رؤيــة نقـديـة: أهــل الديــن تـحـت المـجـهـر

٢١ آذار (مارس) ٢٠٠٩بقلم هيثم البوسعيدي


بنفس المقدار الذي لعب فيه علماء ورجال الدين دورا ايجابيا في حياة الأمم وكفاح الشعوب نحو اتجاهات الإصلاح والتجديد والنهضة، فإنهم كذلك سلكوا طريقا سلبيا في إعاقة الشعوب عن السير في دروب التنوير والتقدم، واستخدموا الدين مطية لأجل الوصول إلى مطامع دنيوية ومادية وسياسية، ولا نعرف مدى اتساع حجم هذه الفئة أو تلك، لكن علماء ورجال الدين في حالات كثيرة تعرضوا عبر التاريخ البشري إلى الاضطهاد والسجن والتعذيب والتشريد والقتل والتشويه، وأيضا في حالات عدة تمرغوا في ملذات الدنيا وارتموا في أحضان الحكام وحققوا رغباتهم في الوصول إلى المناصب، وخاف بعض منهم من العقاب الدنيوي ليضحي بالعقاب الأخروي من اجل الحصول على أعلى درجات النعيم والراحة والشهرة، ولا ننسى إنهم أيضا تمتعوا بدرجة عالية من الاحترام والتقدير تعدت إلى درجة التقديس من قبل مؤيدهم وأنصارهم، وان جملة منهم كذلك صاروا في مزبلة التاريخ وخضعوا لنظرات الاستهزاء والازدراء والاحتقار.
وقبل الخوض في تفاصيل الأدوار المختلفة لرجال وعلماء الدين وعلاقاتهم المعقدة بالسلطة والفرد والمجتمع، لابد من الحديث ولو باختصار عن التفريق وان وجد بين مصطلحي رجل الدين وعالم الدين ، فلا يوجد فرق بين المصطلحين في الديانتين المسيحية واليهودية ولكن لا زال الاختلاف بين المصطلحين ظاهر ومطروح في الأوساط الإسلامية، فرجل الدين حسب ما يدعي أهل الاختصاص هو كل مسلم ملتزم ذو اهتمام بالدين وعنده رغبة قوية في تطبيقه ذاتيا أولا على شخصه وأسرته ومن ثم توظيفه من خلال ممارسات عدة في المجتمع مثل الدعوة والإصلاح، وليس كل رجل دين هو عالم دين لكن الإشكالية تكمن في كونه قد يوظف الدين حسب حاجاته ومتطلباته الشخصية، أما عالم الدين من وجهة نظر تلك الأوساط هو المتبحر في علوم ومشارب الدين والمتقيد بالالتزام بالتعاليم والمبادئ المتعددة، ومن له قدرة على فهم التشريع والعلم بالإحكام الشرعية، ومن يكون في يديه مفاتيح فهم العبادات وتطبيق المعاملات بحيث يعتبر المرجع وصاحب الفتوى.
ويعتبر رجل الدين اقل مستوى ومرتبة ودرجة من عالم الدين ويمكن اعتباره جندي لتطبيق أوامر ونواهي الدين الذي التزم بها، ويمكن معرفة مصداقيته من كذبه في كونه فعلا رجل الدين من خلال مستوى اهتمامه بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراقبة سلوكه ورصد الممارسة الخارجية له مع غيره من رجال الدين وأفراد المجتمع.
في هذه الحالة كل مسلم مؤهل أن يكون رجل الدين إذا التزم فقط وحاول تطبيق ما فهمه من مبادئ وأحكام على نفسه وأسرته ومجتمعه وتعمق في الدين من خلال القراءة والاحتكاك بالمختصين والعلماء في الدين وذلك يحتاج إلى خبرة ودراسة، أما إذا أضاف إلى ذلك تبحر عميق في علوم الدين فإنه سيصل في النهاية إلى مرتبة (عالم الدين).
لكن الفريقين هما من يمكن نطلق عليه بأهل الدين وحملة همومه والراغبين في تنفيذه على أرض الواقع وهما في مركب واحد وترابط العلاقة بين الطريفين مهما كانت معقدة فهي ذات أهمية قصوى وضرورة لتنفيذ مصالح الدين.
ولفهم وضعية أهل الدين وأدوارهم المختلفة في حياة الأمم والمجتمعات، لابد من تفسير أولا صور العلاقة المتباينة بين أهل الدين والسلطة وذلك بالتنقل بين عدة أمثلة عبر التاريخ البشري لنعرف بعد تعمق في الإشكال المتباينة التي نشأت عليها علاقة الطرفين ومن كان تحت سلطة وقهر الآخر الحاكم أو عالم الدين.
