نص حوار ناهد خيرى مع الروائي الكبير محمد جبريل
..................................................
نص الحوار الذى أجرته ناهد خيرى مع محمد جبريل ، ونشر فى جريدة " الجماهير " المصرية ـ 9/4/2008
ـ هل تذكر متى بدأت الكتابة ؟
* من الصعب أن أحدد موعداً لبدء علاقتى بالكتابة . نشأت فى بيئة تحض على القراءة والتأمل والدهشة واكتساب الخبرات . مكتبة أبى الممتلئة بكتب الاقتصاد والسياسة ، باعتبار مهنته كمترجم للعديد من اللغات ، فى العديد من الشركات الأجنبية ، زمن الكوزموباليتينية السكندرية ، لم تكن تخلو من كتب فى الإنسانيات المختلفة . قرأت لطه حسين والعقاد والزيات وتيمور والمازنى والسباعى [ خلت المكتبة من عمل لنجيب محفوظ الذى اكتشفته ، وأحببته مطلقا، فى فترة تالية ] . أقبلت على القراءة إلى حد أزعج أبى ، وأظهر خشيته من أن تدركنى حرفة الأدب [ حدث ما كان يتوقعه ، ويخشاه ] ، ومثلت الروحانية التى يكاد يتفرد بها بحرى بين الأحياء والمدن المصرية دافعأ موازياً أو متشابكاً . لا أذكر متى تحول حب القراءة والمشاهدة والمعايشة إلى محاولات للكتابة . لكن ما أذكره أنى أقدمت فى حوالى الرابعة عشرة من عمرى على طباعة محاولة ، سميتها " الملاك " ، لجأت فيها إلى التوليف بأكثر من عنايتى بالتأليف ، فكلماتى أشبه بأدوات الوصل بين تعبيرات وتشبيهات وكنايات للأدباء الذين أحببت كتاباتهم . ولعل قصتى الصغيرة " يا سلام " كانت أولى المحاولات التى عبرت فيها بصوتى الخاص .
ـ فى سطر واحد : ماذا تعنى الإسكندرية لمحمد جبريل ؟ وهل حقاً تستمد منها معظم موضوعاتك ؟
* تريدين إجابة فى سطر واحد عن سؤال فى سطرين . والحق أن علاقتى بالإسكندرية تبدأ منذ الطفولة ، بحيث يصعب أن أتحدث عنها فى مساحة محدودة ، ومحددة . الإسكندرية ـ وحى بحرى بخاصة ـ هى الأرضية التى تتحرك فيها أحداث أعمالى وشخصياتها . لا تعمد ، وإنما أنا أعبر عما عشته وعرفته . ربما لو أنى لو لم أرحل عن الإسكندرية فى مرحلة الشباب الباكر ، ما كان المكان السكندرى يلح فى أن يكون قواماً لأعمالى الإبداعية . حتى الأعمال التى قد تنتسب شخصياتها أو فضاءاتها إلى مدن غير الإسكندرية ، تتخلق حياتها فى بيئة مدينتى . ذلك ما حدث فى روايتى " الصهبة " التى تتحدث عن طقس حقيقى فى قرية صعيدية ، لكن الموالد والأذكار والابتهالات والأدعية والطقوس الدينية التى تسم الحياة فى بحرى ، كانت هى الدافع لأن تنتقل إلى مساجده وميادينه وشوارعه وأزقته ومعتقداته وتقاليده
ـ قلت فى أكثر من مناسبة أن الحنين هو الدافع الأهم لكى تكتب عن بحرى .. فماذا عن الروايات التى توظف التاريخ أو التراث ؟
* الحنين إلى الزمان هو الباعث للروايات الكبرى فى القرن التاسع عشر . ذلك ما ما يطالعنا ـ على سبيل المثال ـ فى أعمال بلزاك وفلوبير وستندال وتولستوى وغيرهم ، وهو ما يجد امتداداته ـ فى الفترات التالية ـ فى أعمال وولتر سكوت وجورجى زيدان وسارتر وكامى والعريان وأبو حديد وعادل كامل ومحفوظ والسحار ومكاوى وباكثير وغيرهم .
