إبراهيم عوض فى حوار مع
أسامة الهتيمى لمجلة "التبيان"
حول الوضع الراهن فى غزة


* بعد مرور كل هذه الأيام على الحرب الصهيوينة الشرسة نريد منكم تقييم الموقف، وكيف استطاع الفلسطينيون الصمود أمام الصهانية حتى الآن؟

** الفلسيطنيون استطاعوا الصمود كل هذا الوقت لأنهم مؤمنون بربهم، مؤمنون بحقوقهم، مؤمنون بوطنهم، مؤمنون بأنهم قادرون على العمل، مؤمنون بأن التضحية واجبهم تجاه دينهم وبلادهم، مؤمنون بأن العمل وليس الكلام هو المطلوب منهم. وهم يفعلون ما هو مطلوب منهم وواجب عليهم. ولو أن أمة العروبة والإسلام، أمة الجعجعة والصراخ الكاذب، حذت حذوهم ما كان يحكمهم الآن أى ذليل جبان منخوب القلب على استعداد كامل مثلهم لبيع البلاد والعباد للأعداء، ولما تكالبت عليهم دول الصليب على بَكْرة أبيها تسومها سوء العذاب وتضربها بالقنابل النووية وتدمر بلادها وتسرق خيراتها وتكتم أفواهها بأحذيتها وتصادر حاضرها ومستقبلها ولا تترك لها إلا الضياع. إن الشعوب الكريمة هى التى تأبى الضيم والهوان والخنوع لجلاديها أو لمستعمريها. وشعوبنا، بارك الله فيها، على العكس من جميع الشعوب، تأبى إلا الهوان والخنوع وتحبهما بل تعشقهما عشقا جارفا، ومن ثم حقت عليها كلمة الله: الذلة والشقاء فى الدنيا، وفى الآخرة أيضا لأن الجنة لا يدخلها إلا الكرماء النبلاء، أما البكاشون فممنوعون من الاقتراب منها ولو على بعد سبعين خريفا "ضوئيا". لقد أرسل لى صديق بعض الصور لزعماء المقاومة وأولادهم، وهم بين قتيل وممزق الجسد، ومعها صور للخونة المنتسبين زورا وبهتانا للشعب الفلسطينى البطل المقدام، وهم يرفلون فى ثياب الصحة والمال والعار والشنار. وهذه الصور تلخص الموقف كله. فلا نامت أعين الجبناء! ولقد كتبت قبل ليلتين مقالا أؤكد فيه أن غزة قد تفوقت على ستالينجراد، التى فلقنا شيوعيونا الخائنون باتخاذهم إياها رمزا على الكرامة والصمود. وغزة، والحق يقال، تستحق هذا كله وأكثر من هذا كله، وبخاصة أنها تضرب أروع الأمثلة فى الشهامة والكرامة والتضحية والدفاع عن الإسلام وأمة الإسلام العديمة النخوة والتى لا تستحق هذا الشرف، غزة تضرب هذه الأمثلة الفريدة فى روعتها وعبقريتها فى ظل حصار مجرم خانق يشترك فيه القريب والبعيد.

· في الوقت الذي يحدث هذا في إخواننا بغزة يتحدث البعض عن تحميل حركة حماس المسئولية. ما مدي شرعية هذا الحديث؟

** ......................

** كيف نحمّل المسؤولية لناس يريدون أن يعيشوا فى بلادهم أحرارا كما تعيش سائر الشعوب الحرة؟ كيف أترك المجرم القاتل يصنع بضحيته ما يشاء دون أن أفتح فمى بكلمة، ثم إذا ما تحركت الضحية تريد أن تبعد يده عن عنقها حتى لا يقتلها خنقا نهبّ فنصرخ فيها أنْ: أبعدى يدك عن يده، ودعيه يخنقك؟ إن ناسا يقولون هذا لهم كلاب أنجاس مناكيد. ولكن ماذا نفعل، وها هى ذى أوضاع الأمة التى ننتسب إليها، وكلها أوضاعٌ عَجَبٌ تطيّر العقل من الرأس، وتدع الحليم حيران؟ الأمة كلها مسؤولة عما يجرى لا محيص لها عن ذلك مهما تظاهرت وأدانت وبكت ولطمت وولولوت كما تفعل عجائز النساء ممن لا حول لهن ولا طول. هذا كله نفاق لا ينطلى على التاريخ، والتاريخ لا يرحم. ولو كان شىء منه صحيحا لما كتب الله على تلك الأمة ما تتجرعه الآن من صغار وهوان وضياع وشقاء يحيط بها من كل جوانبها ولا يترك لها منفذا واحدا للنجاة، اللهم إلا أن تتحرك وتأخذ حقوقها بأيديها من جلاديها ومستعمريها وكل من يكبس أنفاسها ويكتم أفواهها ويسد أنوفها ولا يدعها تعيش عيشة البشر الكرام كبقية الأمم الحية، لا الميتة من أمثال أمتنا اللعينة.

