النص الكامل لمجموعة «قطعة سكر» لبدر بدير
.................................................. ..........
تضم المجموعة سبع قصص قصيرة، هي:
1-ركن في عربة.
2-عقب سيجارة.
3-خروفان.
4-فرصة سعيدة.
5- قطعة سكر.
6- شق في الشباك.
7- حبان.
8-رسالة
9-قلوب بيضاء.
وقد صدرت في سلسلة « أصوات معاصرة » ـ العدد (62) أغسطس 2002م.
.................................................. .

*ركن في عربة*
......................

الساعة الثالثة ظهرا. تحركت العربة بحملها الثقيل ، وأخذت تشق طريقها في شوارع المدينة الصغيرة ، متجهة إلى الطريق الزراعي المرصوف المؤدى إلى مدينة الزقازيق ، وراح الكمساري يسعى بصعوبة بين الواقفين بالطرقة في زحام شديد القلم بيده اليمنى يؤشر به في سرعة وثقه على الأوراق التي يقطعها ويسلمها للركاب بعد أن يقبض منهم الثمن، وهو لا يكاد ينتهي من راكب حتى يبدأ مع راكب آخر ،وهو بين فتره وأخرى يضرب بنهاية القلم سقف العربة أو على اللوح الخشب المثبتة فوقه رزم التذاكر مناديا بصوته المرح ( ورق ..ورق يا أفنديه .. ورق) ويبتسم بعض الرجال الذين انتهوا من إجراءات الدفع ،بينما يهم آخرون بإخراج نقودهم من جيوبهم استعدادا للدفع وتحاشيا لقفشات الكمساري اللاذع اللسان.
_( و الباقي يا أخ ) يعلو بها صوت أحد ثلاثة شبان وقفوا متجاورين بالطرقة بعد أن تسلم تذكرته وقدم للكمساري ورقة مالية من فئة الجنيه.
_ بعدين لما تفرج بالفكة.
_ اكتب الباقي على ظهر التذكرة أحسن أنا عارفك من زمان تحب تنسى.
وتعلو ضحكة الشبان الثلاثة معلنة النصر على الكمساري الذي لا يفلت أحد من قفشاته اللاذعة، ويغيب الكمساري بين الزحام، لكن صوته المرح وصفارته الحادة، ونقرات قلمه الفجائية على سقف العربة أو على لوحته الخشبية لا يغيب وسط الأصوات المختلطة في زحام العربة المسرعة، وهو كلما انتقل من ركن إلى ركن في العربة أحدث ضحكا ومرحا تتجاوب له الأركان الأخرى بابتسامات على الوجوه التي يبدو بعضها راضيا وبعضها ساخرا، وبعضها مشاركا بلا معنى أو هدف إلا ذلك الوجه الذي لا يظهر للناس ما يرتسم عليه من اختلاجات وانفعالات لأن صاحبه قد تهالك في مقعده وثنى ساعديه وثبتهما على مسند المقعد الذي أمامه وانحنى بظهره ملقيا رأسه فوق ساعدي وقد بدا وكأنه يغط في نوم عميق، بحيث لا يرى الآخرون منه إلا حلته العسكرية ، التي تغطى جسده المرهق.
وتوقفت العربة في إحدى المحطات ، ولم ينزل احد، وصعد عدد آخر من الرجال وسيدتان أنيقتان يبدو أنهما عائدتان إلى المدينة بعد انتهاء اليوم الدراسي ، واشتد الزحام ، وانحشرت السيدتان بين الركاب ،ولم تمر فترة طويلة حتى جرفهما التيار إلى وسط العربة حيث يقف الشبان الثلاثة بجوار المقعد الذي يحتله رجلان احدهم شيخ معمم تبدو عليه إمارات التحذلق وخفة الروح معا، والآخر هو ذلك الجندي الذي يلقى رأسه على مسند الكرسي الأمامي بينما يستند بكتفه الأيسر على جانب النافذة الزجاجي المغلق ، دون أن يلقى بالا إلى ما حوله من ضجة متضاربة الأصوات .
وتوقفت العربة مره أخرى ، وانحشر عدد آخر من الركاب، وكان من الضروري لتأمين الركاب من إغلاق باب العربة ، ولكي تتم هذه العملية لابد أن يزداد تداخل الأجسام المرصوصة والتصاقها بحيث تنعدم المسافات بين الواقفين ، ويزداد ضغطهم على الجالسين على الجانب الخارجي من صفى المقاعد يمينا وشمالا.
