وجوه لا تنسى..


تطاول برأسه فوق أكتاف الرجال المحيطين به، يحاول جاهداً أن يتبين من خلال نافذة صندوق سيّارة (الجيب) المغلقة التي تحملهم، أين تمضي بهم؟



حدّق بإصرار عبر نظارته السميكة، تراكضت حوله أبنية كثيرة، واستطاع أن يميّز بوضوح امتداد خط أبيض ينصّف الشارع العريض..
ضجيج سيارات، وزحمة ناس.. ووجه فاطمة.!
تشّد منديلها الأبيض وتركض، تتعّثر بثوبها الطويل المزركش بالأحمر والأخضر إلى جانب السيارة.. تارة تنوء بحمل ما في بطنها، وتارة تقاتل أذرع المدّججين بأسلحة فولاذية لتصل إليه، وتناوله كنزة الصوف وبعض أقراص الكعك، ولن تنسى أن تدّس أدويته الضرورية، قطرة العيون (وكبسولات) ضبط ضغط الدم الذي عانى من ارتفاعه منذ مدّة ليست قصيرة، وعليه أن يتناول بانتظام في كل صباح قرصاً منها، وأن يواظب على تقطير عينيه قطرتين لكل عين ثلاث مرات في اليوم، فقد أوشك "كما قال طبيب الوكالة" أن يفقد بصره..
فاطمة.!
لاشّك أنه تخيّل صورتها.! فهي تدرك أن الأمور تبدّلت..
كانت تعرف فيما مضى وفي كل مرّة تحمله سيارة الجيب أن أمر غيابه سيطول..
لكنّها لا تعرف أنهم يأخذونه في كل مرّة إلى مكان مختلف عن سابقه، ولا تعرف تماماً ما يجري في غرف التحقيق، وسراديب المعتقلات، ولا تعرف أن اسمه يحتل صفحة كاملة في دفتر ضخم، غلافه أحمر، مكتوب على جلدته بخط عريض "الإرهابيون الخطرون".!
ابتسم بسخرية، فاهتزّت نظّارته السميكة المغروزة على قمّة أنفه، ضرب يده على فخذه فانتفض الشاب الجالس قبالته..
رسم على شفتيه ابتسامة حانية.!
ذلك الدفتر الأحمر.!
يجده في كل مكان يساق إليه، ويسمع، صفقات كفّ المحقق، تضرب على جلدته بقوّة قبل أول سؤال يطرح عليه حفظه عن ظهر قلب:
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أين كنت ما بين الساعة كذا وكذا من يوم كذا.؟ ومن يشهد على ذلك.؟ انتبه، لا نقبل شهادة الأقرباء ولا الجيران.!
أغمض عينيه الضعيفتين، واحتفظ متلذذاً بابتسامة لم تفارق شفتيه..
فاطمة..!
لا شك أن الأمر اختلط على كليهما، إذ كيف يخطر على باله أن فاطمة دون سواها هي التي تركض إلى جانب السيّارة.؟ وفي هذا المكان، وهذا الوقت.؟
إنه على يقين أنهم وبعد هذا العمر وما جرى فيه أحسّوا بواجب تكريمه..
انفرجت أساريره أكثر، وراح يبحلق ويقترب برأسه مدقّقاً في وجوه المحمولين معه في صندوق الجيب..
يعرفهم.؟
يحسّ أنه يعرفهم.. الشاب الجالس قبالته بسترته الفضفاضة، ربما استعارها من أحد أصدقائه، هو أيضاً يفعل ذلك غالب الأوقات..
"ابتلع ضحكة كادت تفلت من بين شفتيه" وتشاغل بالتحديق عبر زجاج النافذة الضيّقة، لكنّ عينيه فشلتا في تحديد وجهة انطلاق الجيب..
لم يهتم كثيراً، بل بدا مطمئناً، ومنتشياً..
حدّق مرة أخرى في الوجوه السمراء الشابّة المحيطة به، راسماً أعرض ابتسامة عثر عليها بين تفاصيل وجهه المحفورة بسكاكين الزمن، المليئة أخاديد متقاطعة، نازلة صاعدة تروي ولا تتوقف حكاية تاريخ طويل وحزين..!
