الفصل التاسع


تفحصت المكتب وما فيه من صناديق فلفت انتباهي بندقية هجومية قوية فلم أتردد في أخذها وألقيت سلاحي. تفحصت البندقية الجديدة ورضيت بها سلاحا جديدا. اختبرت وزنها في وضع هجومي فوجدتها من أفضل ما يكون واطمأنيت على حسن اختياري. ابتسمت بمكر لبرهة وجيزة قبل أن تختفي الابتسامة وتعود الجدية إلى وجهي مع استمراري في مهمتي الدموية.

صعدت مجموعة الدرجات خلف المكتب التي انتهت عند باب مزدوج زجاجي. وجدت أمامي ساحة مفتوحة. أمعنت النظر بها فالتقطت عيناي ثلاثة من الجنود المستنسخين يقومون بدوريات على مسافات متباعدة بينهم وهم في حالة حذر وانتباه نظرا لانقطاع الاتصال بينهم وبين الفرق الأخرى. لاحظت موقفهم الحذر وتوقفت وأنا أتابعهم بإعجاب لأن أيا منهم لم يتوقف عن الحركة ولم تبد عليهم علامات الملل ولا الإرهاق. كان انضباطهم عاليا. شعرت بالفخر لأنني بذلت جهدي كثيرا مع أمثال هؤلاء وسأثبت لنفسي أنني أفضل من ذلك. انتظرت حتى تحرك أقرب الجنود إلي مبتعدا ثم انزلقت في صمت من خلال أضيق فتحة بين الأبواب. كانت الحاويات والصناديق المتناثرة تشكل حماية وتغطية من أفضل ما يكون. رأيت كشكا صغيرا في منتصف الساحة دخله أحد الجنود لبرهة قبل أن يعاود الظهور. كان الليل قد احتوى المنطقة بظلام دامس لولا بقع الضوء التي نشأت بفعل المصابيح المعلقة على الأعمدة المتباعدة عن بعضها البعض بشكل منتظم.

أخرجت البندقية الهجومية وأسندتها إلى كتفي ووجهتها إلى الهدف وببطء ضغطت زناد البندقية وانهالت الرصاصات على هدفها وقد أصابته بدقة متناهية. رأيت الجندي فيتلوى ومن ثم ركع على ركبتيه وهوى جسده إلى الأمام وارتطم رأسه بالأرض لا يدري من أين جاءت الطلقات. بدأت أستمتع باللعبة معهم إن جاز أن نسميها لعبة. اندفعت بعيدا عندما سمعت صراخ أحد الجنود من الطرف البعيد من الساحة قائلا بصوت صارم:
- انه هناك!. اختبئوا!
جاءه الجواب:
- عُلم!
وبعد لحظات انفجر الموقف بآلاف الطلقات تندفع باتجاهي. تنفست بعمق ثم ابتدأت الهجوم.

انزلقت كظل في الظلام بين الصناديق نحو الجندي التالي شاعرا بالحرارة الناتجة من الطلقات أثناء احتكاكها بالهواء وكنت اسمع صوت ارتطامها وتحطيمها للصناديق الخشبية. قادتني غريزتي للأمام واندفعت بعيدا عن الخطر. شعرت بالثقة في قدراتي وأن هذه الثقة قد ولدت غطرسة صارت تتحكم في أفكاري وأفعالي كما حصل بقيامي بمخاطرات عدة كي أصل إلى منصة التحكم ورمي نفسي خلف الشاشة وجميع الطلقات التي انطلقت باتجاهي قبل أن يعود الصمت مسيطرا على كل شيء كما كان. كانت المنصة ضيقة ولا مخرج في المكان يمكن أن أفر منه عند حدوث خطر. فحصت سلاحي لأتأكد من وجود ذخيرة به كافية بينما كانت تلك المشاعر الواثقة تتسلل من جسدي سريعا. كنت محشورا.

"امسحوه من الوجود!"
سمعت هذا النداء مع خطوات سريعة تقترب من مكاني مع كل ثانية تمضي. أعلم أن القنابل ستأتي باتجاهي والبقاء في هذا المكان سيؤدي إلى وفاتي لا محالة. انفجرت أنفاسي في تتابع سريع وأنا أفكر هل أهجم أو أفر؟ ولكنني كتمت ذلك مع التصميم الواضح لذلك القاتل الذي لا يكل. سكنت الأصوات مرة أخرى مما يوحي بعاصفة أخرى قادمة، وهذا ما أصابني بالتوتر ودفع بالتالي جميع غرائزي وحواسي إلى مركز الصدارة في السيطرة على أفكاري وتصرفاتي. على يساري أحد الجنود المستنسخين بمهاراته الواضحة كمحترف وجندي آخر على يميني يتحرك ببطء وقدماه لا تكاد تلامس الأرض. سمعت صوت نزع فتيل قنبلة يدوية. لأي شخص عادي هذا الصوت غير مسموع ولكنني كنت قد أصخت بسمعي جيدا وركزت كل تفكيري على ما سيفعلانه. حركني شعوري بالخطر فقفزت من مكاني كأسد تم إطلاق سراحه فجأة ووقفت وأطلقت الرصاص بسخاء على نافذة المنصة. ورأيت الصدمة على وجه الجندي الذي ما زال قابضا على القنبلة بإحكام الذي أطاحت به عاصفة الطلقات. ركع على ركبتيه ولكنه تحول إلى أشلاء ممزقة مع انفجار القنبلة. اعتبرت هذا بمثابة إشارة انطلاق كما يحدث في السباقات الرياضية.

