السلام عليكم
عبر بحثي في محرك البحث وقعت على نص طويل لتبويب تطورات ومراحل تبلور الأشكال الجديد الأدبية والاجناس المتوالدة حديثا ورغم انني حاولت البحث عن مصدر النص عبثا فسوف اورده كما وجدته تماما وكما نشر :
مكي كيلوا/منتديات زحمة/تحت عنوان انواع الشعر:
نترك النص للاطلاع:
____________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم

يصطدم الباحث في قصيدة النثر العربية بمعضلة تدخل الحدود بين أشكال أدبية عدة أفرزتها المحاولات الإبداعية العربية الحديثة منذ ما سمي بعصر النهضة. أي منذ النحاولات الأولى لزعزعة الفواصل السميكة الموروثة بين الشعر والنثر، إذ لم يعد الشكل الظاهر للنص كافيا لوضع هذا النص في خانة الشعر وذلك في خانة النثر، لأن هذا تطاول على اختصاصات ذاك والعكس(1).

ففي زمن وجيز تجمعت في سلة النقد الشعري العربي مصطلحات من مثل:

الشعر المنثور

القصيدة المنثورة

الشعر المرسل

الشعر المنطلق

الشعر الحر

النثر المركز

النثر المشعور

النثر الموقع

البيت المنثور

النثر الشعري

قصيدة النثر

النثيرة...

و المتأمل للدرس التقدي العربي الحديث حول الشعر سيلاحظ الفوضى السائدة بسبب عدم تدقيق المصطلح وبسبب من عدم توحيد ثانيا. إن الباحث الذي يتناول قصيدة النثر في الشعر العربي الحديث ليجد من أولى أولوياته توضيح هذا المصطلح توضيحا شافيا حتى يتسنى له فرز المتن الذي سيتعامل معه، وحتى يساهم ، ما استطاع في تجلية هذه الضبابية المفاهيمية التي ما انفكت حدودها تتسع.

لقد شهدت القصيدة العربية، في ظرف وجيز جدا من التغيرات والتلوينات ما لم تشهد طلية تاريخها الطويل، فلم تكد قصيدة (التفعيلة ) تبشر بإيقاعها الجديد الذي سيحرر في نظر أصحابها ، الشعر العربي من الرتابة الوزنية والملل القافوي، حتى ظهرت قصيدة النثر، أو القصيدة التي تدعي كونها نثرية لترى في التفعيلة مجرد تكرار لقوانين العروض وخروجا محتشما عن سياج الخليل (2) ، ولتدعو الى شكل جديد يتسع للمعاني الجديدة (3) داعيه الشاعر الى ايجاد لغه جديدة تتيح إمكانية التعبير عن فورات نفسية أكثر قوة بعيدا عن قيد الوزن والقافية ، لا مفر من نظرة تبسيطية كهذه الى المسألة لأن الثورة على القديم تأتي، دوما من الإحساس بكون المؤسسة القديمة (البيت التقليدي والسطر التفعيلي هنا) لم تعد ملائمة للبت في مشكلات أوجدها مناخ جديد، ومن أن سوء الأداء يستلزم البحث عن بديل أسلم ما يتولد عنه عصيان عادة ما يكون عنيفا (4)، لهذا صاحبت الدعوة لخرق كل الممنوعات لغويا ، أخلاقيا، واجتماعيا ، الدعوة لكسر بنية اللغة الشعرية (5).

ظهور قصيدة النثر بشكلها الصارخ والهجومي في لحظة زمنية سمتها الاستعمار الغربي لبلدان العالم العربي وبلوغ الحركات الاستقلالية الوطنية أوجها، وفي لحظة كان الفكر العربي فيها يتوزعه تياران قويان سمي الصراع بينهما- اختزالا - صراعا بين الأصالة والمعاصرة ، جعل النقاش حول قصيدة النثر يحتد ويتخذ أبعادا لم يثرها أي نقاش شعري عربي من ذي قبل .

ذلك أن القيم العربية العامة لم تتغير جذريا حتى تتغير الأشكال الأدبية والبنى الذهنية جذريا،.

المجتمع العربي مايزال يراوح مكانه اجتماعيا وثقافيا، ولم يزده الاستعمار الغربي والصدمة الحضارية الناتجة عنه إلا نكوصا وارتدادا الى ذاته وماضيه ، فهو لم يبرح بعد لحظة الخطابة والتوصيل الشفاهي الى مرحلة الكتابة ، بما ترمز اليه الكتابة من اعتماد التقنية أداة في تفعيل التواصل الأدبي والشعري خاصة ، ومن حرية فردية في التلقي والتأويل (6).

لقد نظر الى النص الجديد، في ظل الظروف العامة أعلاه ، كمؤزرة للانكسار العام الذي أضحت الأمة تعيشه ، حضاريا وسياسيا، ورثى في (اللاشكل ) الذي أصبحت تنادي به قصيدة النثر، معادلا موضوعيا للبعثرة التي تعرفها الأحوال العربية (7) ونحن على بعد سنوات قليلة ، فقط من سقوط فلسطين والاستقلالات الوطنية في معظمها، طرية لا تزال ، وثقافيا /أدبيا، مايزال الشعر التفعيلي يثير جدلا صاخبا بين المؤيدين

والرافضين (8).

ومما يزيد هذه الفرضية تأكيدا أن النقد العربي الذي رأى (في قصيدة النثر) عصيانا وشكلا غربيا دخيلا، رحب بقدوم الرواية والقصة القصيرة ، وهما شكلان غربيان ، ورأى في موت المقامة حدثا طبيعيا ، كما لم ينتبه لكون الشعر التفعيلي ، ذاته فكرة غربية رغم قيامه على التفعيلة الخليلية .

