كثُرٌ أولئك الذين يتوجسُون من العتمة والقبر ..
ويبنون خيالاتٍ مرعبة وأوهامٍ خرقاء عن حياة ما بعد الموت.
حتى أصبح ذلك مصدر إلهامٍ لكثيرٍ من كتاب سيناريوهات الرعب والميتافيزيقيا .. الذين تناولوا الموضوع من زاويته المظلمة فحسب .. وملئوا أفلامهم أهولاً وأضغاث. حتى ليكاد المرء يخشى أن يواجَهَ بحقيقة الموت الذي لا بد منه .. ولا فكاك.

ولم يخطر ببال أحدهم أن يتناول الوجه الآخر لما بعد الموت .. أو حتى لحادثة الموت ذاته .. وكنهها وأثرها على النفس والجسد.

أدخل في هذا المبحث محاولاً الابتعاد عن إقحام الدين والمفاهيم الدينية في مثل هكذا مبحث .. رغم ما تتعرض له الكثير من الآيات القرآنية والمفاهيم الدينية في الأديان الأخرى لمثل هذه الحادثة .. هذا إذا لم نقل أن المحور الأساسي للفلسفات الدينية على اختلافها هو التبشير بالحياة الآخرة .. وبحتمية الثواب والعقاب.

لكنني هنا أتطرق للموضوع من وجهة نظرٍ فلسفية عقلية بحتة مبتعداً عن إقحام الدين في مقاربة الأمر.

يبادر معظم الناس عندما يتطرقون لموضوع الموت إلى إبداء الجذع والرعب من عتمة القبر والظلام الذي يكتنف الموت، وكأن النور حكرٌ على الدنيا فقط .. والآخرة ظلامٌ بظلام.
أعتقد أن مردَّ ذلك إلى ضيق أفق ذلك الإنسان الذي يتشبث بالتصاق الروح والنفسِ كليهما .. بجسدٍ آيلٍ إلى الهلاك لا محال.

أما لو تأملنا قليلاً .. لوجدنا أن الحرية .. كل الحرية .. في أن نتخيل أنفسَنا قد تخلصنا من قيود الحياة .. لننطلق في فضاء حياةٍ أرحب. أقل ما نصادفهُ فيها ونسعد به هو انتفاءُ شعورنا بالزمن وتحررنا من مستلزمات البقاء في هذه الكيلومترات السبعة عشر ما بين سطح الأرض والأتموسفير
إن جسداً بهذا العجز .. لا يستحقُ أن يُقتنى ..
هو ليس عاجزاً فحسب .. بل يحدُ بشكلٍ لا مثيل له من انطلاق النفس عبر آفاقٍ لا تُحد
مكرسٌّ بكلِّ إمكانياته وتصميمه لكي يساعد على حبس الروح في فضاءٍ ضيق .. إن اختل فيه جزء .. أودى بهذا القفص إلى التهلكة .. وما أكثر الأجزاء القابلة للعطب خارجاً وداخلاً

