الصهيونية فكرة سياسية
كان المفكرون الصهاينة قد اعتنقوا في خضم أفكارهم الآراء السياسية بشكل أو بآخر. لكن سرعان ما انتقلت هذه الفكرة الى بلورة مشروع واسع لتأسيس (كيان سياسي) خاص باليهود يستند على أسس تنظيمية وأيديولوجية.
ثيودور هرتزل ومشروع (الدولة اليهودية) :
يُعد هرتزل (1860ـ1904) أبرز اليهود الصهيونيين الذين ساهموا في وضع اللبنات الأولى لهذا المشروع وقدموا خدمة واسعة لنصرة الفكرة الصهيونية ثم تحويلها الى حركة سياسية. ولد (هرتزل) في بودابست/المجر لأبوين يهوديين موسرين. وقد عمل مراسلا لإحدى الصحف النمساوية الشهيرة. ولم يكن في البداية بالدين أو حتى فكرة الصهيونية، لكن بعد تدفق اليهود الشرقيين الى أوروبا الغربية في أواخر القرن التاسع عشر، وما رافق ذلك من احتقار دفين لهم من قبل الأوروبيين، انتبه للكيفية التي يمكن بها استغلال مهارات اليهود واستثمار الخدمات الاستخبارية التي يقدمها اليهود للغرب. فوضع أفكاره تلك بكتاب (الدولة اليهودية) الذي نشره عام 1895 فأثار جدلا واهتماما بين أوساط اليهود، حول اعتبار مشكلة اليهود ليست دينية ولا اجتماعية إنما هي مسألة قومية ولا يمكن حلها إلا بدولة خاصة بهم فوق رقعة معينة.
المؤتمر الصهيوني الأول في (بازل) آب/أغسطس 1897
لقد اصطف اليهود الشرقيون وراء (هرتزل) في مشروعه، واعتبروه منقذا لليهود، في حين لم يكن اليهود الغربيون بنفس حماس الشرقيين. مع ذلك دعا هرتزل حوالي 200 مندوب من مختلف يهود العالم الى (بازل/سويسرا) ليعقدوا أول مؤتمر لهم بين 29 و31/8/1897.
لقد تمخض هذا المؤتمر عن تحديد أهداف الحركة الصهيونية لما عرف ب (برنامج بازل) ثم تأسيس الأداة التنظيمية لتنفيذ هذا البرنامج وهي (المنظمة الصهيونية) برئاسة هرتزل نفسه. وتم الاتفاق على استعمار فلسطين بواسطة العمال الزراعيين والصناعيين اليهود ضمن أسس مناسبة. إضافة الى ربط يهود العالم بمنظمات يهودية محلية في كل بلد لترتبط في النهاية بالمنظمة الصهيونية.
مساعي هرتزل لتطبيق برنامج بازل
في نهاية المؤتمر الصهيوني الأول صرح هرتزل قائلا: (في بازل أسست الدولة اليهودية) .. وبعدها انصب نشاطه لتقوية المنظمات اليهودية. والاتصال بالسلطان (عبد الحميد الثاني) حيث عرض عليه بتسوية ديون الدولة العثمانية ومنحها القروض مقابل السماح لليهود بالاستيطان بالأراضي الفلسطينية، وقد رحبت الحكومة العثمانية بهذا العرض، شريطة تجنس اليهود بالجنسية العثمانية وعدم استيطانهم في مكان معين يعطيهم صفة الأكثرية.
ولما فشلت جهود هرتزل مع السلطان، حاول الاستعانة بقيصر ألمانيا (وليم الثاني) للتوسط والضغط على العثمانيين .. ثم اتصل هرتزل ب (جوزيف تشمبرلن) وزير المستعمرات البريطاني مقترحا عليه توطين اليهود في مكان قريب من فلسطين، قبرص، أو العريش، وبعد أن عارضت الحكومة المصرية هذا الاقتراح، اقترح وزير المستعمرات البريطاني على هرتزل (موزنبيق) أو (أوغندا) .
استغل هرتزل الاضطرابات في روسيا عام 1903 وطلب مساعدة منها أن تعمل على قبول العثمانيين لهجرة يهود روسيا الى فلسطين، فتم له ذلك واعتبر موقف روسيا صيدا ثمينا.
وفي الوقت الذي كانت فيه سيول المهاجرين تتدفق الى فلسطين، اقترح هرتزل على الحكومة العثمانية تأجيرهم (سنجق عكا) مقابل 100ألف ليرة تركية سنويا، إلا أن جهوده باءت بالفشل، ومات هرتزل عام 1904.
تصاعد النشاط الصهيوني (1904ـ 1914)
تخلت الحركة الصهيونية عن مشروعها في استعمار شرق إفريقيا، ذلك المشروع الذي أوجد انقساما حادا في صفوف الحركة، ووحدت جهودها وركزتها نحو فلسطين، وانتخبت في مؤتمر (بازل) السابع (دافيد ولفسون) خلفا لهرتزل والذي كرس جهده لإيجاد ميثاق دولي لمساعدة اليهود في احتلال فلسطين.
وخلال المؤتمر الصهيوني الثامن في (لاهاي) 14ـ21/8/1907 تقرر إقامة دائرة خاصة سميت (دائرة شؤون أرض إسرائيل). ثم جرت أبحاث حول إقامة تعاونيات في فلسطين. وكلف الدكتور (آرثر روبين) بالسفر الى فلسطين وتنظيم عمليات شراء الأراضي هناك. واتخذت الأراضي المشتراة صفة الأرض المقدسة التي لا يجوز بيعها إلا لليهود. وأنشئ في فلسطين بنك لتلك الغاية اسمه (شركة أنجلو ـ فلسطين).
بعد الانقلاب الذي قامت به (جمعية الاتحاد والترقي) في تركيا أواخر تموز/ يوليو 1908 استغل الصهاينة هذا الحدث، فعاودوا نشاطهم مع تركيا حيث أنشئوا مصرفا باستانبول واتخذوه ذريعة للقاء بالمسئولين الأتراك. وحاولوا انتزاع ما لم يستطيعوا انتزاعه من السلطان عبد الحميد، لكنهم باءوا بالفشل، وقد شددت الحكومة التركية التي كانت فلسطين تحت حكمها باسم (سوريا الجنوبية) على موضوع الهجرة، فمنعته بكل وسائلها، لكن الترهل الإداري والفساد المتفشي بين المسئولين لم يوقف الهجرة اليهودية الى فلسطين، كما أن القنصليات الأوروبية كانت تمنح اليهود تسهيلات وحماية كافية لمزاولة نشاطهم الصهيوني ..
يتبع