من هنا الصعوبة الكبرى التي لقيتها هذه القصيدة في الانضمام للحقل الشعري العربي، والرفض الذي ووجهت به هي وأصحابها ، إذ لأول مرة في تاريخ الشعر العربي سيرفض نص ويحارب ، وينظر في ذات الآن ، الى الشاعر كشخص غريب الأطوار، بل وكمريض عصي على المعافاة ، والى قصيدة النثر كمؤشر على قساوة اليأس الذي أصاب الذات العربية(9).

إن مثل هذه الأحكام ، وهي كثيرة تجعل الشعرية في رتبة أدنى من الشعر، فتحكم على النصوص انطلاقا من الموضوعات التي تثيرها مستخلصة الجمالي من الوجودي(10)، في حين أن العكس هو المطلوب من كل عملية نقدية علمية تعتمد الملاحظة والاستقراء والرصد والمقارنة لا المناظرة والجدل ، وتسعي الى أن تشارك الابداع في تأسيس مذهب أدبي جديد زي أسس واضحة ، لأن الجنس الأدبي لا يولد كاملا، كما لا ينال فشله إن فشل ، من القيم الأدبية الراسخة (11).

فهذا النوع من (النقد) إنما يحجب ضوء النص ، ويحول دون الدنو منه لمساء لته فهو يسائل المضامين في غفلة عن علاقتها بالمستويات الايقاعية المتعددة للنص ، وهو لا يرى في اللغة إلا طريقا للوضوح والابانة غافلا عن كون الوضوح الايقاعي لا المعنوي هو المطلوب في النص الشعري، وهو نقد يسائل الشاعر أكثر مما يسائل النص ، وهو ينطلق من معيار شعري سابق يحاكم في ضوئه النص الجديد (12).

فإلى جانب الحيرة التي يدفع اليها ازدواجية الانتماء للشعر والنثر معا (قصيدة النثر) فإن الأشكال (اللاشكلية ) التي تتخذها هذه القصيدة بحرية بادية ، والموضوعات الصاعقة التي لم يخطر بمال ، يوما أنها ستصبح موضوعات شعرية وشخصية شاعرها القريبة من شخصية الصعلوك بمعنييه القديم والحديث معا، ولفتها التي تخلت عن كل (وقار)، وتنصل شاعرها من كل مسؤولية سياسية أو قومية مباشرة ساعيا الى تغيير الحياة بدل تغيير العالم ، مقتربا من رامبو ومعرضا عن ماركس ، حيث غدا الشاعر الحداثي يمارس نشاطه بغض النظر عن الشروط العامة التي تضمن لرسالته سلامة الوصول والفهم فهو قد أعاد النظر في مفهوم الشعر وفي وظيفته ، ومنح نفسه كشاعر، وضعا اعتباريا غريبا، وصدم المتلقي ولم يأبه بالمؤسسة الوسيطة التي تعين من يتكلم وتحدد له شروط الكلام (13) .، وملغيا بكثير من الكبرياء والعجرفة شجرة نسبه في مناخ يؤمن بتسلسل الأنساب ويقول بوراثة كل ذلك سهل عملية الهجوم على "قصيدة النثر" والمناداة بوأاها في المهد، ودفع النقاد الأكثر اعتدالا الى تقديم النصيحة لأصحابها بالبحث عن الشعر في مظانه لأنهم أخطأوا الطريق !

هذا المصطلح المركب (قصيدة - النثر) الذي زاد من صعوبة تقبل هذا النص لا يمكن فهمه الا في ضوء الحيثيات السابقة لأن صفة النثرية هنا تحمل حكم قيمة وتستدعي على الفور النص المضاد، أي (قصيدة الشعر) التي هي القصيدة الموزونة تقليدية أم تفعيلية (15).

ورغم أن كتاب (قصيدة النثر) عربيا هم أول من استعمل هذه التسمية وكتبوا تنظيراتهم الساخنة مرددينها فإن أعداء الشكل الجديد سرعان ما سيستغلونها (التسمية ) للطعن فيه ومهاجمته (16).

ويبدو أن مصطلح (قصيدة النثر) أطلق ، عربيا ، بنوع من الطمأنينة "رغبة في تسمية الأشياء بأسمائها للخروج من البلبلة والخلاص من تشويا الحقائق (17) كما كانت نية المتحمسين له ، في حين أنا مصطلح يفتح باب الجدل على مصراعيه بدل أن يفلقا فإضافة لكونه يستدعي تعميق النظر في مفهوم النثر وهي مهمة ليست سهلة أبدا فإنه يجعل من البحث عن علائق النص الجديد بالأشكال الشعرية السابقة عليه أو المحايثة له ضروريا كما يستعجل تحديد الأسس الشكلية والبنائية لقصيدة النثر التي مهما ادعت أنها ضد الأشكال كلها فإن لها شكلا .

هكذا ستضع قصيدة النشر الدرس النقدي في مأزق لأنها جمعت بهذا الشكل الفج بين الحقلين المكونين للعملية الأدبية كلها: الشعر والنثر. وهذا الجمع الذي يفاجئنا منذ البدء، سيبعثر المسلمات الاجناسية ويدفع الى اعادة النظر في استراتيجيات التلقي .. بتعبير أوجز نقول : إن قصيدة النثر جسدت كل الاشكاليات الشعرية العربية قديما وحديثا وحتمت إعادة النظر في القناعات النقدية والأدبية والبحث عن معرفة انسب لما يفرضه النص الجديد (18).

من هنا كان ضروريا النظر في العلائق بين الشعر والنثر للاقتراب ، ما أمكن من الفجوات التي يتسرب منها هذا لذاك والعكس ، واستقصاء الامكانيات الايقاعية التي تنطوي عليها اللغة بعيدا عن الثنائية الصارمة : الشعر /النثر.