ولعل الحنين إلى الزمان ـ بالنسبة لى ـ يتوضح فى الأعمال التى تحاول توظيف التراث ، سواء كان الزمان فرعونياً كما فى " اعترافات سيد القرية " ، أو هيلينيا كما فى " غواية الإسكندر " ، أو إخشيدياً كما فى " من أوراق أبى الطيب المتنبى " ، أو فاطمياً كما فى " ما ذكره رواة الأخبار من سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله " ، أو عثمانياً كما فى " الجودرية " ، أو ينتسب إلى ألف ليلة وليلة كما فى " زهرة الصباح " إلخ .
حين أنشغل بقصة تحاول توظيف التاريخ ، أو تحاول توظيف التراث ، فإنى أحيا ذلك الزمن البعيد ، أقرأ فى المعتقدات والعادات والتقاليد وسلوكيات الحياة اليومية . أحيا فى كتاباتى ما عشته ، أو قرأته ، من قبل . يصبح الماضى ـ بفعل الكتابة ـ حاضراً ، أحياه بكل تفصيلاته وجزئياته ومنمنماته .
ـ ماذا يعنى لك تدريس قصصك فى عدد من الجامعات ؟
* المبدع يكتب ليقرأه الناس ، وليس ليودع كتاباته الأدراج ، فإذا مثل طلاب الجامعات ـ وهم قاعدة عريضة ـ بعض هؤلاء القراء ، فظنى أن ذلك ما يسعد المبدع .
ـ لماذا كتاباتك متعلقة دائماً بالتراث والتاريخ والحوارى والأزقة والشوارع ؟
* أتحفظ على مضمون السؤال ، أو فى الأقل صياغته ، لكن المبدع يستمد كتاباته من حياته ، من قراءاته وحصيلته المعرفية ومشاهداته وخبراته وخبرات الآخرين وتأملاته . وكما قلت فإنى نشأت فى بيئة لها خصوصيتها على مستوى الأسرة والحى ، وكان لابد لذلك أن ينعكس فى كتاباتى .
ـ يتهمك الكثيرون بالإنتاج الضخم كما وكيفاً ؟
* لعلى أستعيد المقولة الشهيرة عن التهمة التى يجد المرء أنه لا يستحقها . والواقع أن حياتى فى الإبداع . ذلك ما حرصت عليه منذ بداية لا أذكرها على وجه التحديد . أومن بالنظام وبالحرص على الوقت وبأن تسبق اهتماماتى بالقراءة اهتماماتى الإبداعية . أرفض تعبير قتل الوقت لأن الوقت هو الذى يقتلنا ، وحين بدأت مشروعى الإبداعى ، فقد حاولت أن أخلص له بالقراءة والتأمل والتحصيل المعرفى ومحاولة التوصل إلى وجهات نظر . أهملت الملذات الصغيرة ، كالجلوس على المقاهى ، والاطمئنان إلى البلادة ، والمنتديات التى تكتفى بالثرثرة . تكونت فى وجدانى وذهنى ملامح معظمها يعانى الشحوب ، لكنها اكتسبت الوضوح بالانتصار لقضية الفن . رأيى أن المبدع يحاسب على قيمة ما يكتبه ، وليس على كثرة ما يكتبه . هل تستحق أعماله القراءة ، أم أنها تنطوى على استسهال فى الكتابة ، دون معنى حقيقى ؟
ـ ماذا يعنى ترجمة بعض أعمالك ؟
* ما ترجم من أعمالى قليل جداً بالقياس إلى الوفرة التى تفضلت بالإشارة إليها ، نقلاً عن آخرين . وكنت سأشعر بالأسى لو أن هذا الأمر شغلنى أكثر مما ينبغى ، لكن نصيحة أستاذنا يحيى حقى فى بالى دوماً ، وهى أن يكون انشغالى بالإبداع قضيتى الأولى ، فلا أنشغل بقضايا قد تصرفنى عن الحياة التى اخترتها لنفسى .
ـ هل كتبت قصة حياتك ،أو جزء منها ، فى أحد مؤلفاتك ؟
* أنا موجود بصورة كاملة ، سيرة ذاتية يعنى ، فى كتابى " حكايات عن جزيرة فاروس " ، وفى روايتى " مد الموج " وفى " أغنيات " و " قراءة الصور " و " أيامى القاهرية " والأعمال الثلاثة الأخيرة لم يتح لها النشر . بالإضافة إلى أنى موجود ـ على نحو ما ـ فى العديد من رواياتى : الشاطئ الآخر ، قاضى البهار ينزل البحر ، النظر إلى أسفل ، زمان الوصل ، رباعية بحرى ، أهل البحر ، كوب شاى بالحليب ، ذاكرة الأشجار ، وغيرها .
