(تابع / دراسة حسني سيد لبيب)
ويهتدي الإنسان بهدى الإيمان الذي يقوده إلى بر الأمان، فتسمو الروح بقراءة القرآن، وتصفو النفس وتشف، ويتحلّى الإنسان بالشجاعة والجسارة، إلا انه ينهي القصيدة بتساؤل مرير:
.. قدْ أَشرقتِ الشمسُ
صباحاً
منْ مكَّهْ
فلماذا يرْحلُ هذا العُصفورُ
إلى شُرفةَ قيْصَرْ
ومنازلِ كسْرى
يُلقي بالنَّفسِ القَلِقَهْ
في جوْفِ الشَّبَكَهْ ؟!
ومن تتشبّع روحه بنور الإيمان، ومن تشرق شمس الحق من دياره، عار عليه أن يلجأ إلى ديار الغريب، ويقع في شبكة الصياد، والرمز قويُ الدلالة شديد الإبانة .. الرمز هنا عصفور يرتحل إلى شرفة قيصر ومنازل كسرى .. لاحظ رحلة العصفور إلى ديار قيصر وكسرى، والدلالة التاريخية لغربة "العصفور" والمغترب هنا، أو المعادل الموضوعي للعصفور / الرمز، هو الإنسان العربي الذي أشرقت الديانات من أرضه، فلماذا يغترب في أرض غير أرضه؟ والنتيجة المتوقّعة لهذا الاغتراب:
يُلقي بالنَّفسِ القَلِقَهْ
في جوْفِ الشَّبَكَهْ ؟!
.. وهي مأساة تجسّدت كابوساً جاثماص على الصدر، يدفع إلى التوتر والضيق وقد يؤدِّي إلى الانتحار!
وفي قصيدة "الأضلاع الناقصة دائماً" محاورة قصيرة بين الشاعر وصاحبه ذي الجبهة (النورية) .. يقول عنه صاحبه إنه عاش كالأنبياء .. وإن أخلّ تكرار الوصف بالسياق .. كما انضغط الحوار فقصر قِصَراً أخلّ بالقصيدة. فهناك قصائد تتطلّب أقلّ عدد من الكلمات، وأخرى تتطلّب عكس ذلك.
وفي قصيدة "أبي" يخوض تجربة موت أبيه، فيوجز التعبير إيجازاً شديداً، سائراً على نهج السياب(5) ومحمد أحمد العزب(6)، ولكن من غير أسباب أو إيغال في شعاب النفس:
هُوَ الآنَ يطرُقُ باباُ من النَّقْعِ
يصْرُخُ كيْفَ يشاءْ
يصُفُّ الأرائكَ للرِّيحِ
يُشعِلُ حجرتَهُ
ويُحاوِرُ نجْمَ الدِّماءْ
وفي الليْلِ يومضُ برْقٌ
فيجفُلُ
هلْ يُبصِرُ الآنَ وعْدَ السماءْ ؟
وهلْ يسمعُ الشيخُ صوْتَ الرياحِ
بوادي الفناءْ
أيا فرسَ الموتِ ،
أقبِلْ ، وطِرْ بي
ودعْهُ هنا نائماً
مُستريحاً
وألْقِ عليْهِ .. الرِّداءْ
والملاحظ أن لهذه القصيدة صوتين: الأول للحدث والوصف لحالة الموت، مستغلا اللحظة الآنية. لاحظ قوله: هو الآن ..هل يُبصر الآن ..؟ أما الصوت الثاني: فيتمثل في كونه صدًى للصوت الأول، أو هو النتيجة وخلاصة التجربة، ونجد هنا تبدل صيغة الخطاب إلى نداء "فرس الموت":
أيا فرسَ الموتِ ،
أقبِلْ ، وطِرْ بي
ودعْهُ هنا نائماً
مُستريحاً
وألْقِ عليْهِ .. الرِّداءْ
وللقصيدة صوتان آخران، او هما الصوت وصداه، يُعبِّر الصوت عن النزعة الإيمانية وروحانية الشرق، والصدى هو الأسلوب الاستفهامي عن رحيل عصفور الشرق إلى أرض غير أرضه، أي أن القصيدة مؤطّرة محدّدة المعالم قبل أن يكتب الشاعر حرفاً واحداً.
وفي قصيدة "القيامة" يوجز رحلة الإنسان في سيره إلى أفقه المنشود، متجهاً إلى النهاية المحتومة "الموت"، مآل كل شيء حي، ويلجأ إلى تكرار بعض السطور لتأكيد المعنى، لكنه يفتقد هنا المغامرة الأسلوبية، ويعوزه عمق التجربة، أو قل حرارة التجربة التي تُعطي قوة الدلالة. لكن القصيدة في ضوء أي مقياس قد أدّت الغرض منها كفكرة حرص الشاعر على تضمينها من أول القصيدة إلى آخرها.