لذا لن نبحث عن تعريفات للشعر وللنثر، ولا عن التقلبات المفاهيمية التي لحقتهما عبر مسيرة الأدب العربية الطويلة ، وانما سنسعي الى الاقتراب من الابدالات الايقاعية بينهما.



أي ما هي المتجليات الشعرية في جسد النثر العربي؟ ما هي المتجليات النثرية في جسد الشعر العربي؟ كيف حصل هذا التداخل حتى أصبحنا أمام أجناس أدبية تحمل أسماء لا تحيلنا لا على النثر ولا على الشعر، بل ترمي بنا وبمسلماتنا في منطقة التماس الصعبة حيث يصطدمان وينتج عن اصطدامهما شرر مستطير؟

من منهما (الشعر والنثر) تخلى عن بعضه أكثر من الأخر؟ ماذا فقد الشعر حتى عد قريبا من النثر؟ ماذا فقد النثر حتى عد قريبا من الشعر؟ ثم لماذا حين حصل هذا التداخل أصبحنا أمام نص سلمنا بشعريته ، رغم أنه تخل عن كثير من مواصفات الشعر المتداولة والمتعارفة ؟ هل لأن الأفضلية في تراثنا الأدبي كانت دائما للشعر، وأن النثر مهما يكن فنيا، فانه يبقى في منزلة دون الشعر؟

سنتوقف قليلا عند معنى كلمة "نثر" حتى نستجلي حقلها الدلالي ، لأن المتأمل في المصطلحات التي منحتها الأشكال التي سبقت قصيدة النثر في الزمن أو جايلتها ، سيرى كيف تبرز صفة النثرية كخاصية مشتركة بين أكثر هذه المصطلحات تداولا: الشعر المنثور - النثر الشعري - قصيدة النثر.

يعرف القاموس المحيط للفيروز آبادي كلمة "نثر" هكذا نثر الشي ء ينثره وينثره نثرا ونثارا رماه متفرقا كنثره فانتثر وتنثر وتناثر والنثارة بالضم والنثر بالتحريك ما تناثر منه أو الأولى تخص ما ينتثر من المائدة فيؤكل للثواب . وتناثروا مرضوا فماتوا والنثور الكثيرة الولد والشاة تطرح من أنفها كالدود كالناثر والواسعة الإحليل .

والنيثران كريهتان وككتف ومنبر الكثير الكلام ونثر الكلام والولد أكثره والنشرة ´الخيشوم وما والاه أو الفرجة بين الشاربين حيال وترة الأنف ، وكوكبان بينهما قدر شبر وفيهما لطخ بياض كأنه قطعة سحاب وهي أنف الأسد والدرع السلسة الملبس أو الواسعة . والعطسة والنثير للدواب كالعطاس لنا. نثر ينثر نثرا أو استنثر استنشق الماء ثم استخرج ذلك بنفس الأنف كانتثر والمنشار نخلة يتناثر بسرها أو أنثره أرعفه وألقاه على خيشوما والرجل أخرج ما في أنفه أو خرج نفسه من أنفه وأدخل الماء في أنفه كانتثر وا ستنثر والمنشر كعظم الضعيف لا خير فيه "(19).

يجمع بين هذه المعاني جميعا معنى الشتات واللاتناسق : رمي الشيء متفرقا - تناشر الشيء - المرض - كثرة الكلام - العطاس - الرعاف - العظم (الشخص الذي لا خير فيه ) ... والشتات اللاتناسق هما الصفتان اللتان جعلتا العرب قديما، يسمون النثر نثرا لأن شكله يوحي بالتبعثر عكس الشعر الذي يسيجه سياج الوزن والقافية والتشطير فيجعله ذا شكل بين واضح .

من هنا نفهم لماذا ظلت الشعرية تحتفظ بشرطي الوزن والقافية كشرطين ضروريين لا محيد عنهما رغم انتقال هذه الشعرية من طور تعريف الشعر بالوزن والقافية والمعنى، الى طور تعريفا بالوزن والقافية والتخييل درءا منها لكل (تسيب ) قد يلحق الشكل الشعري فيفقد تناسقه ويصبح نثرا.

هذا الهاجس هو ذاته الذي سيجعل العرب المحدثين يمنحون الأشكال الجديدة الناتجة عن قرع النهضة العربية باب الحداثة ، يمنحونها صفة النثرية كأنما فاض الشعر عن ضفتيه فتناثر فأصبح نثرا ،وأخذ يغطي بياض الورق كأي نثر عادي.

قد يكون هذا تفسيرا شكليا محضا، لأن الشعر ليس مجرد هيئة على الورق ولكنه علاقات ودينامية وصراع وأخيلة وايقاع ، لكننا ملزمون ، ونحن فروم تدقيق المصطلح بهذه الاشارة لأن التسمية التي منحها هذا الشكل أو ذاك تحمل من الدلالات الحضارية والسياسية أكثر مما تحمل من دلالات شعرية .

تتفق جل الدراسات المنجزة حول بدايات تململ قارتي الشعر والنثر في الأدب العربي الحديث واقترابهما من بعضيهما حول كون أمين الريحاني ومي زيادة وجبران خليل جبران أول من كتب نصومعا أدبية استدعت إعادة النظر في مفهومي الشعر والنثر معا لكون هذه النصوص تحمل في أغلبها شكل النثر، لكنها، إيقاعيا ورؤيويا مختلفة عنه فقد برز فيها النبر بشكل يجعلها أكثر غنائية وحضرت فيه الذات الكاتبة بحدة جعلت إيقاعها منسجما متراصا، ومالت الى التصوير بطريقة غير مطروقة من ذي قبل في النثر العربي، واستفادت من تقنية السجع من غير إفراط ، مما جعل المتقبل يستعيض عن القافية والوزن والتشطير بتقنيات جديدة . واذا كانت هذه الكتابات قد أدرجت ، في باديء الأمر، في زخانة الشعر المنثور فإن كتابات جبران سرعان ما ستمنح اسما جديدا أكثر غموضا واستفلاقا "النثر الشعري".