ـ ماذا تعنى القراءة بالنسبة للمبدع ؟
* أصارحك بأنى أعتبر نفسى قارئاً قبل أن أكون كاتباً . كانت القراءة دليلى إلى الكتابة . والقراءة ـ حتى الآن ـ هى الحافز والمستفز لمناقشات وأفكار ورؤى ، تجد سبيلها إلى الورق فى أعمال روائية وقصصية . يذهلنى قول البعض إنه قد حصل من القراءة ما يكفيه ، وأنه يعتمد على موهبته ، تلك نظرة قاصرة ، وعكست تأثيرات سلبية على مواهب كبيرة ، توقعنا أن يعمق صوتها بإيجابية فى إبداعنا الحديث ، لكنها صدقت نفسها ، فلم تلحظ الصدأ الذى ران على موهبتها بالتوقف عن القراءة بكل ما تعنيه من تعرف وتشوف وتجارب وخبرات ، حتى تآكلت الموهبة تماماً .
ـ ما رأيك فى جائزة البوكر التى حصل عليها بهاء طاهر ؟
* ظنى أن فوز بهاء طاهر بهذه الجائزة قد أنقذها من التشكك الذى كان المثقفون العرب ينظرون من خلاله إلى الجوائز الأجنبية ، فضلاً عن عمليات الترجمة والنشر من العربية إلى اللغات المختلفة . وكما قال صديقى الناقد الكبير الدكتور محمد عبد المطلب فإن الكثير من الإبداعات فى الأعوام الأخيرة كتبها أصحابها بشروط ، هم يكتبون عن الجوانب السلبية ومظاهر التخلف فى البيئة تصوراً بأنهم يرضون العين الأجنبية فيسهل ترجمة كتاباتهم ، بصرف النظر عن مستواها . لقد أسرف فاقدو الموهبة على أنفسهم وعلينا بكتابات تطفح بزنا المحارم والشذوذ والعلاقات المشبوهة وتوهم الصراع الطائفى ، سعياً للترجمة وللحصول على الجوائز . والمؤسف أن بعض الناشرين الممولين من جهات أجنبية جعل تلك الطريق معبدة أمام هؤلاء الأدباء ، فقصروا أعمالهم على ما يريده الآخر ، وليس ما يريده الفن . إنهم يمسكون فى أيديهم " مازورة " ويقيسون ويفصلون ، دون اعتبار لما تؤهلهم له قدراتهم الفنية الضحلة ، وثقافتهم الساذجة ، بهاء طاهر جعل من بوكر ـ حين فاز بها ـ جائزة حقيقية ، تستحق الاحترام ، ولعل ذلك ما تحرص عليه فى دوراتها القادمة .
ـ هل توجد علاقة بين الأدب والصحافة ؟
* أثق أنى أدين للصحافة بأفضال كثيرة . إنها هى المهنة الأقرب إلى الأدب من حيث أنها عمل يتصل بالكتابة . وقد أتاحت لى الصحافة قراءات وأسفار وخبرات وعلاقات ممتازة وراتب يعين على الحياة فى مجتمع يحرص على مجانية الكلمة مقابلاً للأجور الفلكية التى يتقاضاها نجوم السينما والغناء والرياضة . أما القول بأن الصحافة تلتهم وقت الأديب ، فإنى أعتبره من قبيل حجة البليد . النظام والحرص على الوقت وإهمال التفاهات وسيلة المبدع الحقيقى للقراءة والتأمل والكتابة الإبداعية . أذكرك بأستاذنا نجيب محفوظ الذى ظل لأعوام طويلة فى وظيفة تمتص أكثر من نصف النهار ، لكن حبه للفن ، ومثابرته ، وحرصه على النظام ، ذلك كله أثمر الإسهامات الأجمل فى الرواية العربية . ولعلى أذكرك ـ فى المقابل ـ بالعديد من المنتسبين إلى الأدب ، يقضون أيامهم فى التنقل بين المقاهى والقعدات الخاصة وأحاديث النميمة ، يكتفون بالنيل من الآخرين دون أن ينظروا إلى داخل أنفسهم .