اندفعت من المنصة إلى المدخل متجاهلا القصف الهادر بالأسلحة النارية القادم إلى مكاني وحددت على الفور مكان الجندي الذي سمعت صوته من قبل وعاجلته بطلقات مركزة. اندفع الجندي إلى الخلف واختبأ وبدأ يطلق النار عشوائيا، وتخيلت أنني فريسة مكانه.
"انه سريع!"
صرخ بهذه الجملة وهو يحاول التراجع إلى الخلف ولكن دون جدوى، ورفعت سلاحي وصوبته جيدا إلى الهدف ولم أبخل عليه بما بقي لدي من طلقات. ولم يلبث أن سقط في مكانه جثة هامدة. وانأ مختبئ خلف الساتر الذي قتل عنده الجندي شرعت أفكر في الخطوة القادمة. علقت البندقية وانتزعت المسدسين من قرابهما والتقطت نفسا عميقا وخرجت من خلف الساتر.

أثناء فترة التحول من طريدة إلى صياد، لمحت الجنديين الباقيين وحددت مكانهما. وفي أقل من ثانية وضعت خطة معقدة للقضاء عليهما. كان أحدهما في الطرف القصي من الفناء والآخر يكمن في انتظاري على شمالي. لم أدرك كم المسافة التي غطيتها قبل أن يبدأ الجنديان بإطلاق أسلحتهما باتجاهي. وجهت مسدسا إلى أحد الجنديين والمسدس الآخر إلى الثاني وأطلقت الرصاص بسخاء عليهما. وسقط الجنديان في بركة من دمائهما. ست جثث مسجاة في الفناء على نحو مؤلم. كان صدى آخر طلقة ما زال يدوي في الفناء قبل أن يتلاشى تدريجيا مودعا أولئك الذين لم يعودوا أحياء. وقفت لحظة أفكر فيما فعلته وتساءلت هل يستحق أولئك الجنود الموت؟ ما زلت أسمع كلمات عاصم مراد وهو يقول بصوته المزعج "كلهم يستحقون الموت!" فهل أنا أسوأ منه؟ مسحت خيطا من الدم يسيل من جرح في خدي وفكرت في المهمة التي بين يدي. محمود وفاتن وحسام يعتمدون علي وجندي ميت لا يعني انه مفقود وهذا ما أراحني.

ولأنهم لم يعودوا بحاجة إليها، صادرت ما بقي من خزانات الطلقات من الجنود القتلى. وأكملت طريقي عبر الفناء لما اعتقدت انه مخرج وهو باب ثقيل على منصة مرتفعة قليلا تؤدي إلى محطة المعالجة. كان أحد الجنود هناك ولكنه غارق في بركة من دمائه. كان ما يزال قابضا على مدفعه الرشاش، فحركت جسده برفق كي أتمكن من فتح الباب والولوج إلى الداخل. قادني الباب إلى ممر آخر كان شديد الظلمة مقارنة بما مررت به من ممرات. الشمس قد أكملت غروبها ولم يبق من ضوئها إلا القليل لا أكاد أر به شيئا. أضأت المصباح المعلق في خوذتي لعل حرارته تبعث بعض الدفء في جسمي. سمعت صوت خرير المياه داخل الجدران الخرسانية فأسرعت بالحركة بحثا عن مصدر تلك المياه.بعد استدارتي عند ركن الممر قدم الجواب نفسه. رأيت بركة داخلية كبيرة افترضت أنها لمعالجة المياه. كان للبركة حاجز حديدي يمنع الانزلاق العرضي إلى أعماقها وعلى اليمين غرفة مضخات تؤدي إلى المخرج الوحيد. كان السلم الحديدي المؤدي إلى وسط البركة هو أفضل حل للوصول إلى غرفة المضخات. ولكن للأسف لا يمكن الوصول إلى السلم الحديدي من موقع هذا لذلك سأضطر أن أنزل إلى الماء كي أصل إليه. خبأت أسلحتي وقفزت فوق الحاجز إلى عالم مائي قذر. وصلت إلى سطح الماء وأمسكت بحافة السلم الحديدي وأخرجت نفسي من البركة وبدأت الصعود. كان جهازي اللاسلكي يصدر أصواتا بدأت تتكاثف وتشتد وأنا أسير على المنصة وللحظة لمحت شيئا صغيرا تحرك بسرعة داخل غرفة الضخ أمامي. على الرغم من ضعف الإضاءة وعدم وضوح الرؤية إلا أنني أدركت على الفور أنها الفتاة التي لاحقتني من قبل. كنت أشعر بالخوف الشديد من مواجهة أخرى معها. أخرجت سلاحي وسرت متحفزا إلى غرفة التحكم.