هذان المصطلحان سينضاف اليهما، بعيد ذلك بقليل ، اسم ثالث سيزيد المسألة تشابكا، إذ سينعت ما كتبه أحمد باكثير، وغيره كثير، بالشعر المرسل ، قبل أن تتوسع دائرة المصطلحات لتشمل الشعر الحر وقصيدة النثر لاحقا.

الشعر المنثور والنثر الشعري:

يعرف أمين الريحاني "الشعر المنثور" بالقول : (هو آخر ما توصل اليه الارتقاء الشعري عند الافرنج وبالاخص عند الأمريكيين أو الانجليز، فملتون وشكسبير أطلقا الشعر الانجليزي من قيود العروض كالأوزان الاصطلاحية والابحرة العرفية . على أن لهذا الشعر المطلق وزنا جديدا مخصوصا وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عديدة متنوعة . ووالت ويتمان هو مخترع هز الطريقة وحامل لوائها، وقد انضم تحت لوائه بعد موته كثير من شعراء أوروبا العصريين المتخلقين بأخلاقه الديموقراطية المتشيعين لفلسفته الأمريكية ) (20).

ينطوي هذا التعريف على كثير من الحقائق تضيء كثيرا من جوانب المسألة الاصطلاحية التي نحن بصددها. "فالشعر المنثور" تسرب الى الرقعة الشعرية العربية من نافذة أمريكية مع مي وجبران والريحاني، ما يعني أن التقسيم الاستعماري للعالم العربي له دوره المباشر في تفعيل الغموض وتصارع الأشكال والرؤى في الشعر العربي الحديث ، ونحن سنرى لاحقا أن "قصيدة النثر" ستدخل الشعر العربي، تنظيرا، من نافذة فرنسية ويستفاد، ثانيا من هذا التعريف أن الريحاني وصحبه كانوا منشغلين بفكرة النهوض . وهم يعيشون في أمريكا ، فرأوا في العروض العربي عرقلة أمام النهوض الشعري. وكلمتا (ارتقاء) و(قيود) في نص التعريف يفسران مدى انشغال أمين بفكرة التقدم التي كانت انشغالا ثقافيا عربيا يومئذ، فقد دعا خليل مطران الى تحرر الشعر العربي شريطة أن يبقى شرقيا وعربيا ، ودعا بول شحادة الى تقليد الشعر الأوروبي والتخلي كلية عن القافية لأن ذلك يجعل النظم سهلا ويمكن الشاعر من التعبير بطلاقة أكبر كما دعا عبدالفتاح فرحات الى تحرير الشعر من الوزن والقافية حتى يتسع للملحمة وحتى يساير النهضة الغربية (21).

يستشف من خلال هذه الدعوات وغيرها كثير جدا، مدى انهمام الفكر والنقد العربيين بالآخر، وبفكرة التوفيق (التلفيق ) التي لا تلائم البتة الابداع الأدبي لأن هذا الأخير لا تنفع فيه الحلول الوسطى ، والابداع ليس تعديلا في بنية أدبية سابقة ، حذفا واضافة ، وانما هو خلق جديد واعادة تشكيل ، الشي ء الذي يبرر هشاشة هذا الشعر ولاشعريته ، في الغالب ، وهو ما يتم السكوت عنه ، في معظم الأحيان تحت ذريعة التقدم وزحزحة الثابت والبحث عن أشكال أكثر ملاءمة ومرونة . يقول الأب لويس شيخو:"... على أننا كثيرا ما لقينا في هذا الشعر المنثور قشرة مزرقة ليس تحتها لباب وربما قفز صاحبها من معنى لطيف الى قول بذيء سخيف أو كرر الالفاظ دون جدوى بل بتعسف ظاهر، ومن هذا الشكل كثير من المروجين للشعر المنثور من مصنفات الريحاني وجبران وتبعتهما فلا تكاد تجد في كتاباتهم شيئا مما تصبو اليه النفس في الشعر الموزون الحر من رقة وشعور وتأثير"(22).




وفكرة التقدم هذه إضاءة لما أوردناه سابقا عن كون أسماء الأشكال الشعرية في الأدب العربي الحديث ذات أبعاد حضارية وسياسية أكثر منها أدبية ونستشف من تعريف الريحاني كذلك الهاجس الشكلي الخارجي المتحكم في الدرس النقدي العربي يومئذ ، وهو هاجس يرى في كل نص لا يخضع للوزن والقافية شعرا منثورا، والدليل ورود اسم والت ويتمان ككاتب شعر منثور في حين أنه كتب الشعر الحر وهو من رواده الأوائل . وهذا الهاجس الشكلي سنراه لاحقا عند الحديث عن "قصيدة النثر " حيث أعتبر ويتمان ، في النقد العربي رائد هذه القصيدة لمجرد خروجه عن حدود الصرامة الوزنية والايقاعية للشعر الأمريكي السائد قبله .

إلا أن المهم في تعريف أمين الريحاني هو ايراده لما يميز الشعر المنثور عن الشعر التقليدي، وهو محاولة الخروج عن الوزن العروضي الواحد، والقافية المتكررة بالاستفادة من مزج البخور وتنويع القافية .