شهد التاريخ حالات متنوعة من التحالف بين السلطة السياسية والسلطة الدينية حيث تفضلت في كثير من الفترات السلطة السياسية في احتضان " عالم الدين" لاستخدامه في وقت الحاجة والاعتماد عليه لتبرير أفعالها وشعاراتها المختلفة ليظهر ما يمكن تسميته بفقيه السلطة أو دين السلطة، وابرز الأمثلة على ذلك بعض من علماء الدولة العباسية الذين التفوا حول الولاة وألفوا الكتب لمدح الأمراء والدفاع عنهم وإضفاء نوع من الشرعية على تصرفاتهم استنادا إلى تفسيرات مغلوطة لآيات القران والأحاديث النبوية، ففازوا بذهب المعز وجلسوا عن يمين السلطان مما أسفر عن تكرر نمط فقهاء السلطان عشرات المرات عبر الألفية الماضية وترسخ فكرة المسئول المستبد في العقلية العربية.
وتسلق رجل الدين في بعض الحالات مختلف السلالم والسبل ليصل في النهاية إلى السلطة السياسية حتى لو عاش على مجموعة من المتناقضات، بل إن طموحه في امتلاك السلطة الدينية والروحية والمكانة الرفيعة بين طبقات وفئات المجتمع لم يروي عطشه نحو الفوز بأهم من كل ذلك إلا وهو السلطة السياسية، فلبس عباءة الدين المقدسة واظهر خدمة الفقراء لكن في بواطن نفسه هو عبارة عن مارد يسعى نحو تخريب الحكم وإذكاء رغبة السيطرة بممارسة خليط من أساليب الخدع والشعوذة ليس على الحكام فقط بل حتى على المحكومين وأوضح مثال على ذلك راسبوتين الراهب المقدس أو الشيطان المقدس - كما يسميه البعض – والذي كان له بالغ الأثر في زوال حكم نيقولا الثاني آخر قياصرة الإمبراطورية الروسية وظهور عهد البلاشفة الحمر.
وقد تكون سلطة المؤسسة الدينية ذات تأثير كبير على سلطة الدولة وعلى صنع القرار وإدارة مؤسسات الدولة والتحكم في المجتمع أفرادا وفئات وتساهم في تشريع القوانين وسن الأنظمة المختلفة ، وهذا ما يمكن تسميته بالزواج بين المؤسستين وهذا ما يحدث فعلا في علاقة المؤسسة الدينية اليوم بالدولة السعودية الحالية وما حدث سابقا في عهد الدولة الصفوية.
وقد تصل المؤسسة الدينية المتكونة من مجموعة من علماء الدين كما هو الحال في الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى سدة الحكم، ويكون عالم الدين حاكما وفقيها في نفس الوقت حيث إن هذه التجربة فريدة من نوعها وتستحق الدراسة لأنها تعكس طبيعة حكم علماء ورجال الدين لأول مرة في التاريخ الإسلامي وسيطرتهم على هيكلة وصنع القرار في الدولة والمجتمع، والتي أدت بالمجتمع إلى تفريخ سلسلة من رجال الدين الذين يتولون اليوم مناصب مختلفة ويلعبون ادوار اجتماعية وسياسية وثقافية متباينة، فيصبح رجل الدين في كل مكان فتجده وزيرا ومدير عام ورجل أعمال وصحفي وكاتب ومحامي وطبيب ودكتور في الجامعة وبذلك يطبق حسب اعتقادهم المفهوم السائد أن كل مسلم هو رجل دين في بيته وأسرته ومحيطه بمعنى غرس مفهوم " رجل الدين" في كل شبر في الدولة والمجتمع.
وتجدر الإشارة إلى صراع المؤسسة الدينية الرهيب في العصور الوسطى نحو الفوز بالسلطة والبحث عن السلطان الشخصي مدعوم بعدة بمبادئ مثل (أعط ما لقيصر لقيصر وما الله لله)، وهذا الصراع بين الملوك والبابوات نراه واضحا في التاريخ الأوربي - على سبيل المثال - قصة النزاع الشهير بين الملك هنري الثاني وبين أساقفة الكنيسة المتطرفين أنذلك والتي أدت بالملك إلى تقديم تنازلات رهيبة مقابل الخضوع لما يمليه رجال الدين.
وهذا الصراع نتج عنه قبضت (الكنيسة) على حياة ومسار المجتمع وشئون الناس، ومارس البابوات والرهبان إمكانياتهم الروحية والمالية والمعنوية في ذلك الوقت لدفع الناس لتنفيذ مخططاتهم وأهدافهم المنحرفة عن أهداف الدين النبيلة - على سبيل المثال - إشعال نيران الحروب الصليبية والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من البشر ، وأدى ذلك الصراع إلى نفور الناس من الدين ورجاله لتعيش المجتمعات الغربية حالة من الانسلاخ والبعد عن الدين وتعاليمه في الوقت الحاضر.
نقيض لما سبق فهناك الفريق ذي الأقلية والذي أخلص للعقيدة الدينية وابتعد عن السلطة السياسية وممارستها المعقدة وعلاقتها الشائكة، وأتضح ذلك في شكل المعارضة الفكرية والدينية والدعوية نحو مناهضة أفعال أهل السياسة وتصويب تصرفات الحكام السلبية وإبعاد الدين حتى لا يصبح تجارة أو يتلطخ بمكر السياسة، وهؤلاء كان مصيرهم السجون أو الإقصاء أو التكفير أو التشويه في عهود الطغاة، لكنهم ظلوا مثل الثوب الأبيض ناصع البياض عبر التاريخ ولم تنل من قيمتهم كمية الادعاءات الباطلة والافتراءات الضالة، بل تفرغت مبادئهم وأفكارهم في خطاباتهم المحفوظة وكتبهم الموروثة على الرغم من سلبية تعاملهم مع عالم السياسة.
بعض تلك الصور المؤسفة لعلاقة أهل الدين بالسلطة تقودنا إلى تحطيم مفهوم النرجسية الذي يلتف حوله اليوم علماء ورجال الدين، والبحث لإظهار النقد في سلوك الشخصية الدينية وذلك بالاعتماد على أمثلة مختلفة وشواهد تاريخية حتى نكتشف التأثيرات السلبية لأفعال وتصرفات ومواقف جزء من أهل الدين على وضعية الأمم وحياة الأفراد والمسارات الحضارية للمجتمعات والشعوب.
فأهل الدين في بعض الحالات يعززون عملية الشحن النفسي المضاد في نفوس المنتميين لدينهم أو طائفتهم ضد المواطنين الأخريين من المذاهب والطوائف الأخرى، بل يبررون سياسة تسفيه وتحقير الآخر حتى ولو كان ذاك الآخر من نفس الدين والملة وذلك يشكل في حد ذاته عامل هدم لمبدأ الوحدة الوطنية في أي بلد وخصوصا عندما يكون مدفوعا بأقوال وكتب ومؤلفات ومناهج تعليمية وتحريض مستمر وأدلة مفتعلة من الدين، فيتناسى أفراد المجتمع إن وحدة البلد مهددة وقدرة الدولة على تحقيق التماسك قد يكون ضعيف وينبأ بالخطر المحدق، كل ذلك لا يظهر إلا عند حدوث الأزمات الكبرى فينكشف المستور ويضيع الوطن ويتشتت المواطن بسب التفرقة والكراهية والعنصرية بين الطوائف والمذاهب في المجتمع الواحد.
وفي بعض الحالات يبرر أهل الدين سفك الدم البشري من غير منطق، ويسوقون لمفاهيم التطرف والإرهاب، ويغذون أفكار حب الموت وإهمال الحياة في صفوف الشباب من خلال نصوص متناقضة وفتاوى غريبة، فكم حملت فتاوى علماء المسلمين - على سبيل المثال - خلال العقود المنصرمة سلسلة من الفتاوى التي أثارت التعجب والدهشة في المنطقة العربية فقد انخرط جزء منهم في اللعبة السياسية وشجعوا الأفراد على الهجرة إلى أفغانستان والجهاد ضد السوفيت في أفغانستان ثم بعد ذلك رحبوا في حروب الخليج بغزو المحتل للبلدان الإسلامية وأصبحوا المعين والمشرع الأول له. والأفظع من ذلك تركيزهم على قضايا صغيرة وأشغال أفراد المجتمع بأمور تافهة وتشديدهم على ممارستها، وهم في المقابل يلعبون لعبة تخدير الأفراد وتثبيط الشعوب عن الثورة ضد الظالمين والطغاة، وسكوتهم على إجرام الأنظمة السياسية التي يعيشون في ظلها لأنهم باختصار أصبحوا بمرور الزمن موظفي سلطة فتاويهم حسب الأوامر السامية.