إبراهيم الكسواني.. طراز فريد من الرجال.. صلب عنيد ومشاكس..
حتى في أيام طفولته الأولى، استطاع أن يفرض على أسرته ما يريد، ترك المدرسة بعد حصوله على الشهادة الإعدادية مباشرة، وانتسب إلى أحد مراكز التعليم المهني..
تقدّم بالأوراق القليلة المطلوبة. صورة عن شهادته المدرسية، وإقرار بتنازله عن مخصّصاته من الإعاشة، وأن يلتزم بتعليمات ونظام المركز، وأن لا يثير الشغب.. أن يكون باختصار "آدمي"..
وهكذا وجد نفسه طالباً بين طلاّب قسم تعلّم مهنة إصلاح الراديو في مركز التدريب المهني القريب من مدينة القدس.. والذي لا يبعد كثيراً عن قريته "بيت اكسا" القريبة أيضاً ولكن من الجانب الآخر..
ولم يعرف والده بالأمر إلا عشية اليوم الذي حزم فيه متاعه القليل للسفر والإقامة الداخلية..
وبالرغم من اتخاذه القرار الهام الذي يحدّد مستقبله بالكامل منفرداً، ودون استشارة أحد، فقد أحسّ والده بالرضى، أملاً في أن رغبته لتعلّم هذه المهنة الدقيقة لابّد أن تشكل تحوّل في نمط شخصيته العنيفة والمشاكسة، التي سبّبت له ولأسرته الكثير من المتاعب..
تخرّج من المركز بعد سنتين، يحمل شهادة اختصاص، واشتغل عند الحاج جابر صاحب أحد محلاّت إصلاح الأدوات الكهربائية في القدس.. القائم مباشرة أول السوق المغطّى والممتد خلف "باب العمود" إلى جانب الجدار الحجري المرتفع الذي يقسم المدينة إلى شطرين..
ولم يستطع صبر المهنة أن يغيّر ما عرف عنه من العناد والمشاكسة، ولو أن هذه الصفات أخذت شكلاً مختلفاً، فقد انضّم إلى تنظيم فدائي مقاتل، وشارك في حرب حزيران..
ولم تثنه أخبار الهزائم السريعة على كافة الجبهات عن مواصلة القتال على درجة أكبر من الحماسة قادته إلى المشاركة بفاعلية مقاتلاً أيضاً في معركة الكرامة، أصيب خلالها بطلقتين في كتفه وذراعه أعجزتاه عن الحركة، فوقع أسيراً.
ما أن تعافى من جروحه، حتى أخضع للتحقيق والتعذيب..
علّقوه من كتفيه في الهواء لأكثر من خمس ساعات، وعلقوه من ساقيه أيضاً، ومارسوا معه أحدث ما توصلت إليه أدمغة المتخصصين باستخلاص المعلومات..
ورغم ذلك وعلى مدى أكثر من عشر سنوات من الأسر لم يتمكّنوا من الحصول على توقيع تعّهد أن يكون "آدمي"، وأن لا يشارك بأي عمل تخريبي، وأن يبّلغ عن أي عمل مشبوه ضدّ سلطة الاحتلال..
فاطمة..
ابنة عمه وحدها بعد أن فقدا أقربائهما كانت مواظبة على زيارته في المعتقل دون انقطاع.
ويوم خرج من المعتقل، تزوجها وأقاما في مخيم على مشارف مدينة "البيرة" الملاصقة لمدينة "رام الله"، واللتين لا يفصل بينهما أكثر من علامات مرسومة على بضعة بلاطات على الرصيف الممتد.. ومنذ ذلك الوقت وأمام أي حادث "تخريبي" سواءً في المناطق القريبة أو البعيدة عن مكان إقامته، كان يساق إلى الفروع الأمنية، ويخضع للتحقيق والتوقيف مدداً متفاوتة..
حين انطلقت الانتفاضة، أصبح الوضع أفضل. فقد صار من العسير على الجنود الدخول إلى المخيم وإلقاء القبض عليه وسط الفوران الشعبي المتعاظم.