ويبقى الاشكال الأكبر هو هذا المتمثل في الفروقات بين الشعر المنثور والنثر الشعري. إن الباحث ليجد صعوبة في تعليل الخلط المذهل الذي يمزج بين الشكلين آنا، ويفصل بينهما آنا. في الشعر المنثور يأتي الشعر موصوفا وما النثر سوى صفة ، وفي النثر الشعري يحدث العكس . فهل كتابات جبران نثر ذو ميولات شعرية ، وكتابات الريحاني شعر أخرج مخرج نثر؟ لم تسعفنا الدراسات الشعرية العربية بحل لهذا الاشكال يقول أنيس المقدسي : (لابد من التمييز بين النثر الشعري والشعر المنثور، فالأول أسلوب من أساليب النثر تغلب فيه الروح الشعرية من قوة في العاطفة وبعد في الخيال ، وايقاع في التركيب وتوافر على المجاز، وقد عرف بذلك كثيرون في مقدمتهم جبران خليل جبران حتى صاروا يقولون الطريقة الجبرانية (....) على أن الشعر المنثور غير هذا النثر الخيالي وانما هو محاولة جديدة قام بها البعض محاكاة للشعر الافرنجي. وهمن فتحوا هذا الباب أمين الريحاني فإن في الجزء الثاني من ريحانياته عشر قطع وفي الجزء الرابع ثلاث عشرة قطعة تلمس فيها جميعها هذه النزعة الى النظم الحر من قيود الأبحر العروضية المعروفة ) (23).

قد يكون هذا التعريف أقرب الى الافتراض السابق حول كون النثر الشعري نثرا أولا، والشعر المنثور شعرا أولا. لكن يصعب ، عمليا، الاهتداء الى ما يجعل جبران مختلفا عن الريحاني، ما دام الهاجس عندهما، معا، واحدا وهو البحث عن أشكال جديدة . وليس البحث عما يجمع بينهما بأقل صعوبة ، لأن معرفة التشابه ، هنا معناها معرفة الاختلاف .

ولعل هذا هو ما جعل الدرس النقدي العربي حول الشعر يجمع بين الاسمين آنا، ويفرق بينهما آنا، والجمع بينهما أكثر ورودا، لأن النظر اليهما تم من خلال ما يجمع بينهما أي ما اختلقا فيه عن شعر النهضة العربية بنائيا ورؤيويا من غير دخول في التفاصيل .

فإذا نحن تأملنا كتابات جبران وجدناها تملأ الصفحة كأي نثر عادي، وتميل الى السرد في أغلبها، ويغلب عليها طابع القص الذي عادة ما ينتهي بحكمة ذات لبوس تنبؤي ديني، ولا تخرج عن مألوف البلاغة العربية ، لكنها في ذات الآن كتابات دينامية سرعان ما تجذب القاريء اليها بقيمها المغايرة ، وبتماسك أحداثها وتماديها ، وبجرها العاطفي وبعودتها الى الينابيع الأول للحياة مخاطبة النفس الانسانية بلغة رخوة مهمومة داعية الى انسان جديد يسمو على سقطات الحياة الانسانية الواهنة ، مؤسسة بذلك إيقاعا نابعا من الفكر أولا ومن اللغة ثانيا.

ليسرع في النثر الشعري ما قد يوحي بايلاء أهمية للغة لفظا وتركيبا، ما يفسر سيادة الخبر، والاحالة على العالم الخارجي والتفاضي عن جمالية اللغة الى جمالية الفكر حيث يطفى المدلول على الدال . لكن يجب الا ننخدع بتواري الهاجس اللغوي الذي كانت تفسره التقفية والوزن والتشطير والمظهر الخارجي للقصيدة ، فالنشر الشعري حتى وان لحان يذهب بالفكرة بعيدا حتى نهاياتها، وعبر أسطر عدة بحثا عن سلاسة أكبر وتراص

أكبر، فإنه في ذات الآن ، عكس النثر الخطابي يكسر ويرج الجملة قصد الحصول على قطيعة . يمنحها الايقاع دينامية بسريانه الخفي(24). بين هذا الايهام الشكلي الذي يوحي بكون النثر الشعري نثرا، وبين الايقاع الخفي الهاجع فيه ترقد أسئلة جوهرية قد تكون الاجابة عنها اقترابا ودنوا من الارتجاج العنيف الذي شهده جسد اللغة الابداعية العربية ودفع بالمسألة الاجناسية الى الامام وفتح باب قضية الشكل على مصراعيه ، وأثار استراتيجية القراءة . انه نثر قد نجد فيه ملامح من الشعر التفعيلي الموزون، ومن الشعر الحر الخالي من الوزن والقافية ، ومن قصيدة النثر الخالية من التفاصيل والوزن والقافية وتنامي الحدث لكنه رغم ذلك ، يبقى محتفظا بسمته التي تجعله قريبا من النثر وانما منح صفة الشعرية لأنه مخالف للنثر السابق عليه في الزمن وعن النثر المحايث له كذلك .

الدراسات التي تناولت النثر الشعري سادها قلق تحديد الشعرية فيه ، وهي التي (الدراسات ) انطلقت من كون هذه النصوص نصوصا شعرية لانثوية ، فانتجت خطابا نقديا زاد من تعقيد المسألة ، في (دمعة وابتسامة ) وهو الكتاب الذي فجر قضية النثر الشعري، أكثر من غيره ، لم يتناول قط بأدوات نقدية كفيلة بوضعه إما في خانة النثر أو في خانة الشعر ، وانما مورس عليه تحليل برو كستي يستعين بكلام يقول كل شيء ولا يقول أي شيء كتب عنه ميخائيل نعيمة :".. ينفث فيه نتفا فياضة من قلبه ، وشرارات وهاجة من فكره ، وألوانا مواجة من خياله ، وينثرها بقلم ناعم ، صادق ، سخي، يحاول في الكثير من نبراته محاكاة مزامير داوود ونشيد سليمان وسفر أيوب ومراثي أرميا (25)..".

