كيوتو... صخب في مؤتمر الأديان العالمي



دين ودنيا
الجمعة 1/9/2006م
د. محمد الحبش

كيوتو إحدى معجزات اليابان الخالدة حيث تقوم تلك المدينة الأسطورية وسط غابات خضراء معلماً دينياً خالداً في وسط اليابان, تتحدى الزمن وترسم صورة الشعب الياباني المسالم الذي يعيش للخير والحب والجمال.

المعابد تتزاحم في كيوتو كما القديسون والكهنة ولكنهم يتصرفون بروح عالية من الديمقراطية فلكل دين رسالة وطقوس, وليس لدى الياباني أي حرج أن يصبح بوذياً ويظهر شنتوياً ويمسي مسلماً ويستيقظ كونفوشياً ويضحي مسيحياً, وهو مولع بممارسة تجارب الآخرين من أديان وفلسفة وحكمة, ويقال إن لليابانيين نحو عشرين ألف إله, وبكلمة واحدة فبإمكاني القول إن معنى ذلك أنهم يعتزون بعشرين ألف شخصية عظيمة في تاريخهم, ولا يعني ذلك أبداً أنهم يؤمنون بوجود عشرين ألف خالق فالجماعة ليسوا مجانين, وقد تمكنوا أن يؤسسوا لأهم إنجاز حضاري جبار في القرن العشرين.‏

الإله هنا محض مجد يضاف إلى مخلوق من ماء وطين, وليس في ضمير اليابانيين أن الخالق نفسه ينقسم بين إرادات متكثرة فالخالق واحد ويسمونه (كامي) وهم بذلك جزء من الفطرة البشرية التي قسمها الله بين عباده, ولهم في فهم الخالق تجليات وطقوس وأسرار يعبق منها سحر الشرق الآسر, ولكنهم لا يجدون حرجاً من إطلاق لفظ إله على عظماء كثيرين بعضهم حي وبعضهم ميت, وهنا أعتقد أنهم يحتاجون دراسة الإسلام بعمق حيث حافظ على نقاء العقيدة ولم يسمح بأي عبث يحول التوحيد الخالص إلى مهرجان آلهة.‏

على ضفاف نهري كامو وكاتسورا في كيوتو يعتقد اليابانيون أن قوس قزح تجلى ذات يوم حتى نزل عليه إيزاناجي وإيزانامي من السماء ووصلا إلى الأرض وأنشآ الأسرة البشرية الأولى التي ستمتد سلالتها حتى تتصل بالامبراطور الياباني هيروهيتو ومن ثم إلى الامبراطور الحالي اكيهتو وولي عهده ناروهيتو, ومع أن أبسط كتاب في المدرسة يتحدث عن أكيهتو وزواجه بالأميرة شودا ميتشكو ودراسته الاقتصاد في جامعة غاكوشوئن, ولكن الشعب الياباني غير راغب بالتخلي عن تقاليده في منح الامبراطور ألقاب الألوهية وأوسمة السماء وأسرار الغيب رغم معرفته بكل تفاصيل حياة الأباطرة على الأرض.‏

لن أطيل في وصف العقل الياباني وربما كان ذلك كافياً لنفهم معنى انعقاد المؤتمر الثامن لأديان العالم في كيوتو, المدينة التي شهدت انطلاق المنظمة الدولية الكبرى: أديان من أجل السلام أيضاً عام 1970 وهي بذلك تكمل ستة وثلاثين عاماً في موقع الريادة والنجاح كأكبر منظمة دولية في العالم تهتم بالتنسيق بين الأديان.‏

كان بالطبع حشداً غير عادي التقى فيه نحو ألفين من كبار رجال الأديان في العالم في قاعة المؤتمرات الكبرى في كيوتو تحت عنوان كبير: أديان من أجل السلام, وسجل حضور أكثر من أربعين شخصية عربية بارزة في الدين والسياسة.‏

ليس سهلاً أن تبحث عن دورك في مهرجان هائل كهذا فالمؤتمرات الدولية لها مطابخها, وقد عشنا زمناً نترفع عن المشاركة في المحافل الدولية, وكان ذلك خطأ قاتلاً أدى إلى غياب صوتنا عن المجتمع الدولي وبالتالي أصبحت الساحة خالية للأخطبوط الصهيوني الذي يمتد في كل مكان في العالم.‏

