أزمات المثقف العربي " الموضوعية " – 5/6
===========================

ان من الإنصاف والموضوعية التأكيد أن من الأسباب الأولى لأزمات المثقف العربي ، أنه يعيش في معظم الأحوال ضمن بيئة ليست حاضنة لقيم " النقد والإختلاف " . مع وجود واضح أيضآ "لأزمة الحرية " وغيابها في المجتمع العربي ، ولدى أنظمته الحاكمة . كما أن من تلك الأسباب فقدان البنى الحقيقية لمؤسسات المجتمع المدني التي يمكنها إشاعة ممارسات ديمقراطية بناءة تتيح تكافؤ الفرص ، ومشاركة الجماهير في الحراك الإجتماعي والثقافي والسياسي .
وإذا كانت المجتمعات ، والأنظمة العربية الحاكمة قد تخلت عن واجبها تجاه المثقف ، وتحاول تقييده وحصاره ، فهل من الموضوعية أن يتخلى المثقف عن واجبه إزاء المجتمع ومؤسساته ، وينسحب من المشاركة في الفعل الثقافي ، وفي تفعيل الوعي ودفع الحراك الحياتي الفكري ؟ .
وإن كان لايمكن إنكار دور المجتمع والسلطة في التنكر للمثقف ، فإن هذا الموقف قد ينعكس عليه سلبآ فيخلق عند بعض المثقفين مسارين متضادين تمامآ ، إلا أنهما بالفعل ليسا إلا "وجهين" لحقيقة واحدة .
فالمسار الأول : - تمثله تلك الحالة من التماهي الفكري والروحي مع " النموذج الغربي " الذي يبدو النموذج النقيض و " الملاذ المغري " للمثقف العربي المحبط .
والمسار الثاني : - يمثله " النموذج المتطرف " الذي يمثل رد فعل آخر لما يواجهه من إقصاء وتهميش ، والذي يتخلق ضمن رؤى وإتجاهات رافضة متزمته تفرز أشكالآ من التطرف عديدة ومتنوعة . ويعبر عن ذاته بملامح الإبتعاد عن الواقع ، متخمآ باليأس والإحباط والقطيعة .
ومما لاشك فيه أن كلا المسارين لن يصبّا إلا في مصلحة أعداء المجتمع والأمة .
إن هذه الإشكالية .. إشكالية العلاقة بين المثقف والمجتمع / الجماهير ، والذين هم بشكل ودرجة ما مثقفون ، هذه الإشكالية والعلاقة بين بعضهم تكون أغلب الأحيان متميزة بحالة من الإضطراب وعدم التوافق . وهذه الحالة من التحديات التي تواجه المثقف وتساهم في أزماته .
وإن كان على المثقفين أن ينزلوا إلى هؤلاء الجماهير .. بقدر ماعلى الجماهير أن يرتقوا إليهم ، لكن الحاصل أن هؤلاء وهؤلاء قد إنتابهم نوع من الكسل وبرود الهمة ، وإكتفى كل منهم بموقعه معجبآ ومرتاحآ فيه . وبذلك تظل الهوة بينهم قائمة بل وتتسع .
كما ان الحالة الثقافية المأزومة والمسورة والموصفة ( بالنخبوية ) ، تدور في الإطار الضيق الذي لايضم سوى " النخبة " . فيعتقد بعض المثقفين أن أفكارهم وآراءهم لايتفهمها غير المثقفين أنفسهم . وهذه دائرة أزماتية أخرى من دوائر العلاقات المتشابكة التي تربط المثقف بغيره . وهي في ذات الوقت تنتج علاقة بين المثقفين أنفسهم ليست بأفضل من سابقتها . فكثير من المثقفين كل يتربص بصاحبه ويتصيد له ، ونادرآ مانجد فيهم من شكلوا نسيجآ واحدآ متجانسآ يسعى إلى صياغة مشتركة ومتكاملة لمشروع ثقافي متكامل أو حتى متقارب .
ومن ناحية اخرى .. يرى المفكر العربي / عبد الله العروي / ..
[ ان المثقفين يفكرون حسب منطقين : القسم الأكبر منهم حسب الفكر التقليدي السلفي . والقسم الباقي حسب الفكر الإنتقائي . وأن الإتجاهين يوصلان إلى :" حذف ونفي العمق التاريخي " ] .