وهذا القلق يأتي بدرجة أقل عند تناول الشعر المنثور ، لأن هذا الأخير ظل محتفظا بكثير من مواصفات البيت العربي.

الشعر المرسل :

أما الشعر المرسل فيوصف به عادة ما كتبه أحمد باكثير في مصر، كأول من ابتدع هذا الشكل بعد اطلاعه على نماذج منه في الشعر الانجليزي يعرفه س - موريه بالقول :

"الشعر المرسل في الانجليزية يتكون من أبيات غير مقفاة من الوزن الايامبي ذي التفعيلات الخمس ، ويستخدم أساسا للشعر الملحمي والدرامي، وثمة تميز واضح بين هذا وبين المزدوج المقفى الذي هو دائما مكون من الأبيات الثنائية المتساويه المقفاة "(26)

الشعر المرسل تخلى عن القافية فيما بقي موزونا ولهذا فهو شعر أولا ومرسل ثانيا . هاجس الشكل الخارجي الذي تحكم في صياغة المصطلح الشعري العربي الحديث . إن البحث عن شعرية نص باللجوء الى مقارنته بنص آخر يجعل ، ضمنيا المعالم الخارجية للنص مكونا أساسيا لشعرية النص ، وهذا عين الخطل .

ولقد رأينا أن النثر الشعري نثر أولا، وشر ثانيا، في حين أن الشعر المنثور شعر أولا ونثر ثانيا . الشعر المرسل ، نتيجة أقرب الى الشعر المنثور منه الى النثر الشعري ، وما الفرق الا في كون الأول تخلى عن القافية طية واحتفظ بالوزن ، في حين تتخلل القافية الثاني والوزن .

هكذا نظر الى الأشكال نظرة خارجية بختة فألصقت بها أسماء تبعا للشكل الذي تأخذه على بياض الورق أولا، وتبعا لحضور الوزن والقافية وهما المحددان الخارجيان للشعر في النقد السائد حينئذ، وتم تأجيل الأسئلة الصبة التي تمس شعرية هذه النصوص بعيدا عن الوعي النهضوي السائد.

ويتضح هذا من الفروقات الجوهرية الكامنة بين الشعر المرسل الانجليزي والشعر المرسل العربي.

فالشعراء الانجليز اعتمدوا الكلام اليومي في كتابتهم للشعر المرسل في حين عارض الشاعر العربي في مطلع القرن لفة زمانه ويومه واغترف من لغة التراث والشاعر الانجليزي إذ يتخلى عن القافية فإنما ليعوضها بمجموعة أبيات طيعة يمتد معناها ويتواصل في سيرورة إيقاعية متدفقة ، ستخلا في ذلك أنواعا شتى من التضمين إذ لا ينهي، عادة المخي بنهاية البيت ، بل ينهيه وسط السطر الشعري فتبرز إمكانيات أكثر للنبر والتنغيم والتوازي الصوتي والتكرار (27).

أما في الشعر العربي فقد ظل (الشعر المرسل ) محتفظا باستقلال البيت وبنظام التشطير ما جعله غاية لا وسيلة وجعله أبعد من أن يعكس دينامية الخيال وتوتر الذات ، ومجرد محاولة للتخلي عن هو امة البيت التقليدي لكن من غير رج للعملية الشعرية من أساسها من هنا تبقى التجربة مجرد خدوش بسيطة على وجه القصيدة العربية حتى وان فسر الشعراء صنيعهم بوجود الشعر المرسل في التراث العربي مستشهدين بـ"إعجازالقران " للباقلاني، و "الموشح " للمرزباني (28).

إن هذا الخروج المحتشم عن قوانين البيت العربي الذي مارسه الكتاب العرب في مطلع هذا القرن ، يفسر النظرية القبلية الى أعمالهم ، وكون هذه الأعمال توكيدا لفعل النهوض لا توكيدا لفعل الشعر، وهذا ما جعل محاولاتهم لم تزحزح بما فيه الكفاية صلادة هذا البيت . وتبقى تجربة جبران خليل جبران العمل الأكثر ثورية لأنها تجربة رأت الى العملية الابداعية بعيدا عن ثنائية الشعر/ النثر، ولم تسع فقط ، الى إلحاق تغيير بسيط ببنية البيت وانما استعانت بنبض الذات وايقاع النفس فجاء عمله مقدمة ضرورية للاختراق الأجناسي الذي سيكبر بعده وهو ما سيصل الكتابة العربية بما كانت الرمزية قد دشنته منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

الشعر الحر:

وكما حدث للشعر المنثور وللنثر الشعري، فإن مصطلح "الشعر الحر" سيكتنفه الكثير من الغموض الناتج عن عدم التدقيق والاسراع في إلصاق الأسماء بالأشكال الأدبية تحت تأثير الانبهار بالمغامرة الخروجية التي ما انفكت دائرتها تتسع خاصة منذ القصائد التفعيلية الأولى القادمة من العراق . هذا الانبهار بالشكل الخارجي للنصوص الجديدة هو ما جعل نازك الملائكة تدرج الشعر التفعيلي تحت تسمية "الشعر الحر" التي أخذتها من الانجليزية ((Free Verseوالتي تعني الشعر الخالي من الوزن والقافية والذي قد تأتي بعض القصائد فيه مزيجا من بحور عدة لكن بطريقة عفوية . وواضح أن الروح العاطفية الهجومية الشديدة التي كتب بها "ظاهرة الشعر المعاصر" هو ما جعل فازن الملائكة تصف الشعر التفعيلي بالحرية ، وهي الحرية التي استكثرتها عليه فيما بعد، داعية اياه للرجوع الى العروض العربي. ويصل الخلط بين المصطلحين لدرجة استعمالهما بمعنى واحد، فهي ترى أن شعر التفعيلة يشبه الشر الحر لأنهما معا حطما استقلالية البيت العربي، وخرجا عن قانون تساوي الأسطر، ونبذا القافية وأتيا بشعر مرسل . تتحدث ، على سبيل المثال لا الحصر عن "الشعر الحر الموزون ":