حين أتيحت لي فرصة الكلام في الجلسة الرئيسية للمؤتمر, بالطبع لم يكن ذلك على قائمة البرنامج ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً, وجهت رسالتين واضحتين: كيف يمكن أن نحتشد هنا من أجل السلام وحاخامات اليهود يصدرون فتوى لئيمة دنسة خلال عدوان إسرائيل على لبنان تنص على أن التوراة تجيز قتل النساء والأطفال في حال الحرب?? فكيف يمكن أن نتصور السلام في ظروف كهذه?? والثانية كانت مطالبتي بإدانة واضحة من قبل سائر القادة الدينيين في الأرض للرسوم المسيئة التي تطاول بها بعض الأشرار ضد النبي الكريم محمد ].‏

مع ان هذه المطالبات كانت جد بسيطة وسهلة ولكنها لم تمر من دون مخاض عسير وحين صدرت في توصيات المؤتمر لقيت اعتراضاً شديداً من أصدقاء إسرائيل الذين أظهروا بدورهم روابط إلى خطب جمعة تدعو: اللهم رمل نساءهم ويتم أطفالهم وأرنا فيهم يوماً كيوم بني قريظة!!‏

ولكن الموقف الذي سجلناه كان في الواقع من خلال التنسيق العربي في المؤتمر فقد تمكنا من عقد ثلاث جلسات متتالية للفرق العربي المشارك في المؤتمر وفيهم شيوخ وبطاركة وأئمة ومطارنة وسياسيين وفرضنا قرارنا على المؤتمر برفض أي نوع من اللقاء أو الحوار مع الفريق الإسرائيلي, وكما هي العادة فإن المؤتمر يخصص جانباً من اللقاءات على هيئة ريجنال, أي يلتقي فيه أبناء كل منطقة على حدة وبالطبع فالتسمية الأمريكية جاهزة لهذه المنطقة وهي الشرق الأوسط وهو يضم البلاد العربية وإسرائيل.‏

كان موقف الفريق العربي ذكيا فقد قررنا أن نغير مكان وزمان اللقاء الخاص بنا وتم تبليغ العرب جميعاً وحين حضر الإسرائيليون كان كل شيء قد انتهى, وكانت الرسالة قد وصلت بوضوح إن الإسرائيلي لا يمكن أن يكون جزءاً من الشرق الأوسط, بعد تاريخ أسود من الجرائم, وآخره أكثر من ألف دليل في لبنان أن إسرائيل لا يمكن أن تكون في المنطقة إلا عدواً بالمطلق, وعلى الإسرائيلين أن يخضعوا لشروط السلام العادل والشامل أو يبحثوا عن جزء آخر من الأقاليم في الأرض ينتسبون إليه بعد أن طردتهم أوروبا ولم يتقبلهم العرب.‏

أود أن أذكر بكل اعتزاز في هذه النقطة تحديداً الجهود الكبيرة التي قام بها القس رياض جرجور حيث أخذ المبادرة العربية وتمكن من تحقيق هذه الموقف الموفق بذكاء وحنكة, ووصلت الرسالة بوضوح إلى إدارة المؤتمر وإلى سائر إدارات المؤتمرات الدولية الأخرى أن الإسرائيلي ليس جزءاً من المنطقة ولن يكون في المنطقة العربية إلا عدواً بكل المقاييس.‏

رسالة الشيخ تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين كانت هي الأهم في اللقاء ففي الجلسة الختامية التي احتشد فيها أكثر من ثلاثة آلاف مشارك من مائة دولة في العالم قدم الحاخام الإسرائيلي كلمته وقفز مباشرة إلى الشكوى والاستعطاف لقد واجهنا مذبحة هائلة لستة ملايين يهودي في ألمانيا, وبعد ذلك قالت لنا الأمم المتحدة اسكنوا هذه الأرض, كما قال القرآن الكريم لموسى من معه: ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم, ولكن منذ نزلنا أرض آبائنا وأجدادنا فإن العرب لم يتوقفوا عن الاعتداء علينا, ولم يجد شيئاً يكشف عن معاناة اليهود غير صورة هوية للمنحوس جلعاد شميط ورفيقيه الذين وقعوا في قبضة المقاومة, وبأسلوب تهريجي قال للسيد وليام فندلي الأمين العام للمنظمة الدولية: من فضلك هل يمكن أن تتوسط لدى العرب لإيصال نسخة من الكتاب المقدس إلى الأسير الحزين ليتمكن من الصلاة في سجنه!!!‏

