى برقياتهإلى إسرائيل بواسطة الجهاز – استطاعت المخابرات المصرية التقاط ذبذبات الجهازبواسطة اختراع سوفييتي متطور جداً اسمه (صائد الموجات) وقامت القوات بتمشيط المنطقةبالكامل بحثاً عن هذا الجاسوس. ومع محاولة تجربة الجهاز للمرة الثانية أمكن الوصوللإبراهيم بسهولة.

وفي فجر 5 أغسطس 1974 كانت قوة من جهاز المخابرات المصريةتقف على رأس إبراهيم النائم في سريره. استيقظ مذعوراً وفي الحال دون أن توجه إليهكلمة واحدة في هلع:

أنا غلطان ... أنا ندمان .. الجوع كان السبب ... النكسةكانت السبب... اليهود جوعوني واشتروني بالدقيق والشاي.

ولما فتشوا البيتعثروا على جهاز اللاسلكي ونوتة الشفرة... والتزم إبراهيم الصمت... وكان بدنه كلهيرتجف... سحبوه في هدوء للتحقيق معه في مبنى المخابرات العامة، بينما بقيت قوة منرجال المخابرات في المنزل مع أولاده الثلاثة تنتظر وصول انشراح، تأكل وتشرب وتنامدون أن يحس بهم أحد.

وعلى طائرة أليطاليا رحلة 791 في 24 أغسطس 1974، وصلتانشراح إلى مطار القاهرة الدولي قادمة من روما بعد شهر كامل بعيداً عن مصر، تدفعأمامها عربة تزدحم بحقائب الملابس والهدايا، ونظرت حولها تبحث عن زوجها فلم تجده،فاستقلت تاكسي إلى المنزل وهي في قمة الغيظ... وعندما همت بفتح الباب اقشعر جسدهافجأة، فدفعت بالباب لا تكترث... لكنها وقفت بلا حراك... تقدمأحدهم... وأمسك بحقيبة يدها وأخرج منها مفتاحين للجهاز اللاسلكي بدلاً من مفتاحواحد. وكانت بالحقيبة عدة آلاف من الدولارات دسها الضابط كما كانت .. وتناول القيدالحديدي من زميله وانخر ست الكلمات على لسانها فكانت تتمتم وتهذي بكلمات غير مفهومة ... وقادوها مع أولادها إلى مبنى المخابرات وهناك جرى التحقيق مع الأسرةكلها.

ولما كانت المخابرات الإسرائيلية لا تعلم بأمر القبض على أسرةالجواسيس... وتنتظر في ذات الوقت الرسالة التي سيبعث بها إبراهيم ليطمئنوا علىكفاءة عمل الجهاز ... فوجئت الموساد بالرسالة.. لم تكن بالطبع من إبراهيم بلأرسلتها المخابرات المصرية.

"
أوقفوا رسائلكم مساء كل أحد... لقد سقط جاسوسكموزوجته وأولاده، وقد وصلتنا آخر رسائلكم بالجهاز في الساعة السابعة مساء الأربعاءالماضي".

وفي 25 نوفمبر 1974 صدر الحكم بإعدام انشراح وزوجها شنقاً، والسجن 5 سنوات للابن نبيل وتحويل محمد وعادل لمحكمة الأحداث.

وفي 16 يناير 1977سيق إبراهيم إلى سجن الاستئناف بالقاهرة لتنفيذ الحكم، كان لا يقو على المشي... وإلى حجرة الإعدام كان يجره اثنان من الجنود وساقاه تزحفان خلفه بينما هو يضحك فيهستيريا ثم يبكي... وبعدما تيقن من أنه سوف يُعدم أخذ يردد آيات من القرآن الكريمبكلمات غير مفهومة ثم صاح في انهيار: سامحني يا رب... وتلا عليه مأمور السجن منطوقالحكم .. ثم ردد الشهادتين وراء واعظ السجن ... عندئذ عرضوا عليه آخر طلب له قبلإعدامه فطلب سيجارة.. وبعد أن انتهى من تدخينها جروه جراً إلى داخل غرفة الإعدام ... فقام عشماوي بتقييد يديه خلف ظهره... ثم ألبسه الكيس الأسود ووضع الحبل فيرقبته ... وشد ذراعاً فانفتحت طاقة جهنم تحت قدميه... وظل الجسد معلقاً في الهواءيتأرجح إلى أن همد وسكن... واستمر النبض ثلاث دقائق وعشر ثوان بعد التنفيذ ... حتىأعلن طبيب السجن وفاة الجاسوس الذي ظل يتعامل مع الموساد طوال سبعسنوات.

أما انشراح فقد تضاربت الأنباء في حينها عن شنقها هي الأخرى .. ولكنفي 26 نوفمبر 1989 نشرت صحيفة "حداشوت" الإسرائيلية قصة تجسس إبراهيم على صفحاتهاالأولى ... وذكرت الصحيفة أن ضغوطاً مورست على الرئيس السادات لتأجيل إعدام انشراحبأمر شخصي منه... ثم أصدر بعد ذلك عفواً رئاسياً عنها .. وتمكنت انشراح (في صفقة لمتعلن عن تفاصيلها) من دخول إسرائيل مع أولادها الثلاثة... حيث حصلوا جميعاً علىالجنسية الإسرائيلية واعتنقوا الديانة اليهودية.. وبدلوا اسم شاهين إلى (بن ديفيد) واسم انشراح إلى (دينا بن ديفيد) وعادل إلى (رافي) ونبيل إلى (يوسي) ومحمد إلىحاييم!!!
· ــــــــــــــــــــــــــــ
· قصة واقعية
· الحدث منقول وكتبت بتصرف