"وما يهمنا في هذا الموضوع ، أن نثرهم هذا الذي يقدمونه للقراء باسم الشعر الحر قد أحدث كثيرا من الالتباس في أذهان القراء غير المختصين فأصبحوا يخلطون بينه وبين الشعر الحر الموزون الذي يبدو ظاهريا وكأنه مثله ، وخيل اليهم نتيجة لذلك أن الشر الحر نثر اعتيادي لا وزن له"(29)

زاد هذا الغموض ترسيخا أن بعض الشعراء والنقاد قبل نازك منحوا مصطلح "الشعر الحر" مرادفات كثيرة كما فعل أحمد زكي أبو شادي، وهو من الأوائل الذين دعوا الى إدخال هذا النوع الشعري الى الأدب العربي، حيث يسميه النظم الحر و"الشعر المرسل الحر" يقول في مقدمته لقصيدة الفنان ".

"وفي القصيدة التالية مثل لهذا الشعر المرسل مقترنا بنوع آخر يسمى بالشعر الحر (Free Vel-se) حيث لا يكتفي الشاعر بإطلاق القافية بل يجيز مزج البخور حسب مناسبات التأثير"(30).

إن الجمع بين "الشعر الحر الموزون " و"الشعر الحر" عند نازك الملائكة وبين "الشعر المرسى" و "الشعر الحر"، عند أبي شادي يعكس مدى القلق الاصطلاحي الذي ساد الممارسة النقدية والشعرية العربية الحديثة .

يعرفه جبرا ابراهيم جبرا بالقول :

"الشعر الحر، ترجمة حرفية لمصطلح غربي هو (Free Verse) بالانجليزية (Vers Libre)بالفرنسية . وقد أطلقوه على شعر خال من الوزن والقافية كليهما. إنه الشعر الذي كتبه والت ويتمان ، وتلاه فيه شعراء كثيرون في أدب أمم محيرة فكتاب الشعر الحر بين شعراء العرب اليوم ، هم أمثال محمد الماغوط وتوفيق صايغ وكاتب هذه الكلمات ، في حين أن "قصيدة النثر" هي "القصيدة " التي يكون قوامها نثرا متوصلا في فقرات كفقرات أي نثر عادي"(31).







يحظى هذا التعريف بأهمية كبرى لاعتبارات شتى. فهو أولا وضع يده على مكمن الداء بالاشارة الى أن الشعر الحر تخل عن الوزن والقافية معا، ومن هنا وسم بالحرية ، وليس لأن الشاعر منح حرية الخلط بين التشكيلات الوزنية ، والخلط بين الوحدات المتساوية شكلا، ووقع في أخطاء التدوير وتلاعب بالقافية مهملا إياها في كثير من الأحيان كما ترى نازك الملائكة (32). ثم إنه (التعريف ) وضع شعر والت ويتمان في مكانه الحقيقي، أي الشعر الحر. لقد دأب النقد العربي الحديث على القول إن الشاعر الأمريكي هو مبتدع "قصيدة النثر"، كما أسلفنا ويكفي أن نشير الى ما جره عليه شعره في أمريكا ، من ويلات وصلت الى حد المطالبة بحرمانه من الجنسية الأمريكية و...والسبب هو وضوح شعره والوضوح خاصية من خاصيات الشعر الحر "الذي تخلى عن الوزن والقافية ، واعتمد الصورة أكثر، فيما عانى قراء "قصيدة النثر" من "غموضها" و"مجانيتها".

وهذا التعريف أخيرا، وضع بعض الأسماء الشعرية العربية في مكانها الحقيقي، إذ طالما اعتبر محمد الماغوط وتوفيق صايغ شاعري "قصيدة النثر" بل نظر الى الماغوط كمؤسس لها من خلال النماذج التي قرأ هام في "خميس شعر"، وضمها بعد ذلك "حزن في ضوء القمر" (33).

تعريف جبرا ، الذي نراه التعريف الصحيح والعلمي، نعثر على ما يطابقه تماما في "شعر" فقد كتبت المجلة في زاوية "أخبار وقضايا" ترد على نازك الملائكة التي اعتبرت "حزن في ضوء القمر" قصائد نثرية في هين أنه "شعر حر" ذاهبة الى أن نازك الملائكة تفهم الشعر الحر كما تكتبه هي. وترى المجلة أن هناك ثلاثة أنواع من الشعر في الأدب العربي الحديث :

- شعر الوزن ويضم شعر التفعيلة .

- الشعر الحر وهو المجرد من الوزن والقافية مع الحفاظ على نسق البيت.

- قصيدة النثر (34).

لن نقف عند الخصائص الشعرية للشعر الحر ولا عند التمويهات الشكلية التي تخفي داخل نصوص من هذا الشكل قصائد نثر حقيقية لم يستطع الشكل الخارجي إخفاءها، وهي ملاحظة تنسحب حتى على النصوص التي ألحقت بالنثر الشعري وهي قصائد نثر، والعكس .

فالتمايزات جمة والفروق واسعة بين شاعر وشاعر، وبين نصوص الشاعر الواحد حتى. شعر جبرا ابراهيم جبرا المتشبع بالتصوف المسيحي الانجلوسكسوني ، ليس هو شعر محمد الماغوط الذي اكتفى بالاطلاع على الشعر الغربي من خلال الترجمات ، وهما معا مختلفان عن توفيق صايغ المتمثل لأسلوب الكتاب المقدس .