بالطبع لم يكن في قسمات الجندي الإسرائيلي أي براءة تدعو للعطف أو التعاطف فالرجل وقع في قبضة المقاومة وهو في دبابته, بالطبع ليست الدبابة للإعمار ولا للتنمية ولا للزراعة ولا للحب, بل هي بكل مرارة السيارة المفضلة لليهودي التائه الذي يرتكب الشر كله ويهلك الحرث والنسل ثم يتساءل بخبث: لماذا لا يحبنا العالم?‏

من سوء حظه أن الشيخ تيسير التميمي كان هو المتحدث التالي وهو قاضي قضاة فلسطين وأعرف الناس بالجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الأعزل, ومع أن الرجل حكيم وهادئ ولكنه لم يجد أي سبيل للحكمة والهدوء وقال بكل وضوح: يبكي الإسرائيلي على المحارب المأسور ولكنه لا يبكي لعشرة آلاف فلسطيني أسير في سجون الاحتلال, قال التميمي: لم أستطع أن أحمل عشرة آلاف صورة للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال, وليست لدي عشرة آلاف نسخة من القران لأرسلها لهم مع وليم فندلي, ولكنني أؤكد لكم أن الشعب الفلسطيني برمته أسير, والاحتلال يحاصر شعباً كاملاً بأسوار عالية وأجهزة رقابة صارمة وسجون مظلمة.‏

يريد الحاخام أن تذرفوا الدموع على مقاتل محارب عاثر وقع في أيدي المقاومة, ولكنه لم يذكر شيئاً عن ألف ومائة ضحية لبنانية في شهر واحد جراء العدوان الإسرائيلي, ونحو ستة آلاف جريح ومعاق, معظمهم من الأطفال والنساء, ونحو مليون نازح جديد إضافة إلى أربع ملايين نازح في الاحتلالات السابقة, ونحو اثني عشر ألف بيت مدمر في بيروت والجنوب, ولكن غاية ما يخشاه هو أن تفوت الصلاة على ذلك المحارب التعيس العاجز في هذه اللحظة عن ارتكاب الشر!!‏

ربما أراد الحاخام أن يرسل إليه ما يجب أن يذكره من نصوص التلمود التي تأمره بقتل النساء والأطفال من دون أي رحمة أو شفقة.‏

وبغضب شديد قال التميمي: من أنت أيها اليهودي الماكر حتى تفسر لنا كتاب الله, وكيف يسوغ لك أن تنصب نفسك مفسراً للقرآن الكريم وتقتطع الآية عن سياقها في بيان مخازي اليهود لتجعلها وعداً لكم بالأرض المقدسة??‏

كان شيئاً صادماً لإدارة المؤتمر, فالعادة أن المطلب اليهودي يمر من دون عناء والصهيوني المدلل لا يرد له طلب, وخاصة في اليابان التي استسلمت لأمريكا دون أي قيد أو شرط!!‏

بعض الأمريكيين أسفوا وتكدروا من اللغة الصادمة للشيخ التميمي واعتبروا أن ذلك لا يسهم في السلام, ولكنني لا أعتقد أن أحداً ممن شهد ذلك المشهد من شرفاء العالم إلا وقال للشيخ تيسير لقد قلت تماماً ما نجده في قلوبنا أيها الصوت الصادق!!‏

إنها محض تجربة أردت أن أنقلها للقارئ الكريم في محاولة لفهم بعض ما يجري في هذه المؤامرات الدولية التي تعقد في العالم, وما يدور في كواليسها, وبعض أشكال الكفاح من أجل أن يسمع العالم قضايانا ومعاناتنا في الأرض المحتلة.‏




E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية