الخيـــــــوط
(إلى محمد جبريل)

شعر: حسين علي محمد
..............................

(1)
كان ترامُ مدينتنا يمشي في الليلِ بطيئاً يتثاقلُ كالسيدةِ الحاملِ، وجباهُ الخلقِ تغوصُ ببحرِ العرقِ اللزجِ، وأجسادُ النسوةِ تلتصقُ، وتختلِطُ روائحُها: رائحةُ الإبِطِ، وكولونيا باريسَ، وعطرُ المرأةِ، وأنا ..
ألصقُ صدري في صدرِ امرأةٍ، فتُعنِّفني عينا رجلٍ ممصوصٍ، ويبسمل، ويحوقلُ، وعلى السلمِ رجلٌ يُرقصُ قرْدتَهُ، ويُغني ـ واللحنُ ذبيحٌ في الحلْقِ ـ
:"أتعرفُ من نحنُ ؟ لقد كنا في يومٍ ساداتِ العالمِ، كنا في يومٍ من فجرِ البشريةِ نعبرُ هذا البحرَ الأحمرَ، نبني الأهراماتِ ونحمي الأديانَ، نُقيمُ الصلواتِ، وكم أعطينا ! .. من أورثني هذا الفقرَ .. وهذا الذلَّ .. فسالَ دمي .. وبدون ثمنْ!"

"في طُرقاتِ الأحجارِ الصلدةِ أمشي
وتفيضُ الأرضُ جفافاً
جوعاً
قهراً
خوفاً
وتفيضُ الأرضُ وتمنحُ مغتصبيها
قمحاً
ونبيذاً
وجسوماً غضَّهْ
وعطوراً باريسيَّهْ
ونهوداً من مرمرْ
منْ يمسحُ عنِّي قهري؟
منْ يمنحني لحظةَ دفءٍ وسعادهْ؟
والدميةُ تلهو في صدري، وتُحدِّثني ..
عاشتْ عمراً بالطولِ وبالعرضِ،
وفاضتْ لحظاتي
قهراً
خوفاً
جُبناً
أبعدْتُ الوجْهَ (فهذا وجْهٌ منْ صلصالٍ
يختلطُ الشعرُ / الموجُ بصدرِ الرجلِ الأصلعِ
يبسمُ منتَشِياً، فتتمتِمُ
"وجدوني وقتَ بزوغِ الفجرْ
لما مزَّقَ ضوءُ القمرِ الشاحبِ أرديةَ الظُّلمهْ
في ذيلِ الشهرِ)، مفاجأةٌ تحتَ الحائطِ
(وجدوني حيا أتكلَّمُ،
وعروسٌ من صلصالٍ في حضنيَّ)
كنا نفترشُ الرملَ، ونضحكُ
والعينانِ تروغانْ
والوجهُ الأبيضُ مصبوغٌ بالحمرةِ
والنهدُ المكسورُ يُحاورُني
(من جعلَ الأرضَ الخصبةَ لا تُعطي غيرَ الأطفالِ الجوفْ؟)

(2)
وَمَضَ البرقُ الليلةَ
فابتلَعَ الضوْءُ تُرامَ مدينتِنا الأملسَ
وتعرَّى جسدي المنخورُ
وكانتْ ساقي المبتورةُ تتدحرجُ قُدَّامي
والنسوةُ يجرينَ ويهبطْنَ، ويبسمْنَ
وساقي مبتورهْ
أرفعُ رأسي للنورِ، وأضحكُ
أصنعُ منْ نغمي قُدْساً
(كيفَ سألحقُ بالفاتنةِ) وأرقُصُ
يتشرنقُ هذا الجمعُ
وقُدامي تمثالٌ آخرُ من صلصالٍ
ينحسرُ الثوبْ

حرسُ الجامعةِ الليلةَ
أخرجَ أسلحةً ما كانتْ تخرجُ
فتدفَّقَ نهدا "سلوى" باللبنِ
وشرِبَ الجمعُ
انكبَّ الشرطيُّ على النهدِ المتكلِّمِ
أخرسهُ بالسونكيِّ،
وظلَّ يُطاردُ "سلوى"
برصاصاتٍ في الجِيدِ
وسونْكيٍّ في الصَّدْرْ

(3)
اختفتِ الفرحةُ منْ وجهي
بعد ثَوانٍ منحوني ديناراتٍ نفطيَّهْ
عُدتُ أُغنِّي للشرطيِّ بصوتٍ يتسربلُ في الفرْحِ اللونيِّ،
ويملؤ هذي الحافلةَ المكتنزةَ باللحمِ البشريِّ

وكان رصاصٌ أرعنُ ..
يقتُلُ هذا الفرحَ المرسومَ على الأوجهِ
فتراني أصرخُ في صوتٍ يتلوَّنُ بالوطنيَّةِ:
كُفُّوا
حتى يستمتعَ كلٌّ منكمْ بِغنائي!!

ديرب نجم 9/5/1978

</i>