جولــة في ديوان "مدائن ا لفجــر"
للدكتور صابر عبد الدايم

بقلم: أ.د. خليل أبو ذياب

غبَّ الهزيع الأخير من الليل عدت من إحدى سياحاتي في عالم " الغفران الجديد " بصحبة شيخي العظيم أبي العلاء المعري ، ولما هممت أن أودعه طفح على سطح ذاكرتي هذا البيت :
معلّقٌ بين تاريخي وأحلامي وواقعي خنجر في صدر أيامي !
فأنشدته وأنا أودّع الشيخ فبدت على وجهه وفي يده آثار ارتياح وإعجاب ظاهرة ، فاندفع ينشد البيت مرة أخرى متسائلا عن الشاعر الذي أبدعه فأعلمته به ، وذكرت له أنه من قصيدة للشاعر بعنوان " مدائن الفجر" ، وذكرت له أيضا أنه العنوان الذي اختاره لديوانه الجديد .. ثم استزادني فزدته بعض الأبيات .. ومضى يستزيدني حتى أتيت على القصيدة كلها ، وهممت أن أخرج منها إلى غيرها لولا أن بادرني الشيخ قائلا : حسبك الليلة ما أنشدتني ، وموعدنا الليلة القادمة لنتجول في هذه المدائن الجميلة الحالمة نستنشق عبيرها الطيب ، ونلتقط جناها الشهيّ ، ونتعرف على هذا الشاعر المبدع ، ونتحسس أبعاد عبقريته الملهمة !! وودعته وانصرفت !
وحان اللقاء المنتظر وطرقت باب الشيخ فآنست في أساريره ارتياحا عجيبا وتشوقا بالغا ، واستحثني على مواصلة الإنشاد ، واندفعت أنشد القصيدة تلو القصيدة ، يستوقفني تارة ، ويتعجلني تارة أخرى حتى أتيت على القصيدة العاشرة وهي الأخيرة .. وكنت كلما أنشدته شيئا من الشعر كان يهزّ رأسه حينا ، ويرفع حاجبيه آنا ، ويبسم طورا ، ويقطّب جبينه تارة .. حتى إذا فرغت من الإنشاد أثنى على الشاعر بما هو أهله ، وأشاد بعبقريته الشعرية وإبداعه المتميز .. ثم لمح على وجهي طيف تساؤل أو آثار رغبة في القول فبادرني : ما شأنك ؟ وماذا تريد أن تقول ؟
فترددت قليلا ثم تلجلجت وأنا أقول له : هل يأذن الشيخ فيضمّ هذا الديوان إلى نظائره من دواوين أكابر الشعراء أمثال " المتنبي وأبي تمام والبحتري " الذين خلّد شعرهم بما وضع عليها من شروح وتعليقات في كتبه المشهورة " ذكرى حبيب " و" معجز أحمد " وعبث الوليد " !
وبدا على وجه الشيخ ارتياح ورغبة .. ولمح على وجهي آثار تساؤل ، فبادرني بقوله : كأنك تريد أن أخبرك بالعنوان الذي سأختاره لهذا الديوان وهذا الشاعر ؛ فأومأت إليه أن : أجلْ !
فقال : ليكن " آلام صابر" ! ومضى يحرر هذا العنوان ويحدد أبعاده ومقاصده قائلا : فأما " الصابر " فيمكن أن يكون الشاعر نفسه لكونه اسمه ، ويمكن أن يكون اسما أو وصفا ينطبق على سائر القطاعات التي تحدث عنها في الديوان وطرح همومها وآلامها وعذاباتها فصبرت عليها كما صبر هو عليها ! وقد بدا لي أن آلام هذا الصابر قد استغرقته ، وتعددت تعددا هائلا وكثرت وتكاثرت عليه حتى كادت تأخذ بتلابيبه وتمسك بخناقه .. واندفع الشيخ يعرض أطرافا من هذه الآلام والمصائب والأحزان التي عانى منها هذا الصابر ومن وراءه من الصابرين ، ويشرح همومهم .. فعلى مستوى الفرد/ الإنسان ـ عربيا كان أم مسلما ـ فقد استغرقته الآلام والأحزان لما كان يعانيه من سوء الواقع الذي قصصت عليّ شيئا منه في لقاءات سابقة ، وبالتأكيد أغفلت أشياء كثيرة منه قد حكاها هذا الشاعر وغيره من أبناء عصركم الشقيّ النكد ! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ! وقد استوقفني ما جاء في هذه القصيدة الأولى حيث يقول :
معـلق بين تا ريخي وأ حلا مي ووا قعي خنجر في صد ر ا يا مي
أ خطو.. فيرتدّ خطوي دون غايته وما بأ فـقـي سوى أ نقا ض أ نغا م
تناثرت في شعاب الحلم أورد تي وفي د ما ئي نمت أ شجار أوها مي
مد ا ئن ا لفجر لم تُفتح لقا فلتي والخيل .. والليل .. والبيد اء قدّ امي
والسيف والرمح في كفّيّ من زمن لكنني لم أغاد ر وقع أ قــد ا مـــــي
تشدّ ني لمد ا ر الجدي أسئلــــــة يـشبُّها سرطا ن الحيرة ا لد ا مـــي
وتحتمي با ستواء الريح أ شرعتي والموج يقذ فني أ شلاءَ أ نســــــا م
أ د ور منقسما في غير د ا ئرتي ولست أ بصر إلاّ ظلَّ آ لا مــي ..
هكذا عاش الشاعر معلقا بين آلامه وأحلامه ، بين واقعه المحطوم ، وبين ماضيه الماجد الذي صنعه الآباء والأجداد وضيعه الأحفاد .. وبالتأكيد هذه هي حال الأمة التي لم تجد إلا التحسر على تلك الأمجاد الغابرة .. وانظر إلى هذا الشاعر الصابر وهو لا يرى أمامه إلا ذلك الفضاء اللانهائي المثقل بالهموم والآلام والأحزان التي تأخذ بخناقه وتكاد تقضي عليه وتمزق نفسه تمزيقا .. على أن ما يلفت النظر ما يملأ نفس هذا الصابر من أمل ضخم في المستقبل ، فإذا لم تفتح له وللأمة " مدائن الفجر" هذه ، فلا بدّ أن تفتح لا محالة في يوم آ ت إن شاء الله !
ويلاحظ الشيخ أن آلام الشاعر الصابر تختلط بآلام الأمة وآلام الوطن ، ويعجبه رصده للأسباب والدوافع التي صنعت تلك الآلام وبذرتها في نفسه ونفوس غيره من أبناء هذا العصر حيث ضاعت هوية الوطن والإنسان في هذا الزمن الرديء ـ زمن الهزيمة والانكسار فحوّلت الجميع أشلاء أشباح ، أو بقايا أقوام انتزِعت الحياة منهم ، وجُرِّدوا من الكرامة والكبرياء التي ورثوها عن الآباء والأجداد .. وكل ما بقي له ولهم ذلك الركام الهائل من الزيف والوهم والخداع النفسي المرهق والتخلف والجبن ؛ ألا ترا ه يقول :
وغِبْتَ يا وطناً ضا عت هويّتُه والأ رض تنبش عن أ شلاء أ قــوا م
هذ ا لسا نُــك مسجون تـقيّــد ه موا قف الوهم من زيف وإ حـجــا م
وذي خطـا ك بلا د رب يصاحبها وذي رؤا ك بلا لون وأ عـــــــــلا م
وذي حد ود ك بالنيرا ن مضرمة وخلفها ا لنا س ترعى مثلَ أ عنـــا م!
ويلتفت إلى هذا الوطن الذي تبدلت هويته وضاعت معالمه ونسي ماضيه العريق وأمجاده الغابرة مدّرعا كل هذا الركام من الزيف الذي صنعته الحضارة الاستعمارية لتبديل جلده وطمس معالم صورته الماجدة وتغيير شخصيته عبر تلك الحجج الزائفة والأباطيل الواهمة والافتراءات الخادعة ، يقول :
غيّرت جلد ك ، لا شيءٌ أ ميّزه به سوى أ نه من صنع أ عجـــــــا م
أ عرتهم منك أُ ذ نا غيرَ واعيــة فحنّطوك ، وقالوا : الصا عد النا مـــي
وما وعيتَ سوى ا مشاج فلسفة وكـنـت سـهـما بهـا لــم يرمه را م
وكنتَ قرد ا نمت أ ظفاره صُعدا حتى غد ا في د جاها العنصر السامي
وكنت تخطر في الأرجاء منطلقا فصرت"عبدَ الحد ود"الحارس الحامي
فكم رُميتَ على الشطآ ن يا وطنا ضاعــت هـويـّتــه في تـيـه آ كــا م
هكذا صارت صورة الوطن بعد أن طمست معالم هويته وملامح صورته الماجدة بسيل الأكاذيب
التي ملأت كيانه وأعمته عن الحقيقة التي ملأت كيانه المتهدم وأعمته عن الحقيقة المرة والواقع الأسود الكئيب الذي يعيشه ؛ وهكذا تحلى هذا الإنسان ـ ومن ورائه الشعب أو الأمة كلها ـ عن كل مبادئه وقيمه الرفيعة ليستبدل بها قيما حقيرة ومبادئ وضيعة تهافت على تقديسها وعبادتها من دون الله والالتزام بها والدعاية لها .. وهكذا ضاعت معالم جلده بعد أن صنع له المزيفون جلدا آخر لا يحمل بصمته الحقيقية الأصيلة ، فأغرَوْه بالشعارات الزائفة والتعاليم الجوفاء ، وأوهموه بضرورة الإيمان بها وتصديقها بعد أن عطّلوا عقله ونشروا في جوانبه الوهم والباطل .. وربما كان أسوأ ما زيّفه المزيفون من حقائق هذا الوطن