وتمكن بعضهم من إغلاق الباب ، وتلاشت المسافات وأصبح الشبان الثلاثة في بنطلوناتهم الضيقة وقمصانهم الناعمة ، وشعورهم اللامعة والسيدتان الأنيقتان وبقية الركاب كتلة واحدة متصلة الأجزاء وبدلا من جو المرح الذي كان شائعا في أنحاء العربة ، بدأت العصبية تغلب على تصرفات الركاب فيما عدا ذلك الركن الذي كان أكثر الأركان ازدحاما والتصاقا وتداخلا و الذي يضم السيدتين والشبان الثلاثة والمقعد المشغول براكبين اثنين احدهما الشيخ المعمم والآخر الجندي النائم فقد زادت به نسبة العبارات المرحة والتعليقات المتخففة من القيود إلى حد ما ، وبدا المنظر عناقا غير إرادي وغير منتظم سيدتين وثلاثة شبان ترك كل منهم لنفسه حرية الحركة والسكون حسب قوانين وعلاقات الشد والجذب داخل العربة وكأن لسان حالهم يقول (ما باليد حيله).
ـ رجلك شوية من فضلك .
ـ أروح فين يا عم .
ـ لا مؤاخذه.
ـ يا سلام يا ناس .!!
وهكذا كانت التعليقات والهمسات تعلن عن الجو الذي أصبح يسود العربة المندفعة في طريقها بسرعة لا تلوى على شيء.
يا ساتر يا رب ... مش معقول كده .
ونظر الشيخ إلى مصدر الصوت الناعم فإذا السيدتان وقد دفعتهما عوامل الدفع إلى جواره ، بحيث أصبح كتفه الأيمن منغرسا بشده في الجزء الأسفل من بطن صاحبة الصوت الناعم المحتج .
_لا حول ولا قوة إلا بالله مفيش فايدة... هذا قدري .. تفضلي يا هانم وقام الشيخ مستخدما كل قدرته العضلية ليفسح لنفسه مكانا بين الوقوف وليمكن السيدة المجاورة صاحبة الصوت الناعم المحتج من الجلوس بدلا منه .
ـ هكذا النخوة يا مولانا .
ـ بارك الله فيك يا سيدنا .
وهكذا كانت تعليقات الشبان الثلاثة على الموقف في عبارات يفهم منها الشيخ ثناءً على شهامته بينما يبتسم المعلقون ابتسامات ذات معنى آخر ، استقرت إحدى السيدتين بجوار الجندى الذي لم تبد منه أية حركه متجاوبة مع الموقف الجديد خاصة بعد أن لاذت السيدة الثانية بزميلتها وأصبح ضغطها عليها شديدا وبلا حرج مما جعل السيدة الجالسة تزداد التصاقا بجارها الجندي والذي حرك يده اليمنى دون أن يرفع رأسه ، وجذب ( البريه ) من على رأسه إلى الجانب الأيمن أكثر مما كان بحيث أصبح يغطى الجزء الأيمن كله من الوجه والجبهة ثم عاد الى وضعه القديم ، وأصبح هذا السلوك الصامت أمرا شاذا وسط ضجيج الركاب الأمر الذي لفت إليه أنظار الواقفين من حوله .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. لا فائدة .. حاولت حل المشكلة فتعقدت أكثر من ذي قبل .
قالها الشيخ وهو يحوقل ويستعيذ ويلملم ملابسه ويحاول مستميتا ومخلصا أن يدفع الواقفين خلفه بظهره ليبتعدوا عن جسد السيدة الأخرى و التي وضعها القدر بحكم علاقات الشد والجذب أيضا أمامه .
_ ولا يهمك يا سيدنا .
_ الظروف بتحكم ...تعمل إيه ؟
_ أنت عملت اللي عليك .
وعادت التعليقات والابتسامات ذوات المعاني مره والخالية من كل معنى مره أخرى وفى حركه مسرحيه غير منتظره نظر الشيخ إلى الشبان الثلاثة من حوله وهو يمط شفتيه في اشمئزاز ويشير بإصبعه إلى الجندي النائم تارة والى السيدة الواقفة أمامه تارة أخرى إشاره تعلن عن الاحتجاج والتقزز وتدعو الواقفين الى مشاركته نفس الشعور.