وبسبب ذلك أحسّ أن تحرّكه صار أيسر، وأصبحت دكّانه الصغيرة التي يعتاش منها - بعد أن أعجزته عيناه عن ممارسة المهنة التي تعلّمها-، مركزاً حقيقياً لتحركات المنتفضين، ومكاناً مختاراً للتنظيم والتوجيه والتنسيق والتمويل في بعض الأحيان.
ولم يخل الأمر من اصطياده بين الحين والحين من قبل العناصر السرّية، وإخضاعه للتحقيق، ولو أنه لم يعد يشكّل بمنظورهم بعد أن طعنه الزمن والمرض، خطراً حقيقياً يحسب له حساب..
فاطمة.!
ليتها لا تقلق عليه هذه المرة، فقد مضت تلك الأيام، منذ اليوم الذي أطلّت فيه وجوه الرفاق من مشارف رام الله..
رآهم من وراء نظّارته السميكة.. كانوا قلائل لكنه أصرّ على تسميتهم بالطلائع..
وخرج مع الألوف بالهتاف والزغاريد، وحفنات الرز، وقبضات السكاكر، يستقبلون الأمل، ويشرقون مع صباح جديد لم يكن على اتساع الأفق الذي يطمح إليه، لكنه بدأ..
أحسّ أن عمره كلّه يستلقي تحت أقدامهم بفرح ليس له مثيل.
هي البداية التي طالما انتظرها..
لا بد أنه يعرف الشاب الجالس أمامه في صندوق الجيب..
لم يعد يذكر متى، ولا أين، لكنه يعرفه بالتأكيد، فهو لا ينسى الوجوه التي يراها..
حدّق من جديد عبر نافذة الصندوق الضيّقة، مرّت لوحة كبيرة برّاقة مضيئة استطاع أن يقرأ حروفها الأولى:
سينما الوليد..
ابتسم بفرح..
رام الله.. لم يبتعد كثيراً إذن، إنه ما يزال في الوطن..
تهيأ له فقط أن المسافة طالت أكثر مما يجب.!
وقفت الجيب أمام بناء شاهق، استطاع أن يشاهد بوضوح عدداً من الجنود يحملون أسلحة خفيفة ويحيطون به..
سار أمامهم.. شّد كتفيه المنهكين، ورفع رأسه قدر ما يستطيع.. أحسّ نبضات قلبه تتسارع، كأنه على وشك التحليق إلى فضاء عاش معه حلماً قضى فيه طيلة عمره الحزين..
في صدارة القاعة الرحبة، كان يجلس منتفخاً، يحمل على كتفيه عدداً من النجوم المذهّبة، وينقر بطرف قلمه الأنيق على الطاولة نقرات رتيبة..
نظر إلية بلؤم.. وضرب كفّه على دفتر ضخم جلدته حمراء مكتوب عليه بوضوح "الإرهابيون الخطرون".. ثم صرخ من بين أسنانه الصفراء..
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أين كنت……….
ولم ينتظر جواباً.. أشار إلى أحد الجنود وتمتم دون أن يرفع ناظريه عن الدفتر الكبير..
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي خذه إلى القبو..
حدّق حوله في المكان، تناثرت أسلاك كهربائية كثيرة، لمعت الجنازير والسلاسل وزنود السجّانين، لمس رطوبة الجدران ونزيز الماء المتسرب من كل مكان، تعلّقت جثته في الهواء ورأسه إلى الأسفل، شمّ رائحة الزنزانة المنفردة..
شدّ كتفيه مرة أخرى، ورفع صدره.
ضرب الأرض بخطوات واثقة ومتصلّبة، أحسّ أنه أمام بداية جديدة ضخّت في شرايينه دماً جديداً، وشباباً خاطفاً…
أمام الباب الحديدي الصدئ، وقف إبراهيم الكسواني فجأة كالمسمار..
نظر إلى الشاب الأسمر صاحب السترة الفضفاضة وقال بصوت هادئ دفع فيه خلاصة إنسانيته..
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي الآن تذكّرت.. أنت ابن أبو إسماعيل..
أطرق الشاب النحيل الأسمر، ودفعه برفق إلى داخل المكان المظلم..
وقبل أن يقفل الباب وراءه سمعه بوضوح يتمتم بسخرية..
ـ أين أنت يا فاطمة..؟
١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٤