ساعة ... بلا غضب ..!

( نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي )

***


بيني و بين الهدوء.. عقد رجولة و مروءة : " ألا أغضب حتى تدركني الساعة التي تلي ساعة العقد.. " .

و أنا وفـيٌّ للعقد مخلص له.. و مذ أمضيت مع الهدوء عقد المروءة هذا منذ عشر دقائق.. و أنا ألتزم حدودي فيه..
هادئ أنا.. راكن للسكينة و الصمت.. مثال للرزانة و الإنبساط.. جالس على كرسي مكتبي و بين يدي جريدة أعمل بها على إخضاع الوقت بلباقة و فن عاليين إلى مسار الإتفاق.. و إدخاله بدبلوماسية شيطانية مهذبة في الفلك الذي يخدمني.. وكل حركة أقوم بها، تندرج ضمن مخطط نفسي محكم من شأنه أن يفي - باحترافية عربية فائقة - بغرض الهدوء ..و يحقق هدف البقاء على الوعد..

أن تأخذ " الكلمات السهمية " مسافة عشر دقائق أخرى.. هذا وحده كفيل بأن يوثق الثقة في نفسي، و يوطد علاقتي الجديدة بالعقد، و يعزز من الكبرياء الذي قد أحتاجه في فترة فتور لأتجاوز به بعض الأشياء..!

و مادمت أغض النظر عن أي زبون يدخل للمصرف، فلا أعيره أدنى اهتمام و لا أرفع طرفي قيد أنملة، فيكون وجوده كعدمه.. فكل شيء بهذه الهندسة الكريمة سيكون على ما يرام، و كلما غصت في الكلمات السهمية أكثر، ابتعدت عن عالم الشغل أكثر، فوفرت بذلك عن نفسي كتلا من الهم، و اختصرت عنها الكثير الكثير من أسباب البلاء.

نحن قوم يحب في الشهر آخره، لما تمتلئ الأرصدة بالأجور.. أما باقي الشهر.. فنذمه ذم الذباب المكبوت للأمكنة النقية..!

و.. " إذا رأيت آخر الشهر.. نسيت أوله " .. بهذا المبدأ فقط نقدس نحن العرب فضيلة العمل.. و نقنع أنفسنا أن النهوض كل يوم صباحا قصد الذهاب للشغل، هو وظيفة طبيعية لكل من يعتقد أن آدم أبوه..

حتى و إن لم يكن لأول الشهر ذنب في كونك خربة بالية.. و في كون طريقة تفكيرك أشبه بعملية المضغ الذي بعده قيء حامض.

إننا نزداد تيقنا مع كل طلعة شمس.. أن العبادة ضرب من التجارة.. و أن قانون العرض و الطلب.. هو واحد من نواميس الكون.


***

العمود الخامس، الكلمة الثالثة: - من هو الخليفة العباسي الثامن ؟

أعترف أن هذا السؤال استفز ثورتي..

ليس لأني من أقوام مخلوطة بالكبريت.. و لا لأن في طينة أجدادي عنفوان الفحم، و لكن هذا شيء منطقي.. فنحن نغضب عندما نطلب شيئا، فيرفض ذلك الشيء أن يأتي إلينا..
علمتنا العادة المقيتة التي ابتكرنا سوءها و عزتنا المزيفة التي نلوح بها حتى في غير الضرورة، و كذبنا المنمق على أنفسنا، أن نكون كفراخ العش : تفتح أفواهها و تنتظر اللقمة أن تبلغ فيها الحلقوم.

و الذل يكون فينا كخفافيش الكهوف يمتص دمائنا.. فإذا تعلق الأمر بالمعرفة.. انتفضت فينا عزة دخيلة.. و صرنا فجأة كإناث الحيوان عندما تتدلل على الذكور... في فترات الإخصاب..!

هي الشماتة.. تحول فينا الكبرياء.. إلى تكبر.. و تنسينا أن الظلم هو وضع الأشياء في غير أماكنها.

سألت زميلتي التي كانت غارقة مع زميلتها الأخرى في تقطيع لحوم البشر، و أكلها مملحة على خشب يابس، كعادة كل الإدارات العربية الفارغة :

- ليلى ؟ من هو الخليفة العباسي الثامن.. في سبعة حروف ؟
ليلى، و هي تغرس رؤوس أصابعها في خصلات شعرها :
- امـممم .. عبد الملك بن مروان، أليس كذلك ؟
بابتسامة ملؤها الهدوء :
- لا عزيزتي، اسمه يتكون من سبعة حروف فقط.