* هل من اللائق التحدث الآن عن الوحدة الفلسطينية وإنهاء الخلاف بين فتح وحماس في حين تتواصل الحرب الصهيوينة؟

** ....................

* ما الدور المنوط بالشعب المسلم إزاء إخوانه في غزة في ظل الأوضاع السياسية الراهنة؟ وما هي آليات نصرتهم لإخوانهم؟

** الدور المنوط بالشعوب العربية والإسلامية فى المرحلة الآنيّة هو الضغط على حكوماتها وحكومات العالم للتدخل من أجل صالح الفلسطينيين وإيصال المساعدات لهم وعدم السكات على تخاذل الحكام الأوساخ مثل شعوبهم، وأنا دائما ما أشدد على ذلك حتى لا تظن الشعوب أنها أفضل من حكامها. لا يا أخى، إن الحكومات والشعوب مجبولون من طينة واحدة منتنة. ومع هذا فإذا أرادت الشعوب أن يصدقها الآخرون بأنها لا ذنب لها فيما يجرى فلتثبت "بعض" ذلك (بعض ذلك لا كله) من خلال ما قلته من الضغط المستمر على حكامها وعلى حكومات الدول الأخرى. وأرجو ألا تسألنى هذه الشعوب: "كيف"، فليس من المعقول أن تنتظر الشعوب التوجيهات دائما من الآخرين، لأن مثل هذا الانتظار ليس له إلا معنى واحد: أنها لن تفعل شيئا، وأنها عارية عن العقل والإرادة والفعل، لا تستطيع شيئا من تلقاء نفسها، وهو ما لا يبشر بخير أبدا. الشعوب الحية هى التى تعرف طريقها، فإذا انسد فى وجهها طريق فتحت بدلا منه ألف طريق وطريق. هذا على المستوى القريب، أما على المستوى البعيد فعليها أن تراجع كل حياتها، ولسوف تجد أن أوضاعها كلها تقريبا خطأ فى خطإ. ولنأخذ قطاع التعليم على سبيل المثال، فأنا بحكم عملى أزعم أننى أعرف شيئا مما يجرى فيه: فالطلاب لا يريدون أن يتعلموا، وهم لا يقرؤون شيئا، ولا يحبون أن يشغلوا عقولهم، ويظلون طول العام يزعجوننا بإلحاحهم علينا أن نحذف هذا وذاك من المقرر لأنه ثقيل ولأنهم لا يستطيعون قراءته ولا فهمه. وهم يؤجلون استذكار الدروس لآخر أسبوع من الفصل الدراسى، وعندئذ يذهبون إلى مكاتب التصوير القريبة من الجامعة فيشترون ملخصاتٍ ألّفها طلاب مثلهم فيحفظونها من غير فهم ولا تذوق ولا إحساس بجدواها، وكان الله يحب المحسنين. وانظر إلى الشوارع المحيطة بالجامعة تجد الزبالة الورقية فى كل مكان، تلك الزبالة التى يلقيها الطلاب غير مبالين لا بنظافة ولا بجمال، وتجد المجارى طافحة، وتجد الطلاب المارة متبلدين غير شاعرين بأن هناك شيئا اسمه الوقت الذى هو كالسيف إن لم تقطعه قطعك. ثم تعال بنا إلى داخل المحاضرات حيث لا يحضر معظم الطلاب دروسهم فى الوقت الذى تجد الآلاف المؤلفة منهم فى ساحة الجامعة على العشب وتحت الشجر يجرفون كل شىء ويلقون القمامة فى كل مكان ويحدثون من الضوضاء ما لا تتحمله أية أعصاب متحضرة ويلعبون الاستغماية و"صَلَّحْ" ويتراكلون علب الكوكاكولا الفارغة ويتشاتمون ويطبلون ويغنون بأصوات منكرة ويضربون البمب والصواريخ المزعجة، وكأنها الليلة الكبيرة فى مولد السيدة. فإذا عرّجْت على مكتبات الكليات فلن تجد فيها أحدا تقريبا، اللهم إلا بعض المساكين بل المخابيل الذين ما زالوا يعرفون أن هناك شيئا اسمه الكتاب والعلم والثقافة، وقليلٌ بل نادرٌ ما هم، وإلا بعض الذين يذهبون لنقل صفحات من هذا الكتاب أو ذاك يسمونه: "بحثا"، وما هو من البحث فى قليل أو كثير. والمضحك أنهم ينقلونه خطأ ودون فهم (أو "فِهْم" بكسر الفاء كما يقولون! ولله الأمر من قبل ومن بعد). أما سلوك من يحضر المحاضرات من الطلاب فقزقزة اللب وإلقاء قشره فى كل مكان لا يبالون بأستاذ ولا بفراش ولا بأية قيمة جمالية ولا صحية ولا حضارية، وشُرْب الكوكاكولا وأكل الشيبسى وترك صفائحها وأكياسها الفارغة على البنشات عينى عينك، وتناول الساندويتشات فى بعض الأحيان على مرأى ومسمع من الدكتور أثناء المحاضرة، وتدخين السجائر (حتى الآن قبل دخول الدكتور، وربنا يستر ولا يصل الحال إلى تدخينها خلال المحاضرة ذاتها)، والمشى بالحذاء على البنش متخطين رقاب زملائهم وأكتافهم ووجوههم، والمحاضرة شغالة، وكأننا فى زريبة. هذا هو الوضع، فهل تظن أننا يمكننا التفكير فى التغيير، ودعك من التفكير فى الانتصار، والوضع بهذه الصورة؟ وقس على ذلك حال الموظف وحال الصنايعى وحال الفلاح وحال الجندى وحال لاعب الكرة وحال الفنان وحال الأستاذ وحال المهندس وحال الطبيب وحال السائق وحال التاجر... ثم أخيرا وأولا وما بين ذلك: حال الحاكم. ترى هل يصح بعد هذا أن نلوم الحاكم وحده؟ لا أظن ذلك من العدل فى شىء، رغم أن الحاكم العربى والحاكم الإسلامى بوجه عام من أوسخ الحكام، بل أوسخهم بإطلاق. ولكن لا ينبغى أن ننسى أن الشعوب العربية والإسلامية هى أوسخ الشعوب أيضا، ولن يتغير حكامها إلا إذا هبت وتحركت وأصلحت أمورها وضغطت على أولئك الحكام ونجحت فى أن تفرض كلمتها عليهم: بدءا من انتخابها لهم بنفسها، وانتهاء بإسقاطها لهم كلما رأت أنهم لا يخدمونها كما ينبغى. هذا هو الطريق، ولا طريق غيره، وإلا فدلنى أنت على طريق آخر.