ومما سبق يتضح أن مفردات اللغة الشعرية عند الدكتور حسين علي محمد مفردات يُغذِّيها الحلم، أو قل إن انطلاقته تبدأ من دائرة الحلم، وفي الحلم استرجاع للتاريخ الإسلامي وأمجاده بصياغة شعرية تبعد عن الشكل التقليدي في كتابة الشعر، مستعيناً بالتقطيع والتفعيل، والموتيفات الفنية للشعر الحديث، مسترجعاً أسماء شخصيات وأمكنة وأحداثاً تنسج في إطارها معالم التاريخ الإسلامي، وتشكل في حد ذاتها رموزاً ودلالات لهذا التاريخ العظيم.
وصورة الحلم قد تتبعثر جزئياتها في واقع يتباعد كثيراً عن الصورة / الحلم التي تزدهي في مخيلة الشاعر، لكنه لا يحفل بجزئيات الواقع أو تفاصيله، ولا يستدني صورته. ونستشف في قصيده بما يشبه صرخة روح جريحة ذبيحة، وما إرهاصاته عن "زينب" المستوحاة من رواية الدكتور محمد حسين هيكل إلا تعبير عن انكسارات الروح، وهذه مواجيد المتنبي يُدبِّج منها قصيدةً أكثر وضوحاً وتأطيراً، إذ امتثل لنداء قوي يصخب في جنبات نفسه بأن الشعر ليس ارتزاقاً، وإنما هو رسالة سامية تُعلي من قيمة الإنسان.
إلا أن مفردات الشاعر لا تنطلق في آفاقها الرحبة، وأشعر أن شيئاً ما يحدُّ من انطلاقها، أو أن الشاعر آثر إيجاز ما يريد أن يقول في أقل عدد من الكلمات بغية التركيز، وإن كان هذا المنحى يجني على التأثير في النفس. ولعله يستشعر ذلك بينه وبين نفسه، فيعبِّر عن ذاته المأزومة، ويتضرّر من "عدم البوح"!
ولو فجّر الشاعر ينابيع إبداعه دون نظر أو التفات إلى محاذير، وأطلق عروس الشعر من عقالها، لكان أفضل. لكنها النفس المأزومة. وقد يكون تكرار الشكوى من عدم البوح وكتمان المشاعر بمثابة شهادة إدانة لعصر ولّى أوعصر نعيشه، أو إدانة لحياة في مكان كالصقيع لبعده عن الوطن، إلا أن الحنين إلى الوطن غير ظاهر فيما يقول، ولعلها موتيفة "عدم البوح" وسحرها في نفسه، فلا يبين شكايته ولا يبث مواجعه. وهو يؤكّد صوته وذاتيته في قوله: "أنا الذي سهرْتُ في حدائقِ الكلامْ". وعندما يجتذبه الصوت الناعم يكتفي بالقول:
قلبي مأخوذٌ
والصوتُ المحْتبسُ بحلقي جمْرٌ
ويقول:
أُكابِدُ حقلَ الشَّوْكِ
وصدري مملوءٌ بالأسرارِ الحارقةِ
أبوحُ ،
وما بين الصوت المحتبس والبوح مسافة طويلة يقضيها صاحبنا في معاناة الكتمان، مسترسلاً في التعبير عن تجربته مع المرأة التي أخرجته من دائرة الصمت .. وعن الاخرين وردود أفعالهم:
قالوا ـ في الليلِ الفائتِ ـ :
جُنَّ ، فباحَ
فمقتولٌ في الصبحِ الآتي
بسكاكينِ النسوةِ ..
أوْ يُلقى في الويْلْ !
فهل البوح مرادف للجنون؟ ألهذا يؤثر الكتمان عن الإفاضة؟
وأكتُمُ بيْنَ الحنايا
.. تباريحَ قلبٍ
تولَّهَ في حُبِّهِ .. كيفَ شاءْ !
نحس في نبراته مرارة من مؤامرة الصمت ومن الجاحدين .. ويؤكد على مثالب الصمت، ويرى في البوح تعبيراً عن ذاتية الإنسان وأحاسيسه، وكلما واصلنا قراءة أشعاره انكشف لنا عُمقَ معاناته من الكتمان، وعجزه عن البوح!
لكنه حين يُخاطب مكة يستمد بوحه وشجاعة القول من ذلك الصوت الآتي من رُباها وجبالها، فمكة هي كعبة الإيمان، حيث يرافقه صوت الرسول الكريم  ، حتى في البلاد القصية. لكننا نقف حيارى أمام قوله يُخاطب ليلاه: "وأرسم في البوْح نهرك"، فالبوح قاصر على رسم صورة الحبيبة في مُخيِّلته. فهذا الرسم هو منتهى الأرب وأبلغ من كل كلمات تُقال. ويُحاور نفسه واصفاً الصوت المشاكس الغارق في الجب: "النار في جبهتي تتصاعدُ / تقبرُ بوحَكَ"، والنار هنا سببها الخشية من سيوف الاستبداد في كل زمان ومكان، يُخاطب الصوت المشاكس في محاولة لتشخيص المأساة: "أجهدَكَ القولُ / والكرُّ والفعلُ / والقولُ" .. دالا على كثرة الكلام التي تُميتُ القلب، وفي ظل هذه المأساة:
ضاعَ تحتَ الرّمادِ
حنينُ الشراعِ
وبوْحُ الغَرِدْ !
وتأمل قوله: "تسكنُ الأصواتُ حنجرةَ الفراغِ" .. يعقبه قوله: "تخثَّرتْ لغةُ النشيجِ" ، .. إننا ننقِّب ونُفتِّش عن إشكالية البوح والكتمان، لأنها تشكِّل ظاهرة لافتة للنظر في أشعار حسين علي محمد، ونضع يدنا على شغله الشاغل وقضيته الأكثر إلحاجاً، فقد يكون الصمت أقوى دلالة وأبلغ من الكلام، وقد يكون القول لغواً وهراءً، والصمت حكمة وبلاغة. ورب صورة للحبيب ترسم وشماً في القلب. يقول الشاعر: "دنوْتُ .. فأوقفَني / وصمدْتُ .. فأنطَقَني" .. أليس من الأفضل أن يقول: "وصمتُّ فأنطقني" ولنتجاوز هذه لنواصل اقتفاء أثر إشكالية البوح والكتمان، ومازلنا نقف عند الكثير من الدلالات يضمنها بعض مقاطعه الشعرية، يقول في مقطع منها:
كان العسكرُ يرتقبونَ الصَّيْحهْ
لكنَّ جحيمَكَ لمْ تُخرجْهُ الشفتانْ
امتدّتْ أسوارٌ منْ صخْرِ الأُلْفهْ
والخوفِ من الإفصاحِ
فجحيم المستبد يُفضي إلى الخوف من الإفصاح، بدلا من أن يُشعل ثورة، وهي مأساة يركّز عليها في قصائد كثيرة، وهي قضيته الملحة وشغله الشاغل، وهو القائل: "رجفة في اللقاءِ البعيدِ تُحاصرُ صوتَكَ" و"استضاءاتُ وجهِكَ في الماءِ / بوْحُ العصافيرِ" .. فالبوح لغة لكل معنى نبيل وشكل جميل، والقول لغة اللغو والثرثرة، وبين البوح والقول مسافة يفطن إليها الشاعر ويُجيد التعبير عنها، وهي من جماليات نصه الشعري، فالبوح مرادف لكل إحساس جميل ونبيل، والقول مرادف للسيطرة والهيمنة.
يُخاطب يثرب فيقول: "نبضك في القلب يُشعلُ بوحَ القناديلِ" .. ويخاطب زينب في قصيدة "حدائق الصوت": "في صوتك أتنشقُ عطْرَ الفجرِ" .. ويقول: "إني لاأعرفُ أنغامَ الملقِ، وإني أركضُ في دربٍ يتمدّدُ في آخرهِ سيفُ الصَّمْت" .. وحين تموت زينب، يتساءل في حسرة وأمل ممض:
“فكيفَ تجمَّدَ هذا المشهدُ في العيْنِ الفسفوريَّةِ
كيفَ يجفُّ على الشفتيْنِ الحرْفْ ؟"
.. ويخاطب الرسول الكريم  قائلاً:
أتيْتَ إلى الأرضِ ..
فانْتشتِ الأرضُ بالصادقينْ
رأتْكَ تُفَجِّرُ بركانَ بوحِكْ
وأنهارَ عِشْقِكْ
فغنَّتْ بصوتِكْ
معَ الثائرينْ !
وإن كان تكرار كلمة (الأرض) مخلا، حيث لا يُضفي على الصورة البلاغية بُعداً جديداً. لنتجاوز هذه ، ونقرأ قوله:
وفي عينكِ البوحُ
في لفظكِ الجرحُ
.. فالعين تبوح بسرها، بينما اللفظ / الكلمة ينطقها اللسانُ فتحدث جرحاً، أو قل إن اللسان قد يعجز عن ترجمة بوح العيون.
نكتفي في هذا المقال بما عرضناه من مقومات ومفردات اللغة الشعرية، وبيان إشكالية البوح والكتمان عند حسين علي محمد، من خلال ديوانه "حدائق الصوت"، وقد وقفنا عند تأزم الذات مرهفة الحس، مشتعلة الوجدان أمام الكلام المبتذل وسيله الجارف، وأمام استهلاك مفردات اللغة في التزييف ورفع الشعارات الجوفاء … ويتحسس الشاعر طريقه إلى مكة ويثرب، يستضيء بنورهما، وإن كان الصوت مخنوق العبرات، فالذات المأزومة تجاهد كي تكون صوتاً يرسم دائرة الوجد في حدائق الصوت الغنّاء.
فهل رسمنا مع الشاعر شيئاً، أم حاولنا أن نرسم؟
حسني سيد لبيب
.................................................. ..............
(5) حسني سيد لبيب: مقال «أضواء على قصيدة "نداء الموت" لبدر شاكر السياب»، مجلة «الخفجي» السعودية، فبراير 1989م، ص32 ، 33.
(6) حسني سيد لبيب: مقال «قراءة في أبجدية الموت»، مجلة «الفيصل» (السعودية)، أغسطس ـ سبتمبر 1996م، ص60،61.