بصوت مبحوح، تكلم زميلي من ركن آخر و هو واثق مما يقول: - عبد الملك بن مروان، خليفة عثماني و ليس خليفة عباسيا.

لو كنت أطالع - مثلما نصحني يوما أحد العباقرة - .. لما احتجت لسؤال هذين الأحمقين..

شعرت أن المأساة كانت ستفسخ عقدي بغضبة مباغتة.. حينما عرفت أن ليلى تجيد كل شيء إلا الحساب.. و بأن زميلي على اليمين، لا يعرف أن "عبد الملك بن مروان" شاب شيبه في دمشق، و نُخر عوده في دولة الأمويين.. و لو أن الشام منحت فما.. لبصقت عليه دون أدنى شك.
ثم ماذا كان سيقول " أورخان "، لو علم أن أقواما في حجم سفاهة هذين.. يخلطون الخاثر بالزباد.. و يقدمون في التاريخ و يؤخرون على طريقة لعبة " الماريل ".. ببرودة أعصاب تشبه بلادة البرلمانيين الذين يتركون أماكنهم فارغة.. عندما يحين وقت مناقشة قضايا الأمة.. ؟!

لكنني استدركت الأمر.. بفضيلة الصمت.. و كنت - و الغضبة تهم بالتمخض - ... حكيما.

ابتلعتها و أضفتها إلى مجموعة المكبوتات المتراكمة في الدواخل كمستحاثات قديمة، لتشهد يوم أصاب بنزيف داخلي.. أنني عربي.. و بأن التشنجات العصبية و التصلبات القلبية و تقطعات الزائدة الدودية ، ليست فقط من اختصاص المساهمين الخليجيين في الأسواق المالية، و أن تصلب الشرايين لا يعزى دائما إلى داء البورصة.. كما أنها لا تقتصر فقط في فترات زمنية معينة تصيب العالم، كالأزمة المالية العالمية.. التي يصرون على أنها ليست مفتعلة.

ويحك أيها الخليفة العباسي الثامن.. هل كنت هنا إلا لأحتال على الزمن، فأسرق منه ساعة الوعد مع الهدوء ؟

فلماذا اخترت هذه اللحظة بالذات، لتستيقظ من قبرك، و تلتقطني كتمرة الغراب (*) ؟
ثم و أنت تعلم أن الكلمات السهمية.. ليست إلا وسيلة لمطاوعة الوقت.. فلماذا لا تتكرم عليّ باسمك الجميل.. أو تمنحني وثائقك في ستر ، فتريح و تستريح ؟

هل سأبقى رهينة الجهل.. أسأل كل غبي من حولي.. ثم أنتظر الإجابة منه.. كما ينتظر المواطن الأحمق من مندوب الوزارة أن يبلغ رسالته لسماحته (......) !!! .. ليأتيه الفرج .. بعد أن يؤوب القارضان (**) ؟ !!!

دع عنك زائد العزة يا حبيبي.. و هات اسمك الآن.. فلو علمت ما يحدث ببغداد اليوم.. و من يجلس بعرشك فيها.. و إلى أين انتهى مجد "السفاح".. لعلمت أن اسمك المختفي.. لا ينقص من الأمر قيمة تاريخية بقدر ما يزيد على ركود الجو ضجرا .. و أن البحث عن اسمك و أسماء الخلفاء الذي كانوا معك.. لا يزيد على أن يكون لهوا في صفحات الجرائد.. لا استحضارا لكلمة " المجد " التي باتت تنافسها بشدة كلمة " السندويتش " و أن هولاكو لو أدرك مسبقا أن غثاء مثل غثاء اليوم هم من سيعمرون الأرض بهكذا خلق زائد.. و بأن الشباب الذين يلبسون سراويل مقطعة الركبة و ممزقة المؤخرة هم من سيملأون صعيد العرب.. لوفر على نفسه عناء الإنتقال.. و لاكتفى بإرسال برقية يأمرنا فيها بنزع ثيابنا و البقاء عرايا تحت الشمس.. حتى يقضي فينا عميل من عملائه.. أمره.

***

و بينما أنا في مفاوضات مع جلالة الخليفة العباسي الثامن ( مجهول الهوية ) ..
و بينما هي الحضارة العباسية تنخر في كبريائي و تنبش في سكينتي.. و تعبث - و هي لا تدري- بأكثر عقودي أهمية..