ومواقف أهل الدين في أحداث أخرى قد تكون ضد وجود الإنسان، وتعمل تحت عباءة الدين على تحطيم الحياة الإنسانية ذلك ما حدث قريبا من وقوف كثير من الحاخامات إلى جانب حكومة إسرائيل ودعمها الشديد للحرب في غزة وتشريع قتل الأطفال والنساء باعتبارهم شركاء مع حماس، وتشجيعهم للجيش الإسرائيلي من خلال الأقوال والفتاوى على قتل أعداد كبيرة الفلسطينيين حتى لو وصل العدد إلى مليون أو أكثر.
كذلك فإن غزو المدنية والتطور بمختلف أشكاله للمجتمعات أوجد ظواهر سلبية أدت بشكل مباشر إلى أمراض كثيرة في أوساط الناس مثل: الاستغلال، الفردية، الفقر، سوء الأحوال المعيشية، نمط الاستهلاك المفرط، التعامل مع البنوك الربوية، ظهور أشكال الفساد كالملاهي، استيراد القوانين والأنظمة، طوفان وكم هائل من وسائل الإعلام الداخلية والخارجية المخربة، من ثم غيب الدين عن أنظمة الدولة وأصبح الحفاظ على الهوية والقيم في خبر كان، مما جعل أهل الدين في موقف محرج ومتأزم حيث أصبحت أدوارهم غائبة عن الساحة مع تلويحهم فقط بسياسة التحريم والتنديد بالعقاب السماوي دون تقديم حلول جذرية وفعالة لمشاكل وقضايا المجتمع الحاضرة أو إعانة أفراد المجتمع لأجل التخفيف من الأزمات الاجتماعية والأخلاقية والتربوية، كذلك أعطوا الفرصة لمنتقديهم إظهار العيوب والنواقص والمتناقضات في أفعال وسلوكيات أهل الدين، وبذلك أكتفوا فقط بدور المراقب، أو دور الشامت المتندّر على ما حصل وسيحصل مستقبلا .
لذا فإن تلك الأفعال والتصرفات والمواقف لأهل الدين لم تأتي مهما اتسع أو ضاق تأثيرها على طبقات وإفراد المجتمع من فراغ، ولكن ما تمر به المجتمعات من تطور مادي و انحدار قيمي وتغييرات سياسية واقتصادية وثقافية كبرى يؤدي كنتيجة مؤكدة إلى مجموعة من الممارسات المتناقضة وجملة من الأخطاء الفظيعة الغير محسوسة من قبل حملة الدين، وذلك في حد ذاته يشكل أزمة وحالة حرجة يغفل عن إدراكها أهل الدين أنفسهم، ويعجز المجتمع عندئذ عن بناء صورة واضحة ومحددة للعلاقات المتشابكة داخله، وربما يقوده ذلك إلى صراع رهيب وتحول مرتقب لا يحمد عقباه بين مختلف الإطراف والجهات لذا فإن ديناميكية وتكوين المجتمع ينعكس بصورة دقيقة على بنية الدين وممارسات رجال الدين.
وعند التطرق إلى وضعية أهل الدين في عالمنا العربي نجد أن أهل الدين لعبوا دورا كبيرا ودخلوا مهما اختلفت الأسباب والدوافع إما في صراعات رهيبة أو علاقات حميمة مع السلطة السياسية، وأصبحت في الوقت الحاضر الحالة الدينية في المجتمعات العربية ذات نسبة تأثير عالي على الفرد والمجتمع لأنها جاءت في خضم الصحوة الإسلامية وبواعث النهوض من قيود الاستعمار الأجنبي وبروز شخصيات دينية دافعة لهذا المد إما في طريق الإصلاح والتجديد وإما في طريق الفوضى والأحلام الزائفة.
ونقد تلك الحالة الدينية في مجتمعاتنا العربية أمر ضروري، وإعادة صياغة الصورة المعقدة لأهل الدين مع السلطة والفرد والمجتمع مطلب حتمي على الأمة، لان الرجوع إلى صفحات التاريخ خصوصا في الحالة الدينية المسيحية في أوروبا يثير عدة تساؤلات فلماذا تزعزع دور رجال الدين في الغرب؟ ولماذا أصيبت علاقة رجل الدين بالإطراف الأخرى بالخلل والإشكالات؟.
الجواب واضح لكل من يدقق في التاريخ لان الكنيسة كانت غير قادرة على مواكبة‌ مستجدات‌ العصر واستيعاب متغيرات الحياة المتعددة، وفي نفس الوقت لم تستطع الحفاظ على وضعية قيم ومبادئ الدين مما أفضى بالسجال‌ العنيف‌ الذي‌ ساد الحياة‌‌ إبان‌ عصر النهضة‌ بين‌ المفكرين‌ والحكام ورجال‌ الكنيسة‌ إلى‌ إقصاء الدين‌ عن‌ الحياة‌، ومن ثم حبسه‌ في‌ أروقة‌ الأديرة‌ والكنائس‌، وحدوث الطلاق الذي لا رجعة فيه بين الدين والدولة والمجتمع.