أي : ان أغلب المثقفين العرب يميلون إلى : " السلفية " أو " الإنتقائية " . مع أن هذين الإتجاهين يخدعان المثقف ويغريانه بنوع من الحرية الذاتية ، حيث يظن أنه قد إمتلك " حرية الخيار " ، وأنه قادر على أن ينتقي من " إنتاج الغير " أحسنه وأفضله . بينما يكون الطريق الوحيد للتحرر من الإتجاهين معآ ، هو الخضوع للفكر التاريخي بكل مقوماته التي يمكن أن تتحدد :
• صيرورة الحقيقة .
• الإنسان هو صانع التاريخ .
• تسلسل وإرتباط الأحداث .
• إيجابية الحدث التاريخي .
• إيجابية دور المثقف والسياسي .
وبما ان المثقف هو وليد وإنتاج ثقافة . والثقافة تنتج عن وعي وعن سياسة ، فقد إستمرأ بعض المثقفين حالة خطيرة هي : [ الإغتراب .. والإعتراب ] .. كما سماها / العروي / .
إن " الإغتراب " هو التغريب أو التفرنج .. إنه إستلاب .. لكن " الإعتراب " هو إستلابآ أكبر وأخطر . إنه إستلاب حقيقي وضياع في : اللغة ، والتراث ، والتاريخ القديم . يفنى ويضيع فيه المثقف العربي بكل طواعية وإعتزاز ، ويعتبر أن الذوبان فيه هو منتهى حرية الإختيار والتعبير الصادق عن هويته الدائمة ، بعيدآ عن " الوعي التاريخي " . الوعي الذي سينير طرقنا ويجعلنا نرى أن : اللغة ، والتراث ، والتاريخ الخاص ، مواد " منفصلة " عنا ، لانستطيع أن " نتصل" بها إلا عن طريق التحليل والتركيب العقليين ، لاعن طريق الحس والمعرفة المتأرجحة . فحتى الآن لم يستوعب " الفكر العربي بمجمله " ، مكاسب العقل الحديث من : عقلانية وموضوعية وفعالية وانسية .
كما ان المفهوم الثاني " للإستلاب " الذي يجب محاربته ، هو عدم الوعي بأن : ( الإنسان هو الذي يصنع التاريخ ) بكل مافيه من بناء وبنيان وحضارة وأحداث ونظم سياسية وسلطوية وجيش وقوانين . الإنسان هو الذي صنعها وإخترعها ، وبالتالي فإنه سيبقى في معظم الأحيان (سجينآ لها ) ، منقادآ لها .. أو في حالات نادرة ، متمردآ عليها بدون أن يملك أو يقدم البديل مهما سميناه .
وهذا هو ما يعبر عنه / فيورباخ / أو / هيجل / بإصطلاح ( الفنومنولوجيا ) .. = كتعبير فلسفي عن جميع أشكال الوعي الإنساني من سياسة وأخلاق وعلم وتاريخ ودين وأدب وفن وفلسفة . كحصيد تفكير في تاريخ الإنسانية كلها = ..
ويضاف إلى كل هذا .. " مفهوم التشيؤ " في ميدان الإقتصاد " السلعي " الذي نتج عنه النظام الرأسمالي ، فيكون إستلابآ مرتبطآ بهذا النظام .
وأيضآ .. " مفهوم الوعي الخاطئ " الذي ينغمس فيه المثقف بطريقة ايديولوجية منغلقة لفائدة نظرية ، أو لمصلحة طبقة واحدة بحد ذاتها / مجزءآ المجتمع إلى طبقات وشرائح " متصارعة عدائية " ، منحازآ بإنغلاق وتحجر إلى فئة ضد ( الكتلة المجتمعية التاريخية ) ..
واخيرآ .. فإن هذا المثقف العربي : المظلوم ، والظالم ، لم يستطيع حتى الآن وخلال قرون ، من أن يخرج عن قيوده التاريخية ، والفكرية ، والعقلية ، والمجتمعية .. من " عباءة أبيه " ، من أزماته الذاتية والموضوعية ، حتى يتسنى له أن يؤدي وظيفته ودوره بكل وعي وعقلانية وتحررية من تلك الأزمات .

===================
فائز البرازي
15/6/2009