تأرجح ضوء معلق في السقف بفعل نسيم لم أشعر به فواصلت بحذر شديد. أمر صعب ومزعج جدا أن أترقب الخط القادم الذي لا أدري كيف أو متى أو من أين أو من يقوم به. كان هذا الشعور يصيبني بقشعريرة باردة أشعر بها في ظهري. جررت قدمي بجهد بينما كان الضوء المنبعث من المصباح في خوذتي يلقي ظلالا كبيرة للمضخات والمولدات التي تهدر بنعومة في مقابل قلبي الذي ينبض بعنف. قادتني الغرفة إلى اليسار بعيد عن الأنظار. وعندما وصلت إلى نقطة الالتفاف، ظهر الظل على الحائط مبتعدا عن مكاني ببطء. كنت أخشى ما كنت سوف أراه عندما استدرت عند الزاوية وحبات العرق تتساقط على جبيني ورقبتي كأنهار صغيرة. حثني عقلي على الفرار ولكن قدماي تجاهلتا النصيحة. أخذت نفسا عميقا واندفعت عبر الزاوية ولكني لدهشتي الشديدة لم أجد شيئا والفتاة الصغيرة لم تكن هناك. وقفت ألهث في الظلام الدامس. سمعت ضحكتها الطفولية الساخرة للحظة وهي تدوي في المكان قبل أن تختفي وهنا أخفضت البندقية. حاولت التفكير فيمن تكون تلك الفتاة وما الذي تحاول فعله بعقلي. هل تريد توصيل رسالة ما؟ من الواضح أنها ليست من هذا العالم ربما تكون شبح فتاة ماتت هنا. تولد لدي شعور بقرب حدوث شيء شرير ربما انبعاث لذكرى قديمة. توقفت عن التفكير كي أكمل رحلتي إلى عالم المجهول.

أدى الممر إلى طريق مسدود ولكني وجدت فتحة في الأرض تقودني إلى بركة أخرى أسفل مني. لا بد أن أغطس في أعماق هذه المياه القذرة كي أواصل طريقي. ثبت سلاحاي في قرابهما وانزلقت عبر الفتحة تاركا جسدي يهبط حرا إلى البركة. عندما وصلت إلى سطح الماء غمر عينياي ضوء قوي ففقدت جميع أحاسيسي وشل عقلي. واختفى الضوء فجأة كما ظهر. لم أعد في مصنع معالجة المياه وأمامي ممر يبدو كأنه يحتوي عيادات طبية. كان الماء الذي قفزت فيه قد تحول إلى بركة من الدماء التي سالت من ركبتاي عندما ارتطمت بأرضية البركة. كانت دمائي على الجدران تسير في خطوط كأنها جزء من حلم شيطاني. لمع ضوء قوي كأنه برق في ليلة عاصفة. كان قلبي ينبض بعنف وتنفسي كان صعبا ولم أشعر بأي شيء وقد أصابني خدر عطل أفعالي. في نهاية الممر باب مزدوج ومن خلال نافذة الباب رأيت ظلا ينحني على ما يشبه طاولة العمليات. سمعت صوت بكاء رضيع من مكان مجهول. شجعني صوته على التقدم عبر الممر وبدون تفكير أخذت أتحرك إلى الأمام على الرغم من محاولتي الاحتفاظ بتوازني بسبب الدماء اللزجة على الأرض. بالكاد لاحظت ذلك الشيء المنحني وآخر يرقد على طاولة العمليات. اقتربت أكثر وأكثر. وفجأة ظهر هيكل عظمي من خلال الدماء أسفل مني. وبحركة غريزية رفعت يدي إلى فوق كي أحمي نفسي من هجومه المفاجئ فوجدت نفسي أنظر إلى جدار مصنع معالجة المياه وأنا أقف في مياه قذرة قاتمة.
لقد انتهت!
وقفت أحاول فهم ما حدث...
لم تخفني هذه الهلوسة ولكن هناك شيء جعلني أرتعب!
لقد رأيت هذا المكان من قبل!