* الموقف العربي الرسمي لم يتعد الشجب والإدانة عند البعض وتحميل حماس المسئولية عند آخرين كيف يمكن تفعيل هذا الموقف؟

** .....................

* يرى البعض أن المعابر قضية أمن قومي ولا يمكن فتحها حفظا على هذا الأمن. نريد تقييما شرعيا لهذا الموقف.

** وهل لا بد أن يكون التقييم شرعيا؟ يا عم أسامة أنا لست فقيها. أنا رجل مسكين على قد حالى. ربما أستطيع أن أقول كلمتين لا راحتا ولا جاءتا، أما أن تطالبنى بتقويم (أو تقييم) شرعى فعليك بالشيخ الأزعر القصير المكير الذى يتكلم وهو نائم على روحه، لكنه كالثعلب يرى كل شىء من خلف جفونه النعسانة الساقطة، والذى لا يعرف إلا لغة الضرب بالحذاء والسباب لأهل الفكر، وإلا لغة الجبن والهلع أمام سادته الذين التقطوه وشَرَوْه بثمن بخس ملايين معدودة وكانوا له من المحتقرين، والذى لا يعرف أين غزة ولا ما يحدث فى غزة، ولتذهب غزة فى مليون مصيبة تأخذه وتأخذ أمثاله. وما دام الأمر كذلك وقصدتنى ولم تقصده هو فإنى أتوكل على الله وأقول: فلنفترض أننا نحن وأهل غزة جميعا غير مسلمين بل غير مؤمنين بأى دين، وأننا وإياهم قوم من الكافرين الذاهبين إلى الجحيم، وبئس المصير، أفلا يجب علينا رغم ذلك كله أن نهب لنجدة ناس فى مثل ظروفهم؟ يا أخى، لقد فعلها طائفة من الكفار الرجال (الرجال! أتفهم؟) مع المسلمين فى عهد سيدنا النبى عليه الصلاة والسلام، وتمردوا على رفقاء الكفر من أمثالهم وكسروا الحصار الذى كان وثنيو قريش يفرضونه عليهم فى شِعْب أبى طالب. فكيف لا نفعلها نحن، لعنة الله علينا وعلى كل من يكذبون فى فجور قائلين إنهم لا يستطيعون؟ وماذا بقى لنا من رجولة وكرامة ونخوة؟ وأين الشعوب التى ترى هذا وتقول إنها تستنكره وتتظاهر بعد فوات الأوان تعبيرا عن رفضها له؟ إنها تذكّرنى بفريق الكرة الذى يظل طول المباراة متخاذلا منزرعا فى مكانه لا يريد أن يتحرك فتدخل الأهداف هدفا وراء هدف فى مرماه، حتى إذا انتهت المباراة وأعلن الحكم عن خمس دقائق بدل الوقت الضائع وجدنا أفراد الفريق ينشطون ويجرون ويُزَرْبِحون كالمعيز والجديان يوهمون المتفرجين أنهم سوف يصلحون ما أفسدته التسعون دقيقة التى كانت كلها كسلا وانبطاحا. ارجع إلى ما قلته عن أحوال طلاب الجامعة طوال العام وما يصنعونه قبل الامتحان بأسبوع تفهم ما أريد أن أقول. ولا عزاء للجبناء الخانعين المتبلدين المتخلفين المستزيدين من جبنهم وخنوعهم وتبلدهم وتخلفهم.