وهذا السجال الذي هو أشبه اليوم بالصراع الخفي غير الظاهر بين السلطة الدينية والسلطة السياسية وفئات المثقفين يتكرر بصور وأشكال متعددة في المجتمعات العربية، ولكن منتهاه إلى أين؟ أم هل يتكرر ما يحدث في أوروبا ونصبح نسخة مكررة للواقع الغربي الحالي.
لذا يحتاج أهل الدين في المجتمعات العربية الارتكاز على عدة نقاط ومنها إصلاح خطاباتهم الدينية واتخاذ خطوات جريئة نحو مراجعة ذاتية حقيقية لأنفسهم، والتدقيق في مسارات التعامل مع المجتمع والدولة ودراسة المتطلبات الجديدة للحياة، فلا يعقل الحديث عن أسلمة العالم ومباركة توريث الحكم ومحاكمة المفكرين وتجريمهم وحرمة الاجتهاد مع وجود النص ووأد المعرفة، بينما نجد على الضفة الأخرى من العالم الحديث عن الحرية والديموقراطية وحق التفكير والإبداع والإعلان عن الرأي المخالف بحماية الدولة والالتزام بحقوق المواطنة.
كما إن نظرة جزء من أهل الدين إلى العالم نظرة أحادية الجانب تحتاج للتغير لأنهم معتقدين أنهم خير أمة أخرجت للناس فيحتقرون الآخرين ويقودون مجتمعاتهم إلى الكوارث، وذلك ناتج عن عدة عوامل وأسباب ومن ضمنها الخلل الموجود في المناهج الدينية التعليمية التي تفتقر لعلوم أخرى مهمة، ومن ثم فإن تطوير المدرسة الدينية يعتبر أمر ضروري، وتدريس علوم مختلفة مثل تاريخ الأديان المقارن والفلسفة وعلم النفس والاجتماع وعلم الإنسان تعتبر مرتكزات أساسية يجب أن يعتمد عليها الفقيه أو المصلح في علاقته مع الإطراف الأخرى في الحياة.
وفي النهاية نحن بحاجة ماسة لرؤية جديدة لاستثمار الدين بشكل صحيح وطريقة مفيدة لخدمة كافة الإطراف وليس لهدم وتوسيع الهوة، لذا لابد من تكاتف المؤسسات الدينية والسياسية والعلمية والثقافية المختلفة لدراسة وظيفة ووضعية أهل الدين على الرغم من استحالة حدوث ذلك في الواقع العربي الراهن، لأننا لا نريد أن تتجه أدوارهم نحو الضمور والانكماش ولا إلى السيطرة والتحكم والاستعباد بل نريد منهم ادوار ايجابية ومواقف فاعلة تساهم في بناء الأوطان وتقدم الشعوب وتحافظ على القيم والأخلاق وتتواكب من المتغيرات الحديثة..
ولا ضير أن ننتقد ممارسات وسلوكيات شريحة ليست قليلة من أهل الدين، ونكتشف ضيق أفقهم التعليمي وفقرهم الثقافي من باب الإصلاح لا الهدم، فكما إن هناك من أهل الدين من ضحى من أجل قضايا الإصلاح وتوحيد الأمة ومناهضة الطغاة، هناك أيضا من تاجر بقضايا الأمة ومارس النفاق ولا زال ينعم بعشرات الملايين (بزنز مان) على حساب الوطن وأفراد المجتمع المخدوعين.
ويجب علينا نحن كأفراد في زحمة مستجدات الأحداث ومتغيرات الواقع أن لا نقف حائرين وان تكون لنا آرأء واضحة ومواقف محددة لما يدور من حولنا، صحيح إن جل اعتمادنا في أمور العبادات على أهل الدين على الرغم من إن طريق الجنة واضح ومفتوح لمن أراد السير فيه بدون مرشد أو وصي، أو عالم دين، لأن الحرام والحلال واضحين كوضوح الشمس والقمر.
لكن نحن أصحاب القرار في تحديد أساليب التعامل مع الدنيا والأشخاص والإحداث والسياسة، ويجب أن نفهم الدين من خلال القراءة والتحليل والتفكير والدراسة وليست بالاعتماد على أوامر من أهل الدين، لأننا بشر وهبنا الله العقل ولسنا دمى تحركنا أقوال متضاربة ومواقف غير مسئولة وأناس مثلنا يخطأون ويصيبون.