إذ بزبون في غير أوانه.. يدفع الباب بهدوء و يتسرب كالماء العفن إلى داخل المصرف، و يلقي بمقلتين مفتوحتين على كل الزوايا.. تحية جماعية.

- السلام عليكم و رحمة الله..
- و عليكم السلام و رحمة الله تعالى و بركاته.. قُبِّحْتَ من وجه يلج المصرفَ هذا الصباح.. و خسِئتَ من ملمح ذي شماتة يأسن له المزاج .. و تتعكر جراءه صفوة الخاطر.. و من مُحيَّا لا يُحيَّا.. و بن بني آدمَ تبتسم له الإجراءات الداخلية للمصرف لكونه زبون صاحب أموال.. و تكشر في وجهه الإجراءات الداخلية.. لكونه نكسة للهدوء.. و منضح فزع و مورد قلق.

وضعت الجريدة بعد أن وقف الزبون (البريء) على رأسي كفزاعة الغربان.. وسألني و هو في أوج الحيوية راسما على وجهه ابتسامة من قطب الأذن اليمنى إلى قطب الأذن اليسرى :

- سيدي الكريم .. هل لي بسؤال من فضلك ؟
بابتسامة مزيفة و حرص أرنبي شديد على عدم فقدان العقد:
- طبعا يمكنك .. تفضل... ( يا بومة الشؤم الليلية )..
- أريد أن أفتح حسابا بنكيا هنا بوكالتكم .. هل يمكنك إرشادي أطال الله في عمرك .. ؟
- ( قصّر الله عمر أمثالك و محاهم ) : طبعا سيدي، إليك ما يلي من الوثائق الضرورية : " نسخة من شهادة ميلادك مستخرجة من الدفتر الأصلي ، و نسخة طبق الأصل لبطاقة تعريفك الوطنية مصادق عليها من دار البلدية ، و شهادة إقامتك".
- كم قيمة الرصيد اللازم لفتح الحساب ؟
- ألف دينار للحساب الوطني، و ثلاثون " يـورو مقدس " للحساب الأجنبي.
بابتسامة من عنده كفاية من وقت :
- ممكن سؤال آخر لو سمحتم سيدي ؟
للعنة أوجه و مشارب .. و تكرار الفعل واحد منها ..
- تفضل.
- توكيل الحساب لشخص ثاني.. هل يحتاج إلى وثيقة داخلية أم أن وثيقة التوكيل خارجية ؟
- خارجية يا سيدي.. خارجية.. لا يوجد توكيل داخلي.
- شكرا أيها العزيز.. و لكن ..
- و لكن ماذا ؟ ماذا أيضا ؟
- أرجو أن لا أكون أزعجتك.. و لكني أريد أن أطرح سؤالا آخر.. ممكن لو سمحتم ؟
- تفضل.
- عندما تصبح وثيقة التوكيل جاهزة.. هل تشترطون حضور الموكل أم أن حضور الوكيل بعدها وحده يكفي ؟
- في العادة لا يحضر الموكل مادام قد صرح عن الموثق أن وكيله استلم زمام الحساب ليسيره.
- شكرا سيدي.. قبل أن أذهب أردت فقط أن أقول ......

تزحزحت كتلي "التـكتونيـة" عن مسارها.. و شعرت أن الجغرافيا النفسية التي هيأتها قبل أقل من ساعة قد استسلمت لقدر التغيير.. فتضرجت عظامي.. و التهبت أشياء في داخلي لا أعرف ماهيتها .. و اجتذبتني من ناصيتي أحاسيس شيطانية.. و تجلت " العروبة " في شكلها الحقيقي.. فاندلعت في وجه الزبون.. و قد رميت بالأنفة العربية كل هدوء إلى الجحيم.. و مضى العقد إلى أسفل سافلين.. و .. :
- ( .................... !!! ) .

***

انكفأ الزبون الضحية على نفسه .. و في وجهه المحروق عبرات من ملمح مشدوه.. قبل أن يتنضنض بأرنبية متبوعة بهدوء تام : - لا تغضب سيدي.. كنت فقط قد سمعت زميلتك تتحدث عن الخليفة العباسي الثامن.. فأردت أن أستسمحك في المشاركة.


***


زهير يونس
.
.