ما أروع القديس سمعان العمودي
حاول الارتقاء بعيداً ولو أمتاراً فوق عالم المحسوسات ..
إلى عالم الروحانيات مصطحباً قفص الروح معه ..
واختلى بروحِه أربعون عاماً فوق ذاك العمود ..
لا يقيم أود ذاك القفص الجسماني خلالها إلا ببضع لقيماتٍ كل يوم ..
وما كان أغناه عنها في آخر الأمر ..في تلك اللحظة التي قرر بكامل وعيه وإرادته أن يتحرر من قيد ذاك الجسد .. ومن قوانين العالم (السفلي) إذا شئنا أن نقول ..
ففي تلك اللحظةِ ما عاد يعنيه ماء ولا هواءٌ ولا طعامٌ ولا نومٌ ولا راحةٌ ولا تعبٌ ولا حرٌّ ولا بردٌ ولا مرضٌ ولا عافيةٌ ولا نسلٌ ولا زوجةٌ ولا نورٌ ولا ظلمةٌ ..
وتغيرت لديه المفاهيم عندما تكشفت له نورانية الأرواح .. فما عاد مفهوم الحياة يعني لديه سوى مزيدٌ من الحرص على ضبط القيود الدنيوية للحفاظ على تلك الزنزانةِ المكيفة الثقيلة المرهقة التي تحاصر روحه.
أما الزواج .. فما عاد يعني له سوى مزيداً من الحرص على بث الأرواح مقيدةً في أجساد جديدة .. حرصاً على (الحياة) التي ما عادت تعني له سوى تأجيل الارتحال من أصفاد الدنيا إلى فضاءات العالم الآخر الواسعة التي تنتفي فيها صفة الزوجية أو فلنقل (قانون الزوجية) .
هذا القانون الذي يسيطر على عالم الدنيا في كل شيء .. ابتداءً من الذرَّة التي ما كان ليقوم مبناها لولا تنافر الإليكترونات والبروتونات (سالبات الشحنة وموجباتُها).. حتى النبات والشجر والحيوان .. وصولاً إلى الكواكب والشموس والمجرّات.
يتحدثون عن رحلات الاستكشاف في القرون الوسطى ..
هل صادف وأن سمعنا أن أحداً اتجه إلى أعماق الأرض يستكشفها؟؟ يصعب ذلك .. وإن حصل فإنه لا يعدو أن يكون مقدار ما تحفره نملةٌ في قشرة سنديانة ..
لماذا؟؟
لأن الولوج إلى أعماق الأرض يتنافى وأسباب الـ(حياة) فترانا ننكفئُ عن تلك الأعماق خاسئين ..
كذلك هناك في الفضاء .. كان وما يزال .. محاولاتٌ للاستكشاف ..
وهنا يتيسر ذلك .. لأن الفضاء على اتساعه ينفتحُ أمام أنظارنا بالضوء .. وبالهلامية ..
أما لو كان صلداً مظلماً كطبقات الأرض .. لانحسر أفقنا الممتد فيه إلى حدودِ ما امتد في طبقات الأرض .. ومع ذلك .. يتطلب من الجهد والسعي الحثيث لتدارك أي خلل يطرأ على حوائج الجسد عندما يرتقي للسباحة قريباً ,, هنا حول الأرض ..ولأيامَ أو أشهرٍ فقط ..
نعم .. يتطلب ذلك من مئات العلماء والفنيين بذل قصارى جهودهم لصنع بذةٍ تحيط بجسد المستكشف (رائد الفضاء) أو تنقل بضع سنتميترات سماكةً من جوِّ ومحيط البيئة التي تحيط بنا هنا على سطح الأرض .. ليتمَّ نقلَها معه إلى الفضاء
..
وأيُّ فضاء .. مسافةً لا تتعدى ابتعاد صغير الشمبانزي عن أمه التي يلتصق بظهرها ولا يغادره
والحب .. ذلك الموضوع الذي يشغل بال البشر منذ بدء الخليقة .. ما هو إلى تبديلٌ وتحوير لفطرة الوحدانية والذاتية ..

وهو وسيلة تبرير لإضفاء الـ(جمال) على علاقة تجمعُ جسدين .. تحفزها الشهوة التي ما هي إلا مؤامرة الجسد وقوانين الـ(دنيا) للاستمرار في مسيرة الـ(حياة) قدر الإمكان في مكانٍ لا يصلحُ أن يكون إلا محطة عبور واحتجاز مؤقت .. ألا وهو الأرض.

ربما لم يتطرق أحدٌ قبل ذلك إلى تعريف الحب بنفس طريقتي،حيث سأدخل في تعريفه مدخلاً ربما يكون فلسفياً بالدرجة الأولى، مستنداً في ذلك إلى أساسيات في علم النفس.
أعتقد أن الحب ... إنما هو إشارةٌ إلى الضعف الذي يكتنف الذات الإنسانية، وباعثهٌ الأساسي هو غريزة الموت، التي توقظ مخاوفَ عميقةٍ ودوافعَ لا شعوريةٍ في العقلِ الباطنِ للبحث عن استمرارية الـ(حياة).

ولما كان الخلود أمراً مستحيلاً، أمكنَ لمعظمِ البالِغين إدراكُ استحالته، كان لابد من البحث عن استمرارية الحياة ولو من خلال الغير، فكان التناسل.
وما تجربةُ جلجامش في البحث عن زهرة الخلودِ إلا إشارةٌ عميقةُ الدلالة عن محاولة الإنسان الوصول بذاتِهِ لا بسواهُ إلى هذا المبتغى.
فلما يئس جلجامش، أوى مضطراً إلى أحضانِ أنثى أضعَفَته، ومنحَتهُ شيئاً من الرضى والاطمئنان إلى خلود نفسِه في نسيلَتِه.

وهذا الذي نسميه (الحب من أول نظرة) إنما هو لحظةُ ضعفٍ عميقة، يَلوحُ فيها للإنسان شريكَهُ المحتمل ... فيقع في شراكِهِ للتَّو.
وأعتقد أن الإنسانَ لو نال (الخلودَ) في الحياة، لانتَفَتْ وتلاشت الغريزة الجنسيةُ التي هي في الأصل مفتاحٌ لاستمرار النسل، بل وربما غابت الأعضاء التناسلية جذرياً لِعدمِ الحاجة إليها، ولأصبحَ الإنسان غيرَ مُعَرَّفٍ (لا ذكر ولا أنثى).

وأعتقدُ أن ذلك الذي لا يؤمن بالحب من أول نظرة، إنما هو إنسانٌ قوي وأكثرُ نضجاً، بحيث أمكنَهُ تغليبَ العقلِ على الغريزة، وإدراكَ ظروفٍ أخرى تتعلقُ بالمحيط وبالشخص الآخر، ربما كان لها تأثيراً كبيراً في استمرارية هذه العلاقة وفي نجاعَتِها.