ـ هل حرية الكاتب مطلقة أم ملتزمة ؟
* فى رأيى أن الحرية هى الأصل . وإذا كان البعض يتعمد الإساءة إلى هذا المعنى الجميل بكتابات تستهدف الإساءة للمشاعر الدينية ، أو دغدغة المشاعر الحسية ، أو افتعال القضايا التى تهدد نسيجنا الاجتماعى ، فإن ذلك لا يعنى المصادرة ولا المحاسبة الرقابية من الدولة ، إنما هى مسئولية المثقفين أنفسهم . إن عليهم أن يقرءوا ويناقشوا ويحللوا ويبدوا الرأى فى مواطن الإيجاب والسلب ، الرأى العام المثقف يستطيع أن ينبه إلى الأعمال التى تستحق القراءة والتقدير ، والعكس ـ بالطبع ـ صحيح . وإذا كان النقد يفضل الاسترخاء فى غيبوبة ، فلعل المجتمع الثقافى فى عمومه يضع أيدينا على ما ينبغى قراءته ، وما يجد موضعه الحقيقى سلال المهملات !
ـ ما رأيك فى النقد والنقاد الآن ؟
* أنا أكتب بعناد أمواج البحر ، وليس بعناد الثيران كما قال أستاذنا نجيب محفوظ . عناد الثور ينتهى بمصرعه ، تلك هى النهاية . أما عناد أمواج البحر فإنه يظل ، قد ينحسر بالجزر ، لكنه يعود بالمد . تهمنى آراء النقاد ، لكنها لا تشغلنى ، لا يشغلنى أن يكتبوا عن أعمالى ، أم ينصرفون إلى كتابات يرون أنها أكثر جدوى عن أصدقاء وأفراد شلة ومحاسيب . مع ذلك فإنى أعتز بكتابات كثيرة لنقاد مرموقين عرضوا لأعمالى بالدراسة والتحليل ، ونشروا كتاباتهم فى صحف ودوريات مهمة على امتداد الوطن العربى ، كما أعتز بأربعة عشر كتاباً تناولت أعمالى ، وأيضا ما يقرب من عشر رسائل جامعية ما بين الماجستير والدكتوراه . يزعجنى التعبير المشفق : أنت لم تأخذ حقك . إذا تمثل هذا الحق فى الأخبار الصغيرة ، الشخصية والتافهة ، بالصحف فأنا لا أريده ، إنما أريد النقد الذى يقوم ، ويقيم ، بموضوعية ، تحتاج إليها حياتنا الأدبية . وهذا ما حصلت عليه بامتياز .
ـ لماذا اختفت الرواية الأدبية من السينما ؟
ـ لقد توصل السادة كتاب السيناريو إلى السر الذى يحفظ عليهم الجهد ويحقق لهم أقصى الكسب . إن كل ما يصدر من أعمال روائية أمامهم ، يقلبونه ويختارون موقفاً من رواية ، ويستوحون شخصية من رواية أخرى ، المهم أن ينسب لهم القصة والسيناريو والحوار ، ولا أريد أن أستطرد فى هذا الأمر ، حزنى يتجدد كلما نبهنى صديق إلى موقف فى أحد أعمالى سطا عليه ـ باستسهال سخيف ـ كاتب للسيناريو ، وضفره فى مواقف أخرى للآخرين ، ومزجها بمواقف أملاها خياله السقيم ، وطالعنا برواية تنسب إليه من الألف إلى الياء ، ويجنى عائداً يصعب عليه أن يتنازل عن جزء منه ، حتى لو كان ذلك التصرف من قبيل إبراء الذمة .
ـ ما آخر أعمالك الإبداعية ؟
* فاجأنى الناشرون فى نهاية العام الماضى بنشر ما كان مودعاً فى أدراجهم طيلة العام ، فصدر لى " كوب شاى بالحليب " عن دار البستانى " ، و " أهل البحر " عن هيئة الكتاب " ، و " المدينة المحرمة " عن دار مجدلاوى بالأردن ، وبدأت الوفد فى نشر روايتى " ذاكرة الأشجار " منجمة . ولى على الكومبيوتر ثلاث روايات أخرى أرجو أن أقدمها للنشر فى وقت مناسب ، فلا تختلط أوقات الصدور .