قصيدة النثر:

سترث "قصيدة النثر " أو بالأحرى الخطاب النقدي حول "قصيدة النثر" هذا الخلط المفاهيمي والتشابك الاصطلاحي ، وسيحول ذلك كما سنرى دون قراءة هذا النص حتى الآن ، قراءة شعرية بعيدا عن الأهواء والحسابات ، كما سيحول وهذا هو الأدهى دون معرفة الشكل معرفة حقة ". يقول سركون بولى، وهو الذي أعتبر من أبرز أساء قصيدة النثر العربية ، منذ الستينات : (نحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبير خاطيء لأن قصيدة النثر في الشعر الأوروبي هي شي ء آخر وفي الشعر العربي عندما نقول قصيدة النثر نتحدث عن قصيدة مقطعة ، وهي مجرد تسمية خاطئة . وأنا أسمي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحر كما كان يكتبه ايليوت وأردن وكما يكتبه شعراء كثيرون في العالم الآن ، واذا كنت تسميها قصيدة النثر فأنت تبدي جهلك لأن قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالا رميه وتعرف 'Prose Poem) )أي قصيدة غير مقطعه ) (35) .. لا يخلو هذا التعريف من وهم الشكل الخارجي الذي وقعت فيه معظم التعريفات التي صاحبت تنامي الأشكال في الشعر العربي الحديث ، لكنه لا يخلو من جهة ثانية من قلق كبير وحيرة تجاه مصطلح "قصيدة النثر" وهذا ما يهمنا ، هنا أكثر.

ما عبر عنه سركون بولص يزيد من تعقيد مسؤولية الباحث الذي يسعى الى الاقتراب من إيقاع قصيدة النثر العربية ويجعل إعادة النظر في المسلمات ضروريا.

قد يكون من بين الأسباب المباشرة التي استدعت هذه الضبابية المفاهيمية أن كل جيل من أجيال الشعر العربي، منذ النهضة ، يبدأ من نقطة الصفر (اضطرارا أو عنادا) (36).

فلقد جعلت الصدمة الحضارية كل ما يرد من الغرب من أشكال أدبية حديثا وجديدا، والحق أنه ليس جديدا إلا على الثقافة العربية (37 ). ونحن نرى أن هذا التسابق عل الأشكال الشعرية دال على يأس وخيبة وليس على حيوية وفاعلية . يمكن أن نستدل على ذلك بكون سنة 1947 التي ظهرت فيها القصائد التفعيلية الأولى هي ذاتها السنة التي أصدر فيها جورج حنين بمساعدة رمسيس يرنان مجلة اختارا لها اسما مثيرا هو (حصة الرمل ) (La paet du sabl)جاء في تقديمها : (هذا الكراس (....) في وقت يبدو فيه الانتماء نفسه ليس أكثر بكثير من شكل من أشكال القنوط ) (38). وما هي الا سنوات قليلة حتى صدرت "شعر" التي أعادت كل الأسئلة الى بداياتها.

يتجلى العناد في طبيعة الخطاب النقدي الموازي الذي ظهر أصلا مع مجلة "شعر" ، وهو خطاب سجالي تبشيري يرى في السابق عليه من الشعر تكرارا ورتابة لاغير ، ويرى في الذي يدعو اليه خلاصا للشعر والذات معا. المتأمل للانتاج الشعري الذي رافق هذا الخطاب سيلاحظ المسافة بين المأمول والمنجز. ويسهل على الانسان هنا ، أن يستشف كون القبول الذي تلتاه الأشكال الجديدة من طرف قلة تعرف كيف ترفع صوتها عاليا ليس قبولا شعريا، جماليا بالضرورة بل قبول أت من الرفض الذي ترمز اليه هذه الأشكال ، فإضافة الى كون قصيدة النثر ضربا من الغنائية المجنحة المثقلة بالضجر من الحياة والغارقة في عالم قدري لا يملك الشاعر فيه إلا الانسياق وراء قوة تلهو به كيفما تشاء، فإن "الفوضى" الشكلية التي لا تستقر ولا تهدأ منحت الشاعر القاريء متنفسا يعكس من خلاله موقفا ضبابيا من واقعية العام والخاص . ولقد سكت النقد العربي حتى في أروع نماذجه ، عن تفسير هذه الحرية التي خمتها الأشكال الجديدة للشاعر وتبيان ماهيتها وابراز الامتيازات التي خولها له التخلي عن البيت التقليدي وكيف تعمل في النص وتصنع شعريته (وهنا مربط الفرس ) ، وحتى ان فعلت ، فإنما بدافع التمجيد والاشادة لا بدافع التساؤل والتقصي.

هذه الحيرة تجاه قصيدة النشر ليست عربية فقط ، بل عرفتها الشعريات العالمية وان كان بحدة أقل ، نظرا لاختلاف الظروف الحضارية والثقافية لقد نظر الى قصيدة النثر باعتبارها جنسا أدبيا يتأبى عن كل تحديد ونظر الى محاولة التقعيد له عملا مجانيا محكوما بالاخفاق .

فكيف نقبض على (شكل) جاء ليخرق القواعد ويعلن العصيان على السلف وكيف نبحث عن لم في جمالية جنس أدبي يصعب تحديد قوانينه قبليا، فهو يحاول ، جاهدا الانفلات من كل تحديد وثبوت ، والا يخضع لمفاهيم جمالية ونقدية ، متحرك باستمرار زئبقي ما ينفقك في كل مرة يسفه مفهوم "البنية " ويضع كل محاوله للتنظير له في مأزق ! (39).





_______________________