والحبُّ من أول نظرةٍ هو استسلامٌ مطلَقٌ للغريزة من وجهةِ نظرٍ ذاتيةٍ بحتة، دون الأخذِ بعين الاعتبارظروفَ الشخصِ اللآخرِ وميولِهِ، رغم أنه قد ينجذب إلى هذا الشريك، الذي أبدى له من النظرات وخلجات النفس ما يغريه.
ولأن اصطدام هذا الحب بالواقع هو ما يفسر حالاتِ الفشلِ الكثيرةِ التي ينتهي إليها الحب من أول نظرة.
والحبَّ في النهاية، هو حتماً حصيلة الدافع الجنسي .. الذي يمكن أن يتحور من خلال التجربة، وبحسب التركيبة النفسية للشخص الذي يخوضها، إلى أشكالٍ مختلفةٍ من الحب.. عذريٍّ أو ساديٍّ أو مازوخيٍّ .. أو غيره.

ما أحوجنا إلى شربة ماء عندما نكون أحياءً .. ترى لماذا؟؟ فقط لنبقي على الرمق الذي يغلق على الروحِ أصفاد الجسد
وحياتنا حلٌّ غيرُ منتهٍ لمسألةٍ رياضية .. كلما تخيلنا أننا أدركناه .. انبثقَ أمامنا مسعىً جديد .. بأفقٍ جديد
وفي النهاية .. غايتُنا من اللهاث الدائم وراءَ كلِّ أفقٍ جديد هي تسخير ما يحيط بنا كلَّهُ لتأمين تلازم النفس والجسد تكريساً لاستمرارية الشعور بـ(الحياة)ضمن ظروف وضعتْ من قبل الخالق، وضمن معايير دقيقة .. لو اختل أحدها فقط - على كثرتها – لأودى بالحياة كلها ..
حياةٌ على كواكب أخرى:
يُعقل .. نعم يعقل .. على الرغم من وجود مليارات النجوم والمجموعات الشمسية .. أنه لم يحصل لكوكبٍ ما أن تحققت فيه شروط الحياة سوى كوكب الأرض.
ولنتذكر .. من خلال ستة خانات على قفلٍ رقمي .. يمكننا أن نتصور مئات آلاف الاحتمالات .. فكيف إذا كان عدد الخانات مئات الآلاف؟ أعني بذلك شروط وجود الحياة على كوكبٍ ما
إن وجد الغلاف الجوي .. انعدم الماء ..
وإن وجد الماء لم تناسب درجة الحرارة ..
وإن ناسبت درجة الحرارة لم يناسب طول اليوم ..
وإن ناسب طول اليوم لم تناسب طبيعة تربة الكوكب ..
..........
وهنا .. ربما بالفعل .. قد خُلِقَ الكونُ كلَّهُ من أجلنا فقط
مسألة الاهتمام بالقشور ملفتة للنظر جداً .. وهي ليست مأخذاً أو مثلبة .. كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن .. ولكنها مسألةٌ لا غنى عنها ضمن قوانين الكون السائدة ..
فمن القبح أن نجرِّد الإنسان من جلده أو أن نشوه لونَه ببقعٍ ناصلة مثلاً
ومن غير المستساغ أن نسكن بيتاً دون إكساء ..
وغايةُ القبح أن لا تكون ألبستنا منتقاة ومتجددة ..
فالقشور والمظاهر هي مفتاح الولوج إلى عالم الفن .. ومن خلالها ومن خلال الاهتمام بها حدَّ الإغراق .. تنبثق الفنون وتتنوع.
ففن العمارة يسعى دائماً لتغطية الظاهر القبيح وإخفائه بظاهرٍ جميل .. ولذلك تراهم يهذبون الحجر .. ويعتنون بصناعة السيراميك ويهتمون لألوانه وأشكاله ومظهره ..
وفنُّ الرسم أسلوبٌ لإغناء النظرِ بألوانٍ وهيئاتٍ تطرح جمالياتٍ داخلية أكثر منها جمالياتٍ بصريةٍ لونية.
ويجهد أطباء الجلد في البحث عن العقاقير والأساليب الطبية للعناية بالبشرة لأن الجلد من المظاهر المهمة التي تضفي على الجسد جمالاً بجمالها وقبحاً بقبحها.

والسيارة فيما لو صُنعت لتأدية الغرض منها لما وجب تغطيتها بذلك القفص الحديدي الذي يستر محركها وهيكلها .. ولأمكن اختصار الكثير من التكاليف في الطلاء والتفضيض ووضع شارات الماركة .. وغير ذلك، ولكن .. تخيل معي أنك تستقلُّ سيارة على الهيكل.
وماذا .. وماذا ..

موضوعٌ قد يتفرع إلى شعبٍ كثيرة .. ولكن ما أجمل أن نغرِقً فيه.
وهنا أترك الباب مفتوحاً لكلِّ من يجد لدى بنات أفكاره إضافة أو رأياً .. وكلِّي ثقة أن من الصعب على مثل هذا الباب أن يوصد.
محبتي للجميع