ـ فاكر كل الناس زيك يا سيدنا الشيخ ؟
ـ يا خسارة يا رجالة
ـ (معلهش) أصل الإجازة كانت أربعة وعشرين ساعة فقط .
ـ تلاقيه أخدها كلها خدمه .
ـ يحق له ينام على طول
ـ سهران طول الليل على الجبهة الداخلية.
وهكذا أصبحت الهمسات أكثر صراحة ، وأحس الشيخ انه فجر زوبعة، وان الجندي قد تململ في جلسته ، وحرك يمناه ، واخرج منديله الكاكى من جيبه بصعوبة ، ومسح به فمه وانفه من أسفل دون أن يرفع رأسه ، وأشار الشيخ الى مجموعة المعلقين المتحفزين واضعا سبابته على فمه لعله يقطع هذه السخريات التي قد ينتج عنها احتكاك يزيد نظام العربة سوءا على سوء .
ولكن تحذير الشيخ كان أكثر إغراءا للمجموعة الساخرة فمضى كل منهم يتفنن في ابتكار تعليق جديد ، وتزداد درجة حرارة المرح والسخرية كلما ازداد الزحام وازدادت سرعة العربة ، وأحيانا يقترب الكمساري من الركن الضاحك فيشترك في الحلبة ويدلى بدلوه في النكات .
_آه آه فرمت صابعي يا سي الشيخ .
_لا مؤاخذه يابنى ..هانت دقيقتان وكل واحد يروح لحاله .
وكان لهذه الجملة الأخيرة مفعول السحر في ذلك الركن من العربة المسرعة فانتهت التعليقات ، وهدأت الأصوات ، و تطلعت العيون الى الأرفف التي تكدست عليها الأشياء ، وارتفع صوت :
- الباقي يا كمساري .. ونادى آخر
الموقف الأولاني من فضلك.. وهمس أحدهم لجاره - والنبي تبقى تناولني الشنطه دي من الشباك ، وقال الشيخ لجيرانه حمد الله على السلامة يا جماعة.
_ أهلا هو أنت يا أخي .. مش تبين وشك .. ألف سلامة
قالها الشيخ مرة أخرى للجندي الذي كان قد رفع رأسه لأول مره وراح يلقى على من حوله نظرة سريعة جامدة ليس لها معنى محدد ، واخرج منديله الكاكي ومسح به هذه المرة آثارا جفت على وجهه لدمعتين يبدو انه ذرفهما منذ فتره دون أن يحس به احد .
ـ أهلا يا شيخ سيد ..!!
قالها الجندي في اقتضاب، وبصوت ليس به أي أثر للحزن أو العتاب وتلعثم الشيخ سيد وهو يرد عليه ..
الله يعمر بيتك يا بني وينصرك ويصبرك على ما بلاك .
وهز احد الشبان رأسه يمينا وشمالا وهو ينظر للشيخ مستفسرا وقد اكتسى وجهه بالجد ، وأشار الشيخ بسبابته إلى الجندي هذه المرة وبكل ما يمكن أن تحمل نغمات الصوت البشرى من حزن ممتزج بالفخر والاعتزاز قائلا احمد مخيمر .. الجندي احمد مخيمر اخو الملازم الشهيد محمد مخيمر الذي استشهد الأسبوع الماضي في عملية العبور الناجحة للقتال ، و التي تم فيها قتل عشرين فردا للعدو وتدمير ثلاث دبابات إسرائيلية.
وساد السكون التام هذا الركن الهائج من العربة لأول مره ، وراح كل من الشبان ينظر لصاحبه ، وابتسم شاب آخر كان يراقب الأحداث عن بعد ، وتمتمت السيدة الواقفة أمام الشيخ في خشوع . وهدأت العربة من سرعتها ، واخذ بعضهم ما كان لدى الكمساري من نقود . وفى المحطة تدافع الركاب إلى الباب من كل أنحاء العربة ، عدا ذلك الركن الهادئ .
_ تفضل يا سيد .. ويشير المتكلم إلى الشيخ ويقول آخر .
تفضل يا سيدنا الشيخ
تفضلي يا هانم ، وتتحرك السيدتان نحو الباب ، ويمضى كل في طريقه لكن الشيخ يقسم يمينا مغلظا ألا يمضى فى طريقه إلا بعد أن يصطحب ابن قريته الجندي أحمد مخيمر حتى محطة السكة الحديد ليودعه قبل أن يركب القطار الحربي الذي يقله إلى الجبهة.