نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

تُرَابُ النِّسْيَانِ
... فرأى في ما يرى النائم بحرا وأمواجا متلاطمة يجثم عليها ضباب كثيف، وكان أحد أصدقائه برفقته .. لا يذكر اسمه .. ولما أيقنا معا بالغرق، وأحسا باقتراب النهاية، علا الموج فرمى به وبصديقه إلى الشاطئ، وفوق الرمال وجد نفسه وحيدا دون صديقه بين أناس لا يعرفهم..
صار واقفا معهم، وأمامهم جثة إنسان يكرهه، لكنه لا يعرف من هو، وما هي إلا لحظة حتى انفض كل من كان حوله من الواقفين، وبقي منتصبا وحده أمام جثمان الميت، ولما ارتاب الناس في أمره حملوا الميت وتركوه قائما ...
من نومه اندفع مضطربا مفزوعا، وبنفس طويل وقع زفرة متعثرة، قذفت به إلى النافذة، حتى إذا بلغها وفك قيدها، انقض عليه صوت منكر ثقيل من خارج البيت وصفع أذنيه بعنف شديد.. ليست هذه هي المرة الأولى التي يصفع فيها، فقد صفع من قبل كثيرا بغير كف، بقدر ما عصفت بطفولته الأحزان منذ زمن ولى ورحل، وذهبت آثار صفعها له بنظارة وجهه الصغير، فطمست ملامح البراءة فيه ...
أما التجاعيد المترامية حول ثغره، فقد غزت ابتسامته والتهمتها دون رحمة ولا شفقة .. لقد حولتها من مجرد ابتسامة عادية إلى مخلوقة كئيبة لا توهم بعبورها وجلائها السريع، وهي اليوم قد رست في أعماقه وألقت بمرساتها، بعدما ظلت تبحر وتبحر إلى أن أعياها الإبحار ...
واليوم أصبح معظم الناس يوجسون منه خيفة، ويظنون به السوء متى عرض لأعينهم .. عنف الشيب برأسه، واستبدت التجاعيد بمحياه، وغدا ألف هم وغم يعبث بأنفاسه كل يوم وكل ليلة، وصار كل ما يراه في يقظته ومنامه مشاهد وأحلاما جريحة مشوهة، تلفه من رأسه حتى قدميه...
إنه يعيش اليوم وحيدا .. لا زوج ولا ولد، وذوي القربى بتروا اسمه منذ أن عرفوه من شجرة العائلة.. أذاقوه أصنافا من حنظل الحرمان.. أهالوا تراب النسيان على الأيام التي قضاها بينهم يتيما مغلوبا على أمره، ثم إن أحلامه المنامية على ما بدا له لا أول لها ولا آخر .. فقط قبل أيام خلت على منامته البحرية، رأى رأسه بين مشط ومقص الحلاق، عندها أخذ قبضة من شعره المتساقط، وصار ينظر إلى الشعيرات البيض المنثورة في سواده ...
أحكم الصمت قبضته على المكان لبرهة، وخيل إليه أن أحلامه معلقة هنا وهناك على الجدران، تنظر إليه في عناد وينظر إليها في شرود، وتنفخ في السكون من غموضها سيلا عارما من الأسئلة، تتحول بها دقات الساعة الرتيبة شبحا يرشح بالمجهول، وبرأس مطروق وصوت مكتوم شرع يحدث نفسه قائلا: أخشى أن يأتي يوم أمل فيه سرد أحلامي، وتمل فيه آذان غيري سماعها ...

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